نعمتا الأمن والطعام ومواساة أهل فلسطين

عبدالباري بن عواض الثبيتي

2025-08-08 - 1447/02/14 2025-08-09 - 1447/02/15
عناصر الخطبة
1/فوائد وعظات من سورة قريش 2/نعمتا الطعام والأمن من أعظم النعم 3/شكر النعم مؤذن بزيادتها ودوامها 4/مواساة أهل فلسطين في محنتهم العظيمة 5/الحث على لزوم الدعاء الصادق والنية الخالصة

اقتباس

مِنْ تمامِ الشكرِ أن تُطاع النعمةُ، لا أن تُنسى، وأن يُصانَ الفضلُ، لا أن يُغفَلَ، فالشكر الحقيقيّ لا يُختزَل في كلمات، بل يبدأ من إقرار في القلب، ويَتجلَّى في نُطق صادق باللسان، ويُترجَم إلى عمل صالح بالجوارح، فهو صاحب الفضل -سبحانه-...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، وكل خير وعطاء وهداية فبفضل منه، أحمده -سبحانه- وأشكره، فما بنا من نعمة إلا وهي منه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، خلقنا ورزقنا وهدانا، وما توفيقنا إلا منه، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا، ورحمة للعالمين منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فنالوا الرضا والقَبول منه.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -تبارك وتعالى-؛ فإن أصدق الوصايا وأعظمها أثرًا وأزكاها نفعًا وصية التقوى، أوصي بها نفسي وإيَّاكم؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102].

 

في قلب قصار السور تُشرِق علينا سورةُ قريشٍ بندائها الخالد، ووقعها العميق على الروح، كلمات معدودة، تحيي النفس، وتوقظ فينا مشاعر الشكر والحياء؛ (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قُرَيْشٍ: 1-4]، آيات تلهم القلب، وتفتح بصيرته على معنيين عظيمين؛ رزق الطعام بعد الجوع، ومنح الأمان بعد الخوف، وهما بلا شك دعامتان أساسيتان للحياة الكريمة، من ظفر بهما فقد حاز من الدنيا كنزين لا يقدران بثمن، نعمة (أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ)[قُرَيْشٍ: 4]، الطعام في زمن الجوع ليس مجرد عذاء، بل هو حياة توهب، ورغيف يقيم صلبًا، وقطرة ماء تنعش روحًا، ودفء يكسو برد الحاجة، وكرامة ترمم كسور الفقر، أما حين يحرم الإنسان من ذلك فلا تجوع معدته، بل تجوع كرامته وتذبل إنسانيته، نعمة (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قُرَيْشٍ: 4]، هي السَّكِينةُ التي تغمر الحياة، وطمأنينة الليل التي تهنأ معها النفس، وراحة الأطفال في أحضان الأمهات، والشعور بأن الغد قادم، لا يحمل الرعب، يبيت المرء فلا خوف يزعجه، ويصحو فلا هم يقلقه، الأمان نعمة لا يحس بها مَنْ يَملِكُها، إلا حين يراها مفقودة عند غيره، والخوف حين يستوطن أرضًا يغتال النوم، وتفقد الطمأنينة ويصبح النهار جحيمًا، والليل كابوسًا مستمرًّا.

 

سِرُّ السعادةِ الحقيقيُّ ومصدرُ الهناءِ الدائمُ، وراحةُ البال التي لا تُشترى، وأجلُّ ما يُرزَق به الإنسانُ من النِّعم لفتةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله البليغ: "مَنْ أصبَح منكم آمِنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنه، عندَه قوتُ يومِه، فكأنما حِيزَتْ له الدنيا"، ثلاثُ نِعَم إذا اجتمعت للإنسان أغنَتْه عن الشكوى، وكفَتْه عن التطلُّع لِمَا في أيدي الناس؛ أمان يطمئن قلبه، وصحة تعينه على الحياة، وقوت يسد حاجته؛ ولذلك قال -تعالى-: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)[قُرَيْشٍ: 3-4]، في هذه الآية دعوة رقيقة وحازمة، للتوجُّه بالعبادة والخضوع لمن بيده كل شيء؛ لله وحده، الذي لا تأتي النعم إلا من خزائنه، ولا يرفع الخوف إلا برحمته، فالذي أطعم قريشًا بعد جوع، وساق إليهم الرزق من كل صوب هو الله، وهو الذي آمنهم من خوف، وهيأ لهم أسباب الأمان والاستقرار، وحصنهم بحرمة البيت الحرام.

 

لم تكن هذه النعم نتاج قوتهم، ولا ثمرة تدبيرهم، بل فضل خالص من الله، ونعمة تستوجب الحمد والشكر.

 

لقد كانت الجزيرة قبل الإسلام تعيش في فقر مدقع، وخوف دائم، حياتهم تقلبهم الحاجة، وتحاصرهم الغارات، وترهبهم الصراعات، وحين جاء الإسلام تبدلت أحوالهم، من شتات إلى وحدة، ومن جوع إلى وفرة، ومن خوف إلى أمن، ومن جزيرة منسية إلى أمة أقامت حضارة امتد نورها شرقًا وغربًا، ولم يكن ذلك التحول إلا بفضل الله وهدايته، ونعمته التي نزلت عليهم من حيث لا يحتسبون، ومن هنا جاء نداء السورة واضحًا: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ)[قُرَيْشٍ: 3]؛ لأنَّه هو وحده من أطعم وآمن وأكرم وهدى، فمن أنعم الله عليه، وأطعمه من جوع، وآمنه من خوف فقد نال أعظم أسباب العيش الرغيد، والاستقرار النفسيّ؛ ولذا عليه أن يستحضر عظم هذه النعمة، وأن يقابلها بشكر دائم، وسلوك يحفظها ويصونها.

 

ومِنْ تمامِ الشكرِ أن تُطاع النعمةُ، لا أن تُنسى، وأن يُصانَ الفضلُ، لا أن يُغفَلَ، فالشكر الحقيقيّ لا يُختزَل في كلمات، بل يبدأ من إقرار في القلب، ويَتجلَّى في نُطق صادق باللسان، ويُترجَم إلى عمل صالح بالجوارح، فهو صاحب الفضل -سبحانه-.

 

ومن الشكر أن يطاع الله في النعمة، لا أن يعصى بها، وأن نسأله دوامها، لا أن يركن إليها، ومن عرف قدر نعمة الإطعام من جوع، والأمن من خوف، وشعر بحال من حرم منها، وتألم لألم من لا يجد قوتا، ولا يهنأ بأمن، وفي هذا السياق لا يسعنا إلا أن نستحضر بقلوب دامعة، حال أهلنا في فلسطين، وحال أمة تختنق بالوجع؛ شح الغذاء، وغاب الأمان، والمشهد ازداد ضيقا حتى خنق الأنفاس، الجوع بلغ أقصى مداه، وسل سيفه على رقاب وهنت من الألم، وذبلت أجسادها، وجفت حلوقها من الظمأ والحرمان.

 

وفي مقابل هذا الألم تتحرك القلوب الحية، والنفوس التي لا تزال تعرف معنى العطاء، عبر القنوات الرسميَّة الموثوقة، فتمد الأيادي الصادقة بالطعام والدواء والماء؛ نصرة لمن أنهكهم الجوع، ورفقا بمن سلبوا أدنى مقومات الحياة، هي لحظة يمتحن فيها الصدق، وتختبر فيها النوايا، فليكن لنا فيها سهم، ولا يخفى ما تقوم به قيادة هذه البلاد المباركة من دور فاعل، ومواقف مشرفة، في نصرة القضية الفلسطينية، من خلال دعمها وحضورها المؤثر، في المحافل الدوليَّة، ومبادرتها المتواصلة، في المؤتمرات الإقليميَّة والعالميَّة، دفاعًا عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ودعمًا لصموده وعدالة قضيته، قال -تعالى-: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الْإِسْرَاءِ: 1].

 

أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مَفَرَّ من قضائه إلا برحمته واللجوء إليه، أحمده -سبحانه- وأشكره على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، فهي منه وإليه، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، رفع السماوات بقدرته، وخضع الخلق له فطوعًا أو كرهًا راجعون إليه، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، دعا الخلقَ إلى توحيد الله والاعتصام به والإنابة إليه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين بايعوه على السمع والطاعة، وساروا على هديه ودعوا إليه.

 

أما بعدُ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله.

 

الدعاء بابٌ لا يُغلَق، والنية الصادقة عمل لا يضيع، والكلمة الطيبة أثرها واسع، والتذكير بحال أهل غزَّة وفلسطين إحياء للضمير، فلكل نصيب بحسب وسعه، ومن أحيا الشعور فقد شارك، ومن دعا بقلبه فقد نصر، ومن ذكر فقد بلغ، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)[الْبَقَرَةِ: 186]، فإن كنت لا تملك إلا دعوة صادقة في جوف الليل، فافعل، ادع لهم، كما تحب أن يدعى لك، ولأهلك في ساعة الكرب؛ اللهمَّ كن لهم ومعهم، ولا تكلهم إلى أحد سواك، اللهمَّ يا رحيم المستضعَفين، يا ناصر المنكوبين، يا قريب الإجابة، يا واسع المغفرة، كن لإخواننا في فلسطين عونًا ونصيرًا وسندًا وظهيرًا، اللهمَّ إنهم جاعوا فأشبعهم، وخافوا فأمنهم، وتفرقوا فاجمعهم، وضعفوا فقوهم، اللهمَّ لا حيلة لهم إلا بك، ولا قوة لهم إلا برحمتك، فأَطعِمْهم من جوع، وآمِنْهُم من خوف، اللهمَّ اجبر كسرهم، وارحم موتاهم، واشف مرضاهم، ورُدَّ غائبَهم، وأَلبِسَهم لباسَ العافية والسَّكِينة، والطُفْ بهم يا أرحم الراحمين.

 

اللهمَّ عليكَ بمن ظلَمَهم، وبمن قتَّل أطفالهم، وبمن أغلَق عليهم سُبُلَ الحياة، اللهمَّ لا تعجزك قوةٌ، ولا يُهزَم جُندُكَ، ولا تغيب عنكَ صرخةُ مظلومٍ، فانتصِرْ لهم يا قوي يا متين.

 

اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كله عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهمَّ إنَّا نسألك فواتح الخير وخواتمه وجوامعه وأوله وآخره وظاهره وباطنه، ونسألك الدرجات العلا من الجنة يا ربَّ العالمينَ.

 

اللهمَّ احفظ هذه البلاد المبارَكة بحفظك، واكلأها برعايتك، واحفظ حدودها، وأكثروا من الصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، محمد بن عبد الله؛ فإن الصلاة عليه رفعة في الدرجات وكفارة للزلات، وقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهمَّ احفظ ووفق خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، ووفق ولي عهده لكل خير، وانصر بهما الإسلام والمسلمين، ووفق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك يا ربَّ العالمينَ؛ (رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

المرفقات

نعمتا الأمن والطعام ومواساة أهل فلسطين.doc

نعمتا الأمن والطعام ومواساة أهل فلسطين.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات