وقفات مع قوله "يسِّرا ولا تعسِّرا"

إسماعيل القاسم

2025-04-18 - 1446/10/20 2025-05-14 - 1446/11/16
عناصر الخطبة
1/أحد جوامع الكلم النبوية 2/الأمر بالتخفيف والتيسير 3/أمر نبوي بالتبشير بالخير والتفاؤل 4/وصية بالتعاون وعدم الاختلاف 5/استحباب التيسير في الأمور والرفق بالناس.

اقتباس

يجب التيسير في الأمور، والرفق بالناس، وتحبيب الإيمان إليهم، وترك الشدة والتنفير لقلوبهم، لا سيما فيمن كان قريب العهد به، وكذلك يجب فيمن قارب حد التكليف من الأطفال ولم يتمكن رسوخ الأعمال في قلبه ولا التمرن عليها، ألا يشدد عليه ابتداء؛ لئلا ينفر عن عمل الطاعات.

الخطبةُ الأولَى:

 

إنَّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

إنَّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هديُ محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]؛ أما بعد:

 

أيها المسلمون: النبي -صلى الله عليه وسلم- أُعطي جوامع الكلم؛ فألفاظه قليلة ومعانيها عديدة، وكان يوجه ويذكر وينصح الأمة بأكملها، فيأمر قائد السرية بما يجب فعله وما يمتنع، وكذلك يوجّه رسله للأمصار؛ كبَعْثه لمعاذ بن جبل لليمن فيُوصيه ويقول له: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب؛ فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تُؤخَذ من أغنيائهم فتُرَدّ في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتقِ دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب"(رواه مسلم).

 

ثم وجَّه وصية خاصة عند بعث أبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل -رضي الله عنهما- لليمن؛ فقال "يَسِّرا ولا تُعسِّرا وبشِّرا ولا تُنفِّرا وتطاوعا ولا تختلفا"(متفق عليه)؛ قال الحافظ ابن حجر: "كان بَعْث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حجّ النبي -صلى الله عليه وسلم-، واتفقوا على أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في خلافة أبي بكر ثم توجَّه إلى الشام فمات بها".

 

وأبو موسى الأشعري بعثه قبله؛ كما في الصحيحين؛ "ثم أتبعه معاذ بن جبل"؛ أي بعثه بعده". قال ابن حجر: "وظاهره أنه ألحقه به بعد أن تَوجَّه..."، إلى أن قال: "ويُحمل على أنه أضاف معاذًا إلى أبي موسى بعد سبق ولايته؛ لكن قبل توجّهه فوصاهما عند التوجه بذلك، ويمكن أن يكون المراد أنه وصى كلًّا منهما واحدًا بعد آخر".

 

وقال ابن حجر -رحمه الله-: "في تحديد مكان إقامتهما كانت جهة معاذ العليا إلى صوب عدن، وكان من عمله الجند بفتح الجيم والنون، وله بها مسجد مشهور إلى اليوم، وكانت جهة أبي موسى السفلى. والله أعلم".

 

واليمن: يشمل جنوب الجزيرة العربية كلها، ونقل ياقوت الحموي -رحمه الله- قول الأصمعي أن اليمن وما اشتمل عليه حدودها بين عمان إلى نجران، ثم يلتوي على بحر العرب إلى عدن إلى الشحر حتى يجتاز عمان؛ فينقطع من بينونة وبينونة بين عمان والبحرين، وليست بينونة من اليمن، وفيه حضارات قديمة؛ كمملكة بلقيس زمن سليمان -عليه السلام-.

 

وسميت اليمن بذلك قال البخاري -رحمه الله-: لأنها على يمين الكعبة، والشام لأنها عن يسار الكعبة، وأهل اليمن زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهل كتاب؛ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه-: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب"(رواه مسلم).

 

وفي قوله -عليه الصلاة والسلام-: "يَسِّرا"، خُذَا بما فيه من التيسير، "ولا تعسرا" من التعسير وهو التشديد، "وبَشِّرا" من التبشير، وهو إدخال السرور، ويكون بذكر فضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته، "ولا تُنفِّرا" من التنفير، وذلك بتكليفهم الأمور الصعبة الموجبة للإنكار؛ فلا تُكلّفوهم بما يحملهم على النفور، والنهي عنه بذكر التخويف وأنواع الوعيد، و"تطاوعا" تحابَّا ولْيُطع كلّ منكما الآخر.

 

وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا بعث أحدًا من أصحابه في بعض أمره؛ قال: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا"(رواه مسلم)، وفي حديث أنس -رضي الله عنه- قال رسول الله: "يسروا ولا تعسروا وسَكِّنوا"، أمر من التسكين؛ أي سكنوهم بالبشارة أو الطاعة وفي رواية؛ "وبشروا ولا تنفروا"؛ أي بالمبالغة في الإنذار.

 

وجمع في هذه الألفاظ بين الشيء وضده؛ لأنه قد يفعلهما في وقتين، قد ييسر مرة أو مرات، ويعسر في معظم الحالات، ولكن قال "ولا تعسروا"؛ فانتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وكذا يقال في "وبَشِّرا ولا تُنفِّرا"، "وتطاوعا ولا تختلفا"؛ أي توافَقَا في الحكم ولا تختلفا؛ لأن ذلك يؤدي إلى اختلاف أتباعكما، فيُفْضِي إلى العداوة ثم النزاع، ولأنهما قد يتطاوعا في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء، ومعنى المطاوعة موافقة المرء أخاه فيما يراه، وقد يتنازل عن ذلك دفعًا لمفسدة أكبر حتى لا ينشأ الخلاف، وهذه المطاوعة تتأكد في حق العلماء ومن تولى أمرًا من مصالح المسلمين.

 

فعليه يكون التبشير والتيسير دائمًا، ولا يكون تنفير ولا تعسير؛ قال النووي -رحمه الله-: "والنهي ينفي الفعل في جميع الأحوال وهو المطلوب". وقال ابن حجر -رحمه الله-: "فاكتفى بما يلزم عن الإنذار وهو التنفير، فكأنه قيل إن أنذرتم فليكن بغير تنفير؛ كقوله -تعالى-: (قُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه: 44].

 

عباد الله: ذكر ابن بطال عقب الحديث: وكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يحب التخفيف واليسر على الناس وفيه قول عائشة: "ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين قطّ إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله -عليه السلام- لنفسه في شيء قط، إلا أن تُنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها".

 

رزقنا الله وإياكم العمل بسنة نبينا محمد.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:

 

معشر المؤمنين: استنبط العلماء من هذا الحديث فوائد عديدة؛ منها: قول الطبري -رحمه الله- في قوله: "يَسِّرا ولا تُعسِّرا"، فيما كان من نوافل الخير دون ما كان فرضًا من الله، وفيما خفّف الله عمله من فرائضه في حال العذر؛ كالصلاة قاعدًا في حال العجز عن القيام، وكالإفطار في رمضان في السفر والمرض، وشبه ذلك فيما رخص الله فيه لعباده، وأمر بالتيسير في النوافل والإتيان بما لم يكن شاقًّا ولا فادحًا؛ خشية الملل منها، وذلك أن أفضل العمل إلى الله أدومه وإن قل.

 

ومن أمثلة تيسيره -عليه الصلاة والسلام-: أنه لم يعنِّف الذي تبول في المسجد ورفق به، وقال لأصحابه، "دعوه، وأهريقوا على بوله ذنوبًا من ماء -أو سجلاً من ماء-؛ فإنما بُعثتم ميسرين، ولم تُبعثوا معسرين".

 

وفي الحديث أيضًا: التيسير والتبشير والتلطف فيمن يُرْجَى إسلامه وعدم التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ، ومن تاب من معصية، وشرائع الإسلام على التدريج؛ فمتى يسر الله على الداخل في الطاعة سهلت عليه، وكانت عاقبته غالبًا الزيادة منها، ومتى تعسَّرت عليه فلن يدخل فيها، وإن دخلها لا يدوم على فعلها.

 

قال القاضي عياض: فيه ما يجب الاقتداء به من التيسير في الأمور، والرفق بالناس، وتحبيب الإيمان إليهم، وترك الشدة والتنفير لقلوبهم، لا سيما فيمن كان قريب العهد به، وكذلك يجب فيمن قارب حد التكليف من الأطفال ولم يتمكن رسوخ الأعمال في قلبه ولا التمرن عليها، ألا يشدد عليه ابتداء؛ لئلا ينفر عن عمل الطاعات.

 

وفي الحديث من الفوائد: أنه على الإمام وصية الولاة، وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى؛ فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الثناء على معاذ -رضي الله عنه-: "أرحم أُمّتي بأُمّتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم لكتاب الله أُبَيّ بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ألا وإن لكل أمة أمينًا وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"(أخرجه الترمذي وابن ماجه).

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبى موسى: "لو رأيتني وأنا أستمع لقراءتك البارحة؛ لقد أُوتيت مزمارًا من مزامير آل داود"(رواه مسلم).

 

جعلنا الله وإياكم مفاتح للخير..

 

صلوا وسلموا...

 

المرفقات

وقفات مع قوله يسِّرا ولا تعسِّرا.doc

وقفات مع قوله يسِّرا ولا تعسِّرا.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات