عناصر الخطبة
1/من صفات الأشعريين 2/المواساة بالمشاعر وصورها 3/نماذج من مواساة النبي لأصحابه 4/مظاهر الإحساس بشعور الآخرين 5/إحساس النبي بمشاعر الحيواناقتباس
الشعور بالآخرين ليس حديثاً يقال، بل مواقف تصنع، الشعور أن تشعر بجوع الجائع قبل أن تمتد يده، وأن ترى خجل المحتاج دون أن يذهب ماء وجه، الشعور بالغير ليس عطاء مالٍ فقط، بل عطاءُ قلبٍ، وسماعُ إذنٍ، وبصرُ عينٍ، وإحساسُ شعور...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الولي الحميد، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، ومن تبعهم بإحسان على يوم الدين.
أما بعد: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
أخرج البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ".
من أعظم مراتب الأخلاق الإحساس بالشعور، الشعور هو اللغة الصامتة التي يتحدث بها القلب، الشعور أن يهتز الوجدان رحمةً ولطفا بمن حولك، قريباً وجاراً وصديقاً وزوجة وابناً، الشعور أن تتحرك المشاعر لتواسي أخاً محزوناً بكلمة، أو جاراً بمعروف، أو محروماً بمواساة، أو قريباً بصلةٍ، أو أمةً مسلمة مضطهدة بدعوة.
لا يأتي الإحساس بعناء الآخرين وهموم الغير إلا حين تغيب الأنانية من الشخص، ويحل محلها الشعور بالجسد الواحد؛ "إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ؛ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ"، لقد جسد الأشعريون في هذا الموقف العظيم أسمى معاني العطاء، وأعظم روح التكافل الاجتماعي والأخوي في أنبل صوره، فكانت الجائزة: "فهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ".
"لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ وجَارِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، لا يكتمل إيمان العبد -ولو صلى وصام واجتهد- حتى ينتزع من قلبه الأنانية، وحتى يبذل من مشاعره وعطائه لإخوانه.
فكن رحيماً إذا ما الجارُ قد جاعا *** وافتح له الباب لا تسأله لـمَ جاعا
تكافل الناس نورٌ في دجى الزمنِ *** فاشعل قلوبهم لا يكفينا الشمَعا
الشعور خلقٌ صامت في صوته، عالٍ في أثره، رفيعٌ قدره، عظيمٌ أجره، الشعور ليس عاطفةٌ طارئه، بل نورٌ يسري في القلب، فيكشف وجع الضعيف، وخجل المحتاج، وصمت المحزون، وفرح المتفائل ولو لم ينطق.
لما رجع النبي -صلى الله عليه وسلم- من أحد رأى جابر بن عبدالله يخيم عليه الحزن ويعلوه الهمّ، وقد قتل أبيه في أحد، فأحس النبي -صلى الله عليه وسلم- بعمق الفاجعة، واليتم المثقل على جابر وعنده تسع أخوات، فسلاه بكلمةٍ تضمدُ جراحه وتفرح قلبه، فقال له "يَا جَابِرُ، مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا؟"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي، فَقَالَ: "أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟"، قلت: بلى يا رسول اللَّهِ، قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إلا من وراء حجاب، وإن الله أحيا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي، تَمَنَّ أُعْطِكَ، قَالَ: تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ قَتْلَةً ثَانِيَةً، قَالَ اللَّهُ: إِنِّي قَضَيْتُ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ"، وَنَزَلَتْ: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)[آل عمران: 169]"(أخرجه الترمذي وغيره).
قمةٌ إحساس ومواساة لنفس مكلومة، مما جعلت جابراً يقترب من النبي -صلى الله عليه وسلم- ليكون أباً له، والروح التي يؤوي إليها، قال جابر: "لما أُصِيبَ أبي، تَرَكَ تسع بناتٍ وَدَيْنًا، فطَلَبْتُ من أَصْحَابِ الدَّيْنِ أَنْ يَضَعُوا بَعْضًا مِنْ دَيْنِهِ فَأَبَوْا، فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-، فَاسْتَشْفَعْتُ بِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَبَوْا، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: "صَنِّفْ تَمْرَكَ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، عِذْقَ ابْنِ زَيْدٍ عَلَى حِدَةٍ، وَاللِّينَ عَلَى حِدَةٍ، وَالعَجْوَةَ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ أَحْضِرْهُمْ حَتَّى آتِيَكَ"، فَفَعَلْتُ، ثُمَّ جَاءَ -صلى الله عليه وسلم- فَقَعَدَ عَلَيْهِ، وَكَالَ لِكُلِّ رَجُلٍ حَتَّى اسْتَوْفَى، وَبَقِيَ التَّمْرُ كَمَا هُوَ، كَأَنَّهُ لَمْ يُمَسَّ"(أخرجه البخاري).
ولم ينسَ جابر هذا الشعور من النبي -صلى الله عليه وسلم- تجاهه، والإحساس بهمومه ومصابه، فكان يتحرى الوقت ليرد للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعضاً من هذا الوفاء، قال جابر: "لَمَّا حُفِرَ الخَنْدَقُ رَأَيْتُ بِالنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- خَمَصًا شَدِيدًا، فَانْكَفَأْتُ إِلَى امْرَأَتِي، فَقُلْتُ: هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَمَصًا شَدِيدًا، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جِرَابًا فِيهِ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ، وَلَنَا بُهَيْمَةٌ دَاجِنٌ فَذَبَحْتُهَا، وَطَحَنَتِ الشَّعِيرَ، ثُمَّ وَلَّيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجِئْتُهُ فَسَارَرْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وَطَحَنَّا صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ كَانَ عِنْدَنَا، فَتَعَالَ أَنْتَ وَنَفَرٌ مَعَكَ، فَصَاحَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ، إِنَّ جَابِرًا قَدْ صَنَعَ سُورًا، فَحَيَّ هَلًا بِهَلّكُمْ"، فجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقْدُمُ بالمهاجرين والأنصار، حَتَّى جِئْتُ امْرَأَتِي، فَقَالَتْ: بِكَ وَبِكَ، فَقُلْتُ: قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي قُلْتِ، فعَمَدَ إِلَى بُرْمَتِنَا فَبَصَقَ وَبَارَكَ، ثُمَّ قَالَ: "ادْعُ خَابِزَةً فَلْتَخْبِزْ مَعِي، وَاقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ وَلاَ تُنْزِلُوهَا"، قال جابر : وَهُمْ أَلْفٌ، فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَقَدْ أَكَلُوا حَتَّى تَرَكُوهُ وَانْحَرَفُوا، وَإِنَّ بُرْمَتَنَا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وَإِنَّ عَجِينَنَا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ"(متفق عليه)، أرأيتم كيف يصنع الشعور والإحساس بالآخرين؟! يولد عطاءً، ويزرع حباً ووفاءً، ويعلي قدراً ومكاناً.
الناس للناس مادام الوفاء بهم *** والخير يبقى وإن طال الزمان بهم
(وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[البقرة: 195]، أستغفر الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربكم لغفور شكور.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد: الشعور بالآخرين ليس حديثاً يقال، بل مواقف تصنع، الشعور أن تشعر بجوع الجائع قبل أن تمتد يده، وأن ترى خجل المحتاج دون أن يذهب ماء وجه، الشعور بالغير ليس عطاء مالٍ فقط، بل عطاءُ قلبٍ، وسماعُ إذنٍ، وبصرُ عينٍ، وإحساسُ شعور؛ "وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
ما أعظم الشعور أن ترى منكسراً فتواسيه بكلمة، لا أن تزيد جرحه وتهيض مشاعره، الإحساس بالشعور أن ترى حائراً قد تاه طريق الحق، وتخبطت أفكاره في أودية الشبهات، أو انغمست يده في وحل الشهوات، فتمسك به وتدله للحق والرشد، بنصيحة وتنبيه وتعليم.
الإحساس بالشعور أن ترى زوجتك متعبة فتقف إلى جنبها، أو تلبي حاجة أبيك أو أمك قبل أن يتكلم، وأن تحسن إلى جارك دون أن تنتظر مكافئة.
الشعور أن تحس بغربة المغترب عن بلده ووطنه، فتدخل السرور عليه، الشعور بالأخوة أن تزوره دون مناسبة، وتهاتفه دون حاجه، وتدعوا له دون علمه، وتفرح بنجاحه أو برزقٍ له، كأنه نجاحك.
العظماء يمتد شعورهم ليحس حتى بالبهائم، قال عبد الله بن جعفرٍ-رضي الله عنه-: أرْدفَني رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- خلفَه ذاتَ يومٍ، فدخل حائطاً لرجلٍ من الأنصار، فإذا جملٌ، فلما رأى الجملُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وذَرَفَت عيناه، فأتاه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فمسح ذِفْراه فسكتَ، فقال: "من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟"، فجاء فتًى من الأنصارِ، فقال: لي يا رسول الله، قال: "أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي مَلَّككَ اللهُ إياها؛ فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُه وتُدْئبه"(أخرجه أبوداود).
يَرقى على قممِ الإحسانِ من خُلُقٍ *** كأنّهُ من جمال الأخلاق مقتربا
ما بينَ دمعِ بعـــــــيرٍ جــــادَ مُقلَـتُــــــهُ *** وبينَ صمتِ يتيمٍ شفَّهُ التعبــا
ما كــــان إلا نبيَّ اللهِ في كـــــرمٍ *** يُهدي الشعورَ، ويُجري الخيرَ مُنسكبا
اللهم ارزقنا الخير والبر والإحسان، واغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم