عناصر الخطبة
1/من صفات المؤمنين التعاون على البر والتقوى 2/بيان معنى التقوى وحقيقة البر 3/من أسباب قبول العمل الصالح 4/وجوب تربية النفس وتعويدها على العمل الصالح من الصغراقتباس
إنَّ حقيقةَ البِرِّ -يا عبادَ اللهِ- أنَّه الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه والخير؛ فالبر كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابله الإثم؛ وهي كلمة جامعة للشرور والعيب، التي يذم العبد عليها، فيدخل في مُسمَّى البر الإيمانُ وأجزاؤه الظاهرة والباطنة...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الملك القُدُّوس السلام، أحمده -سبحانه- على نعمه العظام وآلائه الجسام، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أمر عباده بالتعاون على البر والتقوى، وهيَّأ لهم سُبُلَ السعادة وبلوغ المرام، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، وخِيرتُه من خلقه، سيد الأنام، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه، صلاةً وسلامًا دائمين ما تعاقبت الليالي والأيام.
أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فإن التقوى سبيل الأيقاظ، ونهج أولي النهى، وطريق أولي الأبصار؛ فبها الأمن من العثار، والفوز بالجنة والنجاة من النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].
أيها المسلمون: آية من كتاب الله -تعالى- اشتملت على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، وفيما بينَهم وبينَ ربِّهم؛ فهي جديرة بإدامة النظر في معانيها، وفَهْم مراميها، وكمال الحرص على العمل بما جاء فيها؛ إنها قوله عز اسمه: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الْمَائِدَةِ: 2]، فإن كل عبد -كما قال ابن القيم -رحمه الله- لا ينفك عن هاتين الحالتين، وهذين الواجبين، وهما: واجب بينه وبين الله، وواجب بينه وبين الخلق.
عبادَ اللهِ: أمَّا الواجب الذي ما بين العبد وبين الخَلْق من المعاشَرة والمعاوَنة، والصحبة؛ فأن يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونًا على مرضاة الله، وطاعته، التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه، ولا سعادة له إلا بها، وهي البر والتقوى، اللذان هما جماع الدين كله.
وإنَّ حقيقةَ البِرِّ -يا عبادَ اللهِ- أنَّه الكمال المطلوب من الشيء، والمنافع التي فيه والخير؛ فالبر كلمة جامعة لجميع أنواع الخير والكمال المطلوب من العبد، وفي مقابله الإثم؛ وهي كلمة جامعة للشرور والعيب، التي يذم العبد عليها، فيدخل في مُسمَّى البر الإيمانُ وأجزاؤه الظاهرة والباطنة.
ولا ريب أن التقوى جزء هذا المعنى، وأكثر ما يعبر به عن بر القلب، وهو وجود طعم الإيمان فيه وحلاوته، وما يلزم من ذلك من طمأنينته وسلامته وانشراحه، وقوته وفرحه بالإيمان؛ فإن للإيمان لذة وفرحة في القلب، فمن لم يجدها فهو فاقد الإيمان أو ناقصه، وقد جمع الله خصال البر في قوله -تعالى-: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[الْبَقَرَةِ: 177]، فأخبر -سبحانه- أن البر هو الإيمان بالله وملائكته، وكتبه ورسله واليوم الآخِر، وهذه هي أصول الإيمان الخمسة، التي لا قيام للإيمان إلا بها، وأنَّه الشرائع الظاهرة؛ من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنفقات الواجبة، وأنَّه الأعمال القلبية التي هي حقائقه؛ من الصبر والوفاء بالعهد، فتناولت هذه الخصال جميع أقسام الدين، ثم أخبر -سبحانه- أنَّها هي خصال التقوى بعينها.
عبادَ اللهِ: إنَّ حقيقةَ التقوى العمل بطاعة الله؛ إيمانًا واحتسابًا، أمرًا ونهيًا، فهي تَحمِل العبدَ على أن يفعل ما أمَر اللهُ به، إيمانًا بالأمر، وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنها إيمانًا بالنهي، وخوفًا من وعيده، كما قال طلق بن حبيب: "إذا وقعت الفتنة فأطفِئوها بالتقوى. قالوا: وما التقوى؟ قال: أن تعمل بالطاعة على نور من الله، ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله، على نور من الله، تخاف عقابَ الله"، وهذا من أحسن ما قيل في تعريف التقوى وبيان حقيقتها.
وإن كل عمل -يا عباد الله- لا بد له من مبدأ وغاية؛ فلا يكون العمل طاعة وقربى حتى يكون مصدره عن الإيمان، فيكون الباعث عليه الإيمان المحض، وليس العادة ولا الهوى، ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك، بل لا بد أن يكون مبدؤه محض الإيمان، وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته -سبحانه-؛ ولهذا فالمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم هو التعاون على البر والتقوى؛ فيعين كل واحد صاحبه على ذلك، علمًا وعملًا، فإن العبد وحدَه لا يستقلُّ بعلم ذلك ولا بالقدرة عليه؛ فاقتضت حكمةُ الله -تعالى- أن جعل النوع الإنسانيّ قائمًا بعضه ببعض، معينًا بعضه لبعض.
ثم قال -تعالى-: (وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ)[الْمَائِدَةِ: 2]، والإثم والعدوان في جانب النهي نظير البر والتقوى، في جانب الأمر، والإثم هو ما كان جنسه محرَّمًا، والعدوان ما حُرم لزيادة في مقداره، وهو تعدِّي حدود الله التي قال فيها: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 229]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا)[الْبَقَرَةِ: 187]، فنهى عن تعدِّيها وعن قربانها؛ لأن حدوده -سبحانه- هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام، ومنه التعدي على الأنفس والأموال والأعراض، فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس، وهو أن تكون مخالطته لهم تعاونًا على البر والتقوى، علمًا وعملًا.
وأما حال العبد فيما بينَه وبينَ اللهِ -تعالى- فهو توحيده -سبحانه-، وإيثار طاعته، وتجنُّب معصيته، وهو قوله -تعالى-: (وَاتَّقُوا اللَّهَ)[الْمَائِدَةِ: 2]، وهو إرشاد إلى ذِكْر الواجب للعبد بينَه وبينَ الخَلْق، وإلى واجبه بينَه وبينَ الخالق -سبحانه-، واللبيب -يا عباد الله- مَنْ قام بهذين الواجبين أتمَّ قيامٍ، ورعى حقَّهما أتمَّ رعاية؛ لتكمل له أسبابُ السعادة في الحياة الدنيا، ويحظى بالرضوان ونزول رفيع الجنان في الآخرة.
نفعني الله وإيَّاكم بهدي كتابه، وسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
إنَّ الحمدَ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَنْ يَهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومَنْ يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِكَ ورسولِكَ محمد، وعلى آله وصحبه.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إنَّ مِنْ أظهرِ المُعيناتِ للتعاون على البر والتقوى تربية النفس وتعويدها على هذا الخُلُق، لاسيما في مراحل النشأة الأولى داخل الأسرة؛ بأن ينشأ أفرادها على أساس متين من التعاون على الخير والبِرّ فيما بينَهم، ويبين لهم ضرورتَه ولزومَه وجميلَ آثاره، وحُسْن العاقبة فيه، ثم تتسع الدائرة لتعمَّ ذوي القربى والجيران ببذل الحقوق، وأداء الواجبات المفروضة من صلة وإحسان وتآزُر وتراحُم، تمتدُّ حلقاتُه فتشمل المجتمعَ المسلمَ كلَّه؛ ذلك المجتمع الذي وصف واقعه رسول الْهُدَى -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عَضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(أخرجه الشيخان في صحيحيها).
فاتقوا الله -عباد الله-، واعملوا على القيام بما أمرتم به، من تعاون على البر والتقوى، وما نهيتم عنه من تعاون على الإثم والعدوان؛ استجابة لأمر ربكم الذي فيه نفعكم واستقامة أحوالكم، وطيب عيشكم، وحسن مآلكم.
واذكروا على الدوام أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خاتم النبيين، وإمام المتقين، ورحمة الله للعالمين، فقال -سبحانه- في الكتاب المبين: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنَّكَ حميدٌ مجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، وعن أزواجه أمهات المؤمنين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا خير من تجاوز وعفا.
اللهمَّ أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدينِ يا ربَّ العالمينَ، وألِّف بينَ قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتَهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا رب العالمينَ.
اللهمَّ انصر دينك وكتابك وسُنَّةَ نبيكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنينَ الصادقينَ، اللهمَّ آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهمَّ وفِّقه ووليَّ عهدِه إلى كل خير عاجل أو آجل، للبلاد والعباد يا رب السماوات والأرض.
اللهمَّ احفظ هذه البلاد حائزةً كلَّ خير، سالمةً من كل شر، وكافَّة بلاد المسلمين، اللهمَّ حرر المسجد الأقصى، اللهمَّ احفظ المسلمين في كافَّة فلسطين، اللهمَّ احفظهم من بين أيديهم، ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ونعوذ بعظمتك أن يغتالوا من تحتهم، اللهمَّ أطعم جائعهم، واشف جرحاهم، ومرضاهم، واكتب أجر الشهادة لقتلاهم، اللهمَّ انصرهم على عدوك وعدوهم يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهمَّ إنَّا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.
اللهمَّ آتِ نفوسَنا تقواها، وزَكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، اللهمَّ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثِرْنا ولا تُؤثِرْ علينا، اللهمَّ أَحْسِنْ عاقبتَنا في الأمور كلها، وأَجِرْنا من خزيِ الدنيا وعذابِ الآخرةِ.
اللهمَّ إنَّا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكَرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبضنا إليكَ غيرَ مفتونينَ.
اللهمَّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلِحْ لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأَصلِحْ لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر، اللهمَّ اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئتَ يا ربَّ العالمينَ، اللهمَّ اكفناهم بما شئتَ، اللهمَّ إنَّا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهمَّ اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغْنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِمْ بالباقيات الصالحات أعمالَنا.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلِّ اللهمَّ وسلِّمْ على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعينَ، والحمد لله رب العالمين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم