أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم والتربية

سليمان بن خالد الحربي
1446/11/09 - 2025/05/07 12:56PM

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتقوا اللهَ عبادَ الله، {وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:17].

إخوتي في الله: إن مشاعرَ الأُبُوَّة والشفقة على الأبناء والنصح لهم وإظهار العطف عليهم لا يجوز أن تغيب في كل ساعات الحياة, ولا يصح أن تضيع بين زحمة الأعمال، بل لا ينبغي أن تخفُتَ جذوتها ولا تنطفي حرارتها في أي لحظة، ولو كانت لحظةَ جِدٍّ وحَزْم، فإن رسولنا -صلى الله عليه وسلم- كان شفيقًا على الصغار، صائنًا لهم عن كل ما يزعجهم ويؤذيهم، جاء في صحيح مسلم، عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: «مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلم» ([1]).

نقف أمام أُبُوَّةٍ نبوية، كيف كانت هذه العاطفة الأبوية الآسِرة التي كانت تملأ فؤادَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ جاء في صحيح مسلم «أنَّ إِبْرَاهِيمَ ابْنَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كَانَ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي المدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ إِلَيْهِ عِنْدَ المرْأَةِ الَّتِي تُرْضِعُهُ وَنَحْنُ مَعَهُ، فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ ثُمَّ يَرْجِعُ»([2]).

فكيف إذا علمنا أن العوالي تبعد ثلاثة أميال، وهو أقربها إلى المدينة، وأبعدها سبعة أميال، ومع هذا يخرج -صلى الله عليه وسلم- على عِظَمِ مسؤولياته ليقبِّلَ هذا الطفل الذي توفي وعمره ستة عشر شهرًا، ويروي عاطفته الأبوية -صلى الله عليه وسلم- بل تأمل ما روى الترمذي في جامعه وحسنه من حديث بُرَيْدَةَ بنِ الحُصَيْبِ -رضي الله عنه- أنه قال: خَطَبَنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَينُ -رضي الله عنهما- عَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَعْثُرانِ وَيَقُومَانِ، فَنَزَلَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَأَخَذَهُمَا، وَصَعِدَ بِهِمَا إِلَى المنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «صَدَقَ اللَّهُ: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن:15]، رَأَيْتُ هَذَيْنِ فَلم أَصْبِرْ»([3])، ثم أخذ في الخُطبة.

مشهدٌ عظيمٌ جدا! رسول الله وهو خطيب يوقف خطبته التي اشْرَأَبَّتْ([4]) أعناق الناس إليه، وجر أنظارهم وأسماعهم إلى كلامه، وبينما هم كذلك إذ تقف الخطبة، وينقطع الكلام، فأي أمر جَلَلٍ تسبب في قطع خطبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو أبلغ الناس وأعلمهم وأتقاهم، وهو من هو في كمال عقله، ورجاحة رأيه وشَمَمِ جبالِ رَزانته،، وشدة حزمه، وقوَّة بأسه في مواطن البأس، واستقامة جِدِّه، ومع هذا لا يملك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ رأى حفيديْه يمشيان ويعثران من الصِّغَر، إلا أن يهبط عن منبره، إنها أُبُوَّةُ ورحمةُ مَنْ أُرْسِلَ رحمةً للعالمين، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالمينَ} [الأنبياء:107].

لا نفهم من هذا الموقف الأبوي الرائع إلا أنه أحد نماذج القدوة النبوية! وأنه أحد دلائل نبوته -صلى الله عليه وسلم- في خُلُقه العظيم وكمال بشريته التي كان -صلى الله عليه وسلم- بها أفضلَ الخَلْق وأحبَّهم إلى الله تعالى.

ليتذكرْ أصحاب الجِدّ والمسؤوليَّات العِظام أنه لا يصحُّ لهم أن يسمحوا لجِدّهم ولمسؤولياتهم بأن تقتل فيهم عواطفَهم، ولا أن تُغَيِّبها، ولو للحظة، ولو كانوا غارقين في أعماق الجِدِّ والمسؤوليات؛ لأن عواطفهم هي طَوْقُ نجاتهم من الغرق والوقوع في نُضوب المشاعر وجفافها، فهي أسُّ العلاقة وقوام الإصلاح.

تأمل موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- مع زوج ابنته في موقف الحرب والقتال، كيف كانت هذه المشاعر، فروى الإمام أحمد في مسنده عن عَائِشَةَ زَوْجِ النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: لما انْتَهَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ، وَأُسِرَ مَنْ أُسِرَ بَعْدَ المعْرَكَةِ، بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ في فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ، وَكَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ زَوْجُ ابْنَتِهِ زَيْنَبَ، وَكَانَ كَافِرًا آنَذَاكَ –وَقَدْ تَرَكَتْهُ وَهَاجَرَتْ إِلَى المدِينَةِ مَعَ أَبِيهَا- فبَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَالٍ، أَتَدْرُونَ مَا مَالهَا الذي بعثتَه؟ بَعَثَتْ بِقِلاَدَةٍ لَهَا كَانَتْ أُمُّهَا خَدِيجَةُ زَوْجَةُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أهدتَها إيَّاهَا لما تزوجتْ أبا الْعَاصِ، فلما رَآهَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدةً، فماذا فعلت هذه الرقة؟ قال لأصحابه: «إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا»، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَطْلَقُوهُ وَرَدُّوا عَلَيْهَا الذي لها([5]).

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الماءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموْجُ فَكَانَ مِنَ المغْرَقِينَ} [هود:42، 43].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

فحين رُزِقَ -صلى الله عليه وسلم- بإبراهيم فرح به وأحبه حبًّا شديدًا.

واشتد حزنه -صلى الله عليه وسلم- على إبراهيم حين كان يحتضر، قال أنس بن مالك -كما في الصحيحين-: دَخَلْنَا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- البيت فَأَخَذَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَلَدَهُ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ فَضَمَّهُ إِلَيْهَ وَقَالَ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ وَيَحْتَضِرُ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رضي الله عنه- وَأَنْتَ يا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: «يَا بْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ» ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ولا نَقُولُ إلَّا مَا يَرْضَي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يا إِبْرَاهِيمُ لمحْزُونُونَ»([6]).

إنها عاطفةُ الأبوَّة التي ما اندثرت ولا ذابت أمام تيك المصاعب والمهام التي يقوم بها -صلى الله عليه وسلم- بل انظر إليه يشارك ابنته، قِيلَ: إِنَّ عَلِيًّا خَطَبَ بِنْتَ أبي جَهْلٍ، فَسَمِعَتْ بِذَلِكَ فَاطِمَةُ فَأَتَتْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت يَزْعُمُ قَوْمُكَ أَنَّكَ لَا تَغْضَبُ لِبَنَاتِكَ وَهَذَا عَلِيٌّ نَاكِحٌ بِنْتَ أبي جَهْلٍ فَقَامَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعْتُهُ حين تَشَهَّدَ يقول: «أَمَّا بَعْدُ أَنْكَحْتُ أَبَا الْعَاصِ بن الرَّبِيعِ فَحَدَّثَنِي وَصَدَقَنِي، وَإِنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَسُوءَهَا، وَإِنَّمَا أَكْرَهُ أَنْ يَفْتِنُوهَا، وإني لَسْتُ أُحَرِّمُ حَلَالًا وَلَا أُحِلُّ حَرَامًا، وَلَكِنْ وَاللهِ لَا تَجْتَمِعُ بِنْتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وَبِنْتُ عَدُوِّ اللهِ عِنْدَ رَجُلٍ وَاحِدٍ»([7]) فَتَرَكَ عَلِيٌّ الْخِطْبَةَ.

قال النووي -رحمه الله-: (فيه تحريم إيذاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بكل حال وعلى كل وجه، وإن تَوَلَّدَ ذلك الإيذاء مما كان أصله مباحًا وهو حي، وهذا بخلاف غيره، قالوا وقد أعلم -صلى الله عليه وسلم- بإباحة نكاح بنت أبي جهل لعلي بقوله -صلى الله عليه وسلم- لست أحرم حلالا ولكن نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين إحداهما أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهلك من أذاه، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة، والثانية خوف الفتنة عليها بسبب الغيرة)([8]).

وبعد عباد الله: الأحداث كثيرة والمواقف عديدة مع من اجتمعت المهام كلها عليها فكيف بأب ليس همه إلا استراحته أو متجره أو مزرعته أو أسهمه لا يعرف أبناءه إلا في الضرب والشتم قد فقدوا الأبوة الحانية والتوجيه المشفق تخلوا عن مسؤولياتهم في إعداد الأولاد لممارسة الحياة والقيام بأعظم الحقوق وهو حق الله سبحانه وتعالى، والله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

 قال قتادة: «تأمرُهم بطاعةِ اللهِ وتنهاهُم عن معصيةِ الله، وأن تقومَ عليهم بأمرِ الله وتأمرَهُم به وتساعدَهُم عليه، فإذا رأيتَ معصيةً قَذَعْتَهُم عنها، وزَجَرْتَهُمْ عنها»([9]).

 وقال ابن عمر رضي الله عنهما: «أَدِّبِ ابْنَكَ فَإِنَّكَ مَسْئُولٌ عَنْهُ: مَاذَا أَدَّبْتَهُ؟ وَمَاذَا عَلمتَهُ؟ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ بِرِّكَ وَطَوَاعِيَتِه لَكَ»([10]).

ومن إعدادُهم تعويدهم على الصبر، والتَّرَفِ الهادف، وتعويدهم على الرقابة الذاتية التي تضبط سلوكهم وتحد من رغباتهم المتهورة، ليتوافقوا مع المجتمع الذي يعيشون فيه بخضوعهم للقيم الاجتماعية

لنحاولْ عبادَ الله التأسي بأُبُوَّةِ محمد، صلى الله عليه وسلم.

 

 



([1]) أخرجه مسلم (4/1808، رقم 2316).
([2]) المصدر السابق.
([3]) أخرجه الترمذي (5/658، رقم 3774).
([4]) اشرأب: مد عنقه أو ارتفع لينظر. المعجم الوسيط (شرب).
([5]) مسند أحمد (6/276، رقم 26405).
([6]) أخرجه البخاري (1/493، رقم 1241)، ومسلم (4/1807، رقم 2315).
([7]) أخرجه مسلم (4/1902، رقم 2449).
([8]) المنهاج شرح صحيح مسلم (16/3).
([9]) تفسير ابن كثير (4/412).
([10]) شعب الإيمان للبيهقي (6/400، رقم 8662).

المرفقات

1746611808_أبوة الرسول صلى الله عليه وسلم والتربية.docx

المشاهدات 166 | التعليقات 0