عناصر الخطبة
1/في تبدل أحوال الناس عبرة 2/من تقوى الله في المال 3/النهي عن سؤال الناس وأقسام ذلك 4/عقوبة من يسأل الناس أموالهم بلا ضرورة 5/الحث على تحري المتعففين بالصدقاتاقتباس
مِمَّا عَمَّ بِهِ البَلَاءُ، دَفْعَ الأَمْوَالِ إِلَى المُتَسَوِّلِينَ وَالسَّائِلِينَ فِي المَسَاجِدِ أَوْ فِي الطٌّرُقَاتِ، مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ عَنْ حَالِهِمْ أَوْ سُؤَالٍ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّ أُوْلِئِكَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ، قَدْ أَلَمَّتِ الحَاجَةُ بِبَعْضِهِمْ، وَاسْتَغَلَّ بَعْضُهُمْ جَهْلَ النَّاسِ وَعَاطِفَتَهُمْ، فَصَارُوا مَصْدَرًا لِجَمْعِ الأَمْوَالِ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوهُ، فَمَنْ اتَّقَاهُ كَفَاهُ، وَمَنْ أَطَاعَهُ آوَاهُ؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[سورة الطلاق: 2 - 3].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: في تَبَايُنِ وَاقِعِ النَّاسِ، وَتَبَدُّلِ أَحْوَالِهِمْ عِبْرَةٌ، يَسْعَى الغَنِيُّ وَمَنْ دونَهُ لِتَنْمِيَةِ مَالِهِ، وَيَكْدَحُ الفَقِيرُ وَمَنْ فَوْقَهُ لِكَفَافِهِ، وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ أَنَّ الأَرْزَاقَ مَقْسُومَةٌ كَمَا أَنَّ الآجَالَ مَحْتُومَةٌ.
تَمُرُّ عَلَى الغَنِيِّ أَحْوَالٌ مِنَ الِانْكِسَارِ فِي مَالِهِ، وَيَرَى الضَّعِيفُ أَحْوَالًا مِنَ السَّعَةِ فِي حَالِهِ، وَبَيْنَ هَذَا وَهَذَا، كَان مِعْيَارُ التَّقْوَى فِي المَالِ سَبِيلًا لِلْبَرَكَةِ وَرِضَا رَبِّ العَالَمِينَ، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ"(أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِيْ شُعَبِ الْإِيْمَانِ).
فَمِنْ تَقْوَى اللَّهِ فِي المَالِ مَا كَان عَمَلًا ظَاهِرًا، كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالقَصْدِ وَعَدَمِ الإِسْرَافِ أَوِ التَّبْذِيرِ، وَمِنْ تَقْوَى اللَّهِ فِي المَالِ مَا كَانَ خَفِيًّا، فَهُوَ مِنْ أَعْمَالِ القَلْبِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ، كَالرِّضَا وَالقَنَاعَةِ وَالتَّعَفُّفِ، وَحُسْنِ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ.
وَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ، نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَنِ المَسْأَلَةِ، أَيْ: أَنْ نَسْأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ ضَعْفٍ فِي التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ، وَاسْتِبْطَاءٍ لِرِزْقِهِ.
وَسُؤَالُ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
الأَوَّلُ وَهُوَ أَشَدُّهَا جُرْمًا: مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَإِنَّمَا لِتَكْثِيرِ المَالِ وَزِيَادَتِهِ، فَهَذَا مُتَوَعَّدٌ بِالعَذَابِ يَوْمَ القِيَامَةِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ سَأَلَ النَّاسَ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ"(رَوَاهُ مُسْلِمٌ).
وَالثَّانِي مِنْ أَحْوَالِ السُّؤَالِ: سُؤَالُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مَاسَّةٍ وَلَا ضَرُورَةٍ مُلِحَّةٍ، وَإِنَّمَا لِلْكَمَالِيَّاتِ وَبَعْضِ الْحَاجِيَّاتِ، فَمِثْلُ هَذَا نَهَى عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الْأَنْمَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ قَطُّ مِنْ صَدَقَةٍ، فَتَصَدَّقُوا، وَلَا عَفَا رَجُلٌ عَنْ مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا إِلَّا زَادَهُ اللَّهُ -تَعَالَى- بِهَا عِزًّا، فَاعْفُوا يَزِدْكُمُ اللَّهُ عِزًّا، وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ يَسْأَلُ النَّاسَ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ"(رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
وَالثَّالِثُ مِنْ أَحْوَالِ السُّؤَالِ: مَا كَانَ سُؤَالًا جَائِزًا، يُجِيزُ لِصَاحِبِهِ السُّؤَالَ بِقَدْرٍ مُحَدَّدٍ، ثُمَّ يَكُفُّ عَنْ سُؤَالِهِ، فِي صَحِيحِ مُسْلِمَ مِنْ حَدِيثِ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "يَا قَبِيصَةُ، إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَهَا أَوْ يُمْسِكَ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ، فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، أَوْ قَالَ: سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتَّى يَقُولَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلَانًا الْفَاقَةُ، فَقَدْ حَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ، فَسَأَلَ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا أَوْ سِدَادًا مِنْ عَيْشٍ، ثُمَّ يُمْسِكَ، وَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ -يَا قَبِيصَةُ- سُحْتٌ، يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا".
وَفِي كُلِّ حَالٍ، عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَأَنْ يَكُفَّ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ كَثْرَةَ السُّؤَالِ شُؤْمٌ عَلَى صَاحِبِهِ، وَاعْتِيَادُ الْإِنْسَانِ طَلَبَ الْمَالِ، حَتَّى عَلَى سَبِيلِ الْقَرْضِ الْحَسَنِ، لَا لِلضَّرُورَةِ وَلَا لِلْحَاجَةِ، هُوَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمَذْمُومَةِ فِي شَرِيعَتِنَا، وَمَتَى اعْتَادَ السَّائِلُ عَلَى السُّؤَالِ كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا فِي اضْطِرَابِ حَيَاتِهِ وَتَرَاكُمِ دُيُونِهِ فِي الدُّنْيَا، وَيَلْقَى اللَّهَ فِي الْآخِرَةِ لَيْسَ عَلَى حَالٍ طَيِّبَةٍ، فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ، وَلَيْسَتْ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَعِظُ مَنْ يَسْأَلُهُ، وَيُذَكِّرُهُ بِاللَّهِ، رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ يُقَسِّمُ الصَّدَقَةَ، فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرَفَعَ فِينَا الْبَصَرَ وَخَفَضَهُ، فَرَآنَا جَلْدَيْنِ، فَقَالَ: "إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا، وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ"(أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيّ)، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ".
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الِاسْتِغْنَاءَ وَالعِفَّةَ وَتَرْكَ السُّؤَالِ، وَإِنْزَالَ الحَوَائِجِ بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ، هُوَ مِنْ أَعْظَمِ عَلَامَاتِ الإِيمَانِ، وَقُوَّةِ تَوَكُّلِ العَبْدِ بِرَبِّهِ، وَحُسْنِ ظَنِّهِ بِهِ، رَوَى البُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: إِنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّىٰ نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَال: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْر"، وَفِيْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ فَأَنْزَلَهَا بِالنَّاسِ، لَمْ تُسَدَّ فَاقتُهُ، وَمَنْ أَنْزَلَهَا بِاللَّهِ، أَوْشَكَ اللَّهُ لَهُ بِالغِنَى، إِمَّا بِمَوْتٍ عَاجِلٍ، أَوْ غِنًى عَاجِلٍ"(أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الِاسْتِعْفَافُ وَالِاسْتِغْنَاءُ وَالكَفُّ عَنِ السُّؤَالِ هُوَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ، مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ مَوْلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَنْ لاَ يَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟"، فَقُلْتُ: أَنَا، فَكَان لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا"، أَيْ: فَكَانَ ثَوْبَانُ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ حَاجَةً؛ وَفَاءً بِوَعْدِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَىٰ: "فَكَان ثَوْبَانُ يَقَعُ سَوْطُهُ وَهُوَ رَاكِبٌ، فَلَا يَقُولُ لِأَحَدٍ: نَاوِلْنِيهِ، حَتَّىٰ يَنْزِلَ فَيَتَنَاوَلَهُ".
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُوْلُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ الْجَلِيلَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَفِي اسْتِقْبَالِنا لِشَهْرِ رَمَضَانَ، وَتَهَيُّؤِ النَّاسِ لِشَهْرِ الجُودِ وَالخيرِ وَالَبذْلِ، عَلَيْنا أَنْ نَتَنَبَّهَ فِي إِنْفَاقِ المَالِ إِلَىٰ فِئَةٍ مِنْ إِخْوَانِنا نَحْسَبُهُمْ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ، وَهُمْ فُقَرَاءُ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، فَهَؤُلَاءِ أَحَقُّ مَنْ تُبْذَلُ لَهُم الصَّدَقَاتُ وَالزَّكَوَاتُ، وَأَحَقُّ مَنْ يُسْعَىٰ لِتَفَقُّدِ حَالِهِمْ وَالوُقُوفِ عَلَى أَمْرِهِمْ.
وَإِنَّ مِمَّا عَمَّ بِهِ البَلَاءُ، دَفْعَ الأَمْوَالِ إِلَى المُتَسَوِّلِينَ وَالسَّائِلِينَ فِي المَسَاجِدِ أَوْ فِي الطٌّرُقَاتِ، مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ عَنْ حَالِهِمْ أَوْ سُؤَالٍ عَنْ أَمْرِهِمْ، وَإِنَّ أُوْلِئِكَ الَّذِينَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ، قَدْ أَلَمَّتِ الحَاجَةُ بِبَعْضِهِمْ، وَاسْتَغَلَّ بَعْضُهُمْ جَهْلَ النَّاسِ وَعَاطِفَتَهُمْ، فَصَارُوا مَصْدَرًا لِجَمْعِ الأَمْوَالِ وَتَكْثِيرِهَا فِي صُورَةِ أَطْفَالٍ أَوْ نِسَاءٍ لِاسْتِعْطَافِ القُلُوبِ وَإِمَالَتِهَا، وَهَذَا مِمَّا لَا يُخْدِمُ المُجْتَمَعَ المُسْلِمَ، بَلْ يُضِرُّهُ.
وَالمُسْلِمُ العَاقِلُ يَعْلَمُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ أَنَّ التَّثَبُّتَ مِنَ الحَالِ مِمَّا نَدَبَتْ إِلَيْهِ شَرِيعَتُنَا، فَلَا تُوضَعُ الزَّكَاةُ إِلَّا فِي مَحَلِّهَا، ولا تَبْرَأُ ذِمَّةُ المُسْلِمِ إِلَّا بذَلِكَ.
وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ وَالقُرَبُ، فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الأَعْمَالِ تَفَقُّدُ المُتَعَفِّفِينَ مِنْ ذَوِي الحَاجَةِ، وَالسَّعْيُ فِي إِصْلَاحِ شُؤُونِهِمْ وَتَحْسِينِ أَحْوَالِهِمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "السَّاعِيَ عَلَى الأَرْمَلَةِ وَالمِسْكِينِ، كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوِ القَائِمِ اللَّيْلَ، الصَّائِمِ النَّهَارَ"(رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ).
أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ-، وَتَحَرَّوْا فِي أَمْوَالِكُمْ، وَاسْتَعِفُّوا وَاسْتَغْنُوا، وَسَلُوا اللَّهَ الْبَرَكَةَ وَالخَيْرَ وَحُسْنَ العَاقِبَةِ.
أَلَا وَإِنَّ مِنْ أَبْوَابِ الخَيْرِ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-، صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، فَقَالَ قَوْلًا كَرِيمًا، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[سورة الأحزاب: 56]، اللَّهُمَّ صِلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الْأَرْبِعة أَبِي بِكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الآلِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعَيْنَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِعَفْوِكَ وَكَرَمِكَ وَإِحْسَانِكَ يَا أَرَحَمَ الرَّاحِمَيْنَ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عِبَادَ اللَّهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[سورة النحل: 90]، فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم