أسباب زوال الهموم والأحزان
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله مُفرِّج الهموم، وكاشفِ الكُرَب والغموم، ومُبدِّدِ الأسى والآلام، ومُنفِّسِ الضيقِ والأحزان، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، بلَّغ الرسالةَ وأدَّى الأمانةَ، ونصَح الأمةَ، وجاهَد في الله حقَّ الجهاد حتى أتاه اليقين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعدُ: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله ؛ فهي وصية الله للأولينَ والآخرينَ؛ (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)
عبادَ اللهِ: إننا في عصر بلغت فيه الحياة الماديةُ أوٌجَّها، حتى كثرت فيه وسائلُ المتعة واللذة والترفيه من شاشات وفضائيات وجوالات وتطبيقات وتقنيات وسفريات واستراحات ، وأنواع لا حصر لها من المطعومات والمشروبات
والله إننا لفي عصر يظن الناس فيه أن تحصيل السعادة والانشراح والطمأنينة والانبساط يكون بالانكباب على المتع والمغريات ، وبالإغراقِ في لذائذ الترفيه والشهوات، فصار أكثر الناس ينفقون جل أموالهم وأكثر أوقاتهم في الصوارف والملهيات ، حتى كثرت الأسواق والمولات والمطاعم والكافيهات ، وفشا في الناس سُعارَ الاستهلاكِ وتتبعَ الجديد من الموضات والمنتجات ، ولكن الأمر المثير للدهشة والعجب أن الناس مع هذه الزخم الكثير من وسائل اللذة والترفيه حتى أنهم ليقضون أكثر حياتهم ما بين سفر ومطعم واستراحة وقنوات وتطبيقات ومتع لا حصر لها إلا أن الناس ما زادوا بذلك إلا مللا وكآبة ، وضيقا وسآمة، حتى غدَا الهمُّ والقلقُ سمة ملازمة لأكثر الناس في هذا العصر، وبات الاكتئاب أكثر الأمراض شيوعا في هذا الزمان ..
فيا عباد الله والله إن مرض الاكتئاب وأدواء الهموم والأحزان لهي من أشق الأمراض على النفس ، وأشدِ البلايا الموحشة للصدر ، والمؤلمةِ للقلب.. حتى أن كثيرا من الأمراض العضوية ناتجة عن الهموم والأحزان، كأمراض الضغط والسكر والجلطات وغيرها نسأل الله لنا ولكم العافية
فهذه الهموم والأحزان إذا تمكنت من المرء فإنها تَشُلّ حركتَه ، وتُشتِّت أفكاره، وتُكثِر وسواسه، وتُفسِد عليه ابتهاجَه، وتكدر عليه حياته..
فالهم يا مسلمون نصف الهرم، وسبب المرض والسقم، وجالب الخمول والكسل، وباعث الضعف والفشل..
الهم داء عضال، وكآبة وضيق وانفعال، ولهذا كان من أعظم ما يسعى إليه الشيطان هو أن يقذف بالحزن في قلب المؤمن قال تعالى-: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)
ولقد كان الهم والحزن من أكثر ما يستعيذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- ؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: اللهمَّ إني أعوذ بك من الهم والحزن" (رواه البخاري).
أيها المسلمون: لقد عالَج الإسلامُ القلقَ والهمَّ والحُزنَ، وأوصد أبوابه، وسد منافذه، وأوجد للناس طريقا ومنهاجا يُحقِّق لهم السعادة والحياة الطيبة ..
فلقد كانت دواعي الهمومِ والأحزان حاضرةً في حياة الأنبياء، فمنهم مَن ابتُلي بالمرض، ومنهم مَن ابتُلي بالفقر، ومنهم مَن ابتُلي بالفقد ، وغالبهم قد ابتُلي بالطرد والتكذيب والجحود والنكران ، ولقد كان أشدهم بلاءً رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فقد وجد من صنوف البلايا ما لو نزل بغيره من البشر لمات هما وكمدا ، فقد دفن في حياته ﷺ ستة من ولده ، ومنهم غرغرت روحه وهو يحمله بين يديه ويضمه إلى صدره ، وكذَّبه قومه وهو فيهم أمين ، يرجوا لهم الخير والنجاة وهم يضمرون له الشر والقتل ، ووضعوا سلا الجزور على رقبته ، وأخرجوه من أحب البقاع إليه ، ورجموه بالحجارة حتى أدموا عقبيه ، وشجوا جبينه وكسروا رباعيته وأدموا وجهه الشريف ، ومات وهو لم يشبع من طعام بر ثلاثَ ليالٍ تباع ، وتمر عليه الثلاثة الأهلة وليس له طعام إلا رديء التمر والماء ، ويأتيه الضيف فلا يجد في كل أبياته وعند جميع زوجاته لا يجد طعاما يكرم به ضيفه ، ويُقبض ودرعه مرهونة عند يهودي ، ثم ومع كل هذه المصائب والبلايا، وتلك الشدائد والرزايا ، لم يكن أحد من الخلق أطيب منها نفسا ، ولا أشرح منه صدرا ، ولا أهنا منه عيشا ، ولا أكثر منه قناعة ورضا
فما السبب يا مسلمون: ذلك لأنه ﷺ يجد في الصلاة أنسه وراحته ، ويجد في الذكر والقرآن لذته وحلاوته ، كيف وقد قال الله له: ( ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين )
هذا لنعلم يا عباد الله أن أطيب العيش وأهنأه إنما يكون في جوار الله ، والأنس بذكره ومناجاته وطاعته … ومجانبة أسباب سخطه ومقته … فقد قال تعالى: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة
وأمر آخر يأتي بعد الذكر والطاعة وحسنِ العبادة ، وهو من أهم أسباب زوال المكدرات والهموم ، ومن أعظم ما يكشف الكروب والغموم ألا وهو صدق التوكل على الله مع حسن الظن به جل في علاه ..
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خرج من مكة مُهاجِرًا، واختبأ في غار ثور، وقد سلَّ المشركون سيوفَهم في طلبه، حتى بلغوا الغار، فقال أبو بكر -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم- "لو أنَّ أحدَهم نظَر تحتَ قدميه لَأبصَرَنا"، وإنه والله لموقف يُثِير الرعب والهلعَ، ويجلب الخوفَ والفزع، ويستدعي الهمّ والقلق ، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظنُّكَ يا أبا بكر باثنينِ اللهُ ثالثُهما؟" (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ، فمَهمَا بلغَت بك الشدائد والكروب، ونزلَت بكَ المخاوفُ والخطوبُ، ففوض أمرَكَ إلى الله، وأحسن الظن به جل في علاه ، واستشعِرْ معيتَه وقدرته وحمايته وكفايته ، فإن الله يقول: ( أليس الله بكاف عبده )
قال أصحاب موسى :إِنَّا لَمُدْرَكُونَ وذلك لأن البحر أمامَهم، والعدوَ خلفَهم، وفي منظور البشر هم هالكون لا محالةَ، وهو موقف يجعل الهمَّ في أعلى درجاته، والقلقَ في أشد حالاته، فيردُّ نبيُّ الله موسى -عليه السلام- بثقة الواثق بربه، وصدقِ التوكل عليه وحسنِ الظن به .. فيقول: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ، فزالَ الهمُّ والخوفُ، وتحقَّق النصرُ والتمكينُ
وهذا يعقوب عليه السلام فقد ابنه يوسف فبكاه حتى ابيضت عيناه ، وحين فقد ابنه الثاني زاد في الله رجاؤه ، وحسن في ربه ظنه ، فقال لأبنائه : (يابَني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون) ، قال العلماء اليأس من رحمة الله من كبائر الذنوب ، فمن عرف الله وعرف غناه وكرمه وقدرته وفضله وملكه وعطاءه لم ييأس من خيره وفرجه ونواله ...
فكن يا عبد الله دائما عند كل بلاء ومصيبة حسن الظن بربك، مقبلا عليه، لاجئا إليه ، متوكلا عليه..
وعليك بالفزع إلى الصلاة مع الخشوع والإقبال عليه، وحسن التضرع في السجود والإنابة إليه..
فرب العرش كريم إذا سمع أنين عبده وتضرعه ونجواه.. أجاب دعاه ، فهو القائل جل في علاه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ)
فبالله عليكم يا مسلمون: كيف يغفُل المريض والفقير والمحزون ، والمَدين والمِسكين والمكلوم عن دعاء الرحيم الكريم الودود، وهو ملاذِ كل مكروب، وأُنيس كل مهموم، فهو القائل سبحانه: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ )
فيا عبد الله إذا طرق سمعَك كلمةٌ من قائل تؤرِّق مضجعَكَ، وتُنغِّص يومك، وتكدر عليك معيشتك وتُورِثُكَ همًّا وحُزنًا، فعليك بكثرة التسبيح والاستغفار فإنه من أعظم ما تزول به الهموم، وتُكشف به الغموم قال: ﷺ من لَزِمَ الاستغفار جعل الله له من كل ضِيقٍ مخرجًا، ومن كل هَمٍّ فرجًا، وَرَزَقَهُ من حيث لا يحتسب
ثم عليك يا عبد الله إذا نزل بك ضيق وهم بالإكثار من الصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قال ﷺ لأبي بن كعب حين قال: أَجْعَلُ لَكَ صَلَاتِي كُلَّهَا؟ فقَالَ: إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرَ لَكَ ذَنْبُكَ" رواه الترمذي.
أقول ما تسمعون، وأستغفِر اللهَ فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد : عباد الله ومن أعظم ما تزول به الهموم وتُكشف به الغموم وتنشرح له الصدور وتطمئن به القلوب هو السعي في حوائج الناس والإحسان إليهم ، وإدخال السرور عليهم ، وبذل المعروف لهم ، وتفريج هموهم ، وكشف كروبهم ، وقضاء حوائجهم والصدقة على فقيرهم ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل ، فمَنْ فرَّج عن مسلم كربةً فرَّج اللهُ بذلك كُرَبَهُ ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه ..
ولذلك كان إغاثة الملهوفين وإنفاق المال على المحتاجين من أعظم أسباب السعادة في الدنيا والدين .. فكن للناس كما تريد أن يكون الله لك ، فقد قال -تعالى-:الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
ومن أعظم ما تزول به الهموم يا عبادَ اللهِ: الرضا بالقضاء، واحتساب الأجر والمثوبة ، واستشعار عظيم ما أعده الله للصابرين من الفضل والجزاء ، قال -صلى الله عليه وسلم: (عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ"(رواه الترمذي
فالرضا يا عباد الله يوجب سعادة وطمأنينة في البال، وراحة في النفس، وانشراحا في الصدر، وعدم الرضا يوجب الهموم والغموم والأحزان، والقلق والأرق وعدم الاطمئنان
ثم إن العبد إذا استحضر في قلبه حقيقة هذه الدنيا فإنه لا يأسف على فوات شي منها لحقارتها وسرعة زوالها
قال صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ كَانَتِ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ " ألَا وصلُّوا -عبادَ اللهِ- على رسول الهدى، فقد أمركم بذلك ربكم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا