من فضائل الدعاء وآدابه

الشيخ ياسر الدوسري

2025-05-16 - 1446/11/18 2025-05-18 - 1446/11/20
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الدنيا دار ابتلاء واختبار 2/أثر الإيمان والتوحيد في الرضا بأقدار الله تعالى 3/بعض فضائل الدعاء وآثاره الطيبة 4/من آداب الدعاء وبعض موانع استجابته

اقتباس

الدعاء من أعظم أسباب التوفيق والنجاح؛ فبه تتنزَّل الرحمات، وتُوهَب الخيراتُ، وبه تُرفع المصائبُ والعقوباتُ، وتُدفع النوائب والكُربات، فكم من نعمة به مُنِحت، وكم من بلية به رُفِعت، وكم من خطيئة به غُفرت...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، الحمد لله سميع الدعاء، واسع الفضل والعطاء، مُسبِغ النعم والآلاء، وكاشف السوء والبلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، ذو العزة والكبرياء، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوث بالحنيفية السمحاء؛ صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه الأصفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الجزاء.

 

أما بعد: فأوصيكم -أيها الناسُ ونفسي- بتقوى الله؛ فهي الزاد المأمول، ومفتاح القَبول، وطريق الوصول، وبها تعمُّ البركات، وتُدفعُ الآفات، وتُستجابُ الدعوات، قال ربُّ البريات: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)[الأعراف:96].

 

معاشرَ المسلمينَ: إن من سنن الله -تعالى- أنْ جعل الدنيا دار ابتلاء واختبار، وطُبعت على الأقذاء والأكدار، وقَلَّ ما يَسْلمُ المرء فيها من الأخطار؛ كُروبٌ ورزايا وهمومٌ وبلايا وآجالٌ تسيرُ بالناس إلى المنايا.

 

ولكن متى ما امتلأ قلبُ العبد توحيدًا لله وإيمانًا به عَرَفَ ملجأه ودواءَه ومَفزَعَه وشفاءَه، وتَوجَّه إلى الله بالدعاء الذي جعله الله عبادةً من أفضل العبادات وقُربةً من أَجل القربات، فأمر به عباده ووعدهم بالإجابة، قال -سبحانه-: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[غافر:60]، وقال: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[البقرة:186]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الدعاء هو العبادة"(رواه أحمد).

 

فسمَّى الدعاءَ عبادةً؛ لأنَّه يتضمَّن توحيد الله وإفراده بالعبادة، وكان للأنبياء -عليهم السلام- من هذه العبادة الحظُّ الأعلى والنصيبُ الأوفى، قال -جل وعلا-: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ في الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الأنبياء:90]، وسار على نهجهم واقتفى أثرَهم أصفياء الله؛ فرفعوا إليه أكف الفاقة والافتقار، وطرقوا بابه في خضوع وانكسار يسألونه الفوز والفلاح في الدنيا وفي دار القرار.

 

أيها المؤمنون: الدعاء سلوة المناجين، وأمان الخائفين، وملاذ المضطرين؛ فهو حبل ممدود بين الأرض والسماء، وهو المغنم بلا عناء، وأعجز الناس من عجز عن الدعاء كما أخبر بذلك خاتم الأنبياء -عليه الصلاة والسلام-.

 

والدعاء من أعظم أسباب التوفيق والنجاح؛ فبه تتنزَّل الرحمات، وتُوهَب الخيراتُ، وبه تُرفع المصائبُ والعقوباتُ، وتُدفع النوائب والكُربات، فكم من نعمة به مُنِحت، وكم من بلية به رُفِعت، وكم من خطيئة به غُفرت.

 

فما استُجلبت النِّعم ولا استُدفعت النقم بمثل الدعاء؛ فنوح -عليه السلام- دعا على من أعرضوا عن دعوته وأصروا واستكبروا استكبارًا، فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)[نوح:26] فأجاب الله دعوته، فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.

 

ودعا إبراهيمُ -عليه السلام- لمكة فقال: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا)[إبراهيم:35]، فجعلها الله مثابة للناس وأمنًا، ولَمَّا التقم الحوت يونس -عليه السلام-: (فَنَادَى في الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء:87]؛ فنجاه الله من الغم، وكذلك ينجي الله المؤمنين.

 

ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومَ بدر فمدَّ يديه وجعل يهتف بربه: "اللهمَّ أنجز لي ما وعدتني، اللهمَّ أنجز لي ما وعدتني"، فأمدَّه اللهُ بملائكته ونصره على أعدائه؛ فالدعاء سلاح أهل اليقين، ومِجَنُّ ذوي التمكين، وهو أنيس المؤمن في السراء، وسلوته في الشدة والضراء، فلا يرد القضاء إلا الدعاء.

 

إخوة الإيمان: الدعاء سبب لانشراح الصدر، وطمأنينة القلب، وحُسن الظن بالله، وانتظار الفرج منه دونما سواه، فمن أراق ماء وجهه لغير الله؛ ذَل وخاب. ومن رفع شكواه إلى الله؛ كان حريًّا بالإجابة والثواب؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَزَلَتْ به فاقةٌ فأنزَلَها بالناس لم تُسدَّ فاقتُه، ومَنْ نَزَلَتْ به فاقةٌ فأنزلها بالله فيُوشِكُ اللهُ له برزقٍ عاجلٍ أو آجِلٍ"(رواه الترمذي).

 

والدعاء ثمرته مضمونة وعاقبته محمودة، فعن أبي سعيد -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إمَّا أن تُعجل له دعوته، وإمَّا أن يدخرها له في الآخرة، وإمَّا أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إِذَنْ نُكثر، قال: الله أكثر"(رواه أحمد).

 

فاسألوا اللهَ حاجاتِكم كلَّها، صغيرَها وكبيرَها، قليلَها وكثيرَها، عاجلَها وآجلَها؛ فإن الأمر كله بيده، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قال -تعالى-: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ)[يونس:107]، وقالت أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ -رضي الله عنها-: "سلوا الله كل شيء حتى الشِّسْع؛ فإن الله إن لم يُيسره لم يتيسر"(رواه أبو يعلى).

 

عبادَ اللهِ: بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم وسُنَّة الرسول الكريم، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والذِّكْر الحكيم. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، الحمد لله الملك الوهَّاب، الذي شرع لنا أكمل الشرائع وأحسن الآداب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له الرحيم التواب، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الذي أُنزل عليه الكتاب تبصرةً وذكرى لأولي الألباب. صلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله والأصحاب، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الحشر والمآب.

 

أما بعد، أيها المسلمون: إن للدعاء آدابًا مَرعيةً يحسُن التزامُها، وله موانع شرعية ينبغي اجتنابُها؛ تأدُّبًا من العبد مع ربه، وتقرُّبًا لإجابه دعاءه وطلبه:

أولها: إخلاص الدعاء لله -تعالى-؛ فالدعاء هو العبادة، والعبادة لا تُصرف إلا لله وحده.

 

ثانيها: متابعةُ سُنَّة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فمن هَديه -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء: أنَّه كان يبدأ بالثناء على الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ امتثالًا لقول الله -تعالى-: (وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بها)[الأعراف:180]، ثم يشفع ذلك بالصلاة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويدعو بجوامع الكلم.

 

ومن آداب الدعاء أيضًا: التطهر في هيئة حسنة، ثم استقبال القبلة رافعًا يديه لله -سبحانه-، محسنًا الظن به، مفتقرًا إليه، خاضعًا بين يديه، جازمًا في مسألته، مُلِّحًا في طلبه. فمتى ما صادف الدعاء خشوعًا في القلب وانكسارًا بين يدي الرب؛ كان الدعاء أحرى بالإجابة.

 

وينبغي للعبد تَحرِّي أوقات الإجابة واغتنامها؛ كالثلث الأخير من الليل، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود، وإن من خير مواطن الإجابة: يوم عرفة، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له المُلكُ وله الحمدُ وهو على كل شيء قدير"(رواه الترمذي).

 

واعلموا -رحمكم الله- أن الله -جل وعلا- يستجيب للعبد دعاءه ما لم يَعجل، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجل، يقول: دعوتُ فلم يُستجب لي"(مُتفَق عليه).

 

إخوة الإيمان: ومن موانع إجابة الدعاء: أكل الحرام، وأن يدعو العبد وقلبه غافل، وليحذر المرء من الاعتداء في الدعاء؛ كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم"(رواه مسلم).

 

فيا من تكالبت عليه الهموم والغموم، وضاقت عليه الأرض بما رحُبت، ويا من أرهقته الأمراض وأغرقته الديون، ويا من أثقلته المعاصي والذنوب؛ الزم الدعاء، فعند الله الفرج ولا يهلك مع الدعاء أحد، ولا يخيب مَنْ لله رجا وقصد.

 

وها قد أقبلت علينا أيام الحج -يا عبادَ اللهِ- وهي من أعظم مواسم الطاعات وأرجى أوقات إجابة الدعوات؛ فاغتنِموها برفع الأكف، وسكب العَبَرات رجاء القَبول وقضاء الحاجات، وغفران الذنوب وتكفير السيئات.

 

ومَنْ نوى الحجَّ وقصَد البيت الحرام؛ فليأتِ البيوت من أبوابها، وليؤدِّ الفريضة على وجهها، وليتأدب بآداب الشريعة، وليلتزم بأنظمة هذه الدولة الرشيدة، ومن ذلك ما أكدت عليه الجهات المَعنية: من اشتراط الحصول على تصريح الحج؛ مراعاةً للمصالح الشرعيَّة.

 

فالحجُّ عبادةٌ جليلةٌ مبناها على التيسير ورفع الحرج، وقد جاءت الشريعة بجلب المصالح وتكثيرها، ودرء المفاسد وتقليلها، ولا يتم ذلك بالفوضى ولا بمخالفة ولاة الأمر.

 

فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يُطِع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصي الأمير فقد عصاني"(رواه البخاري ومسلم).

 

فاللهمَّ بارِكْ في هذه الدولة المبارَكة التي لم تدخر جهدًا في التخطيط والبناء والتنظيم والعطاء؛ فوفرت منظومة متكاملة من الخِدمات والتسهيلات، وهيَّأت كل السُّبُل لتيسير وصول ضيوف الرحمن واستقبالهم بكل حفاوة وإكرام؛ لينعموا بأداء مناسكهم بكل يسر وسكينة واطمئنان، فاكتب اللهمَّ لولاة أمرنا الأجر الجزيل والثواب الجليل، ولكل من شرَّفهم الله بالعمل في هذا المَيْدان النبيل.

 

عباد الله: هذا وصلوا وسَلِّموا على الهادي البشير والسراج المنير، كما أمركم بذلك السميع البصير، فقال: (وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)[الملك:14].

 

(إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا"(رواه مسلم).

 

فاللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك على الرسول الأمين، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.

 

اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وانصُرْ عبادَكَ الموحِّدينَ، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا رخاءً وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ آمنّا في أوطاننا، اللهمَّ آمنّا في أوطاننا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا؛ خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، ووفقهم لكل ما تحب وترضى، واجزهم عَنَّا وعن البلاد والعباد وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

 

اللهمَّ احفظ وانصر رجال أمننا وجنودنا على ثغورنا، وكن لهم عونًا ونصيرًا ومؤيدًا وظهيرًا، اللهمَّ وفِّق ولاة أمور المسلمين لهُداك، واجعل عملهم في رضاك.

 

اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، اللهمَّ فَرِّجْ همَّ المهمومينَ، ونفِّس كرب المكروبين واقضِ الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، وارحم اللهمَّ موتانا وموتى المسلمين.

 

اللهمَّ انصر المستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهمَّ انصر المستضعَفين من المسلمين في كل مكان وفي فلسطين، اللهمَّ انصرهم في فلسطين، اللهمَّ انصرهم في فلسطين، واجعل لهم من كل همٍ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية.

 

اللهمَّ اشف جرحاهم واحقن دماءهم، واربط على قلوبهم، اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدين.

 

ربنا تقبل منا إنك أنت السمع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

 

سبحان ربك رب العزة عمَّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين

 

 

المرفقات

من فضائل الدعاء وآدابه.doc

من فضائل الدعاء وآدابه.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات