أسرار الأمراض (مشكولة)

صالح عبد الرحمن
1447/05/22 - 2025/11/13 08:12AM

خطبة عن أسرار الأمراض (مشكولة) 23-5-1447هـ

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لله الْخَبِيرِ الْبَصِيرِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ، خَلَقَ كُلَّ شَيءٍ بِقَدَرٍ، وَرَزَقَ عِبَادَهُ بِقَدَرٍ، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الْشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ المُذْنِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَعْلَمُ الْنَّاسِ بِالله تَعَالَى، وَأَكْثَرُهُمْ شُكْرًا لَهْ سُبْحَانَهُ، وَإِقْرَارًا بِفَضْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيهِ وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَومِ الْدِّينِ، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)،:

معاشر الكرام: ثمّة مخلوقٌ  يُصيبُ الكبيرَ والصَّغيرَ، ويشتكي منه الغنيُّ والفَقيرُ، لا يدعُ مُسلماً ولا كافراً، ولا يترُكُ مُحسِناً ولا فاجِراً، ولم يسلمْ منه أحدٌ حتى سيَّدُ ولدِ آدمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، إنه المرض عافانا والله وإياكم، فَعَن عبْدِ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ رَضيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: دَخَلْتُ علَى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، فَمَسَسْتُهُ بيَدِي، فَقُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّكَ لَتُوعَكُ وَعْكًا شَدِيدًا، -والوَعْكُ: الحُمَّى وحَرَارَتُها- فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجَلْ، إنِّي أُوعَكُ كما يُوعَكُ رَجُلانِ مِنكُم، فَقُلتُ: ذلكَ أنَّ لكَ أجْرَيْنِ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أجَلْ.

فلا شك ولا ريب أن الله لم يخلقْ شيئاً عبثاً، بل للمرض أسرارٌ وفوائد ؟

أوَّلاً: لا بُدَّ أن نعرفَ أن المرض جندٌ من جنودِ اللهِ تَعَالى الَّذي يُحذِّرُ بها عبادَه ليرجعوا إليه ويتوبوا، فكم تابَ بسببِ المرضِ مُذنِبٌ، وكم أقبلَ بسببِه مُدبرٌ، وكم أسلمَ بسببِه كافرٌ، كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (أَسْلِمْ)، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ: أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْلَمَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّار)، ويصدقُ على هذا المريضِ وأمثالِه قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

والنَّاسُ مع المرضِ أحوالٌ شتى مُتَفَاوِتونَ، منهم المأجورُ ومنهم المأزورُ، قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ)، ولذلك كانَ، الابتلاء بالمرض من أسباب محبة الله عز وجل لعبده قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ).

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى، مَرَضٌ فَمَا سِوَاهُ، إِلَّا حَطَّ اللَّهُ لَهُ سَيِّئَاتِهِ كَمَا تَحُطُّ الشَّجَرَةُ وَرَقَهَا)، كلُّنا واللهِ يحتاجُ إلى تكفيرِ سيئاتِه في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ، وقد جاءَ في الحديثِ: (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِهِ وولدِهِ ومالِهِ حتَّى يَلقى اللَّهَ وما عليْهِ خطيئةٌ).

ومما يُذهبُ الخطايا بخاصةٍ، تلك الحمَّى التي تُصيبُ الإنسانَ عندَ كلِّ مرضٍ، فعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ، فَقَالَ: (مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، تُزَفْزِفِينَ؟) أي: تَرْتَعِدِينَ، قَالَتْ: الْحُمَّى لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ: (لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيد).

وهناك من النَّاسِ من كتبَ اللهُ تعالى له منزلةً عظيمةً في الجنَّةِ، ولكنَّه لم يَصلْها بعملِه، فعندَها يأتي المرضُ رحمةً من ربِّ العالمينَ، ليَصلَ بسببِه إلى منازلِ الشُّهداءِ والصَّالحينَ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي وَلَدِهِ ثُمَّ صَبَّرَهُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يُبْلِغَهُ الْمَنْزِلَةَ الَّتِي سَبَقَتْ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى)، وفي الحَديثِ: (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا)، فَالسيِّئاتِ تُكَّفرُ، والخطايا تُحطُّ، والدرجةُ تُرفعُ، حتى يقبضَه اللهُ تَعَالى وهو خفيفُ الحِملِ من الذُّنوبِ والآثامِ، مُستحِّقٌ لدخولِ جنَّةِ الخُلدِ ودارِ السَّلامِ.

ومن فوائدِ المرضِ أنَّ اللهَ تعالى يكونُ قريباً من المريضِ يرحمُه ويجيبُ دعاءَه ويُثيبُ زوَّارَه، بل ويعتبُ سبحانَه على من تركَ عيادتَه في مرضِه كما جاءَ في الحديثِ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟!، قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ).

ومن عجائبِ المرضِ .. أنَّ صاحبَه تُكتبْ له جميعُ أعمالِه التي كانَ يَعملُها وهو صحيحٌ، فتستمرُ حسناتُه على ما كانَ يعملُ وهو مُعافى لا ينقصُ منها شيءٌ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا).

وكثيرةٌ هي فوائدُ المرضِ في الدُّنيا والآخرةِ، يقولُ ابنُ القيِّمِ رحمَه اللهُ تعالى في كتابِه شفاءُ العليلِ: (وقدْ أحصيتْ فوائدَ الأمراضِ فزادتْ على مائةِ فائدةٍ).

باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذِّكرِ الحكيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِّ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ اللَّطيفِ الخبيرِ، العليِ القديرِ، وأشهدُ أن لا الهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أرسلَه إلينا شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، فصلى اللهُ وسلمَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه ومن تبعَهم إلى يومِ الدِّينِ، أما بعد:

يا عبادَ اللهِ، كلُّ هذه الفوائدِ في المرضِ لا يعني أن الإنسانَ يسألُ ربَّه البلاءَ، فعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَدْ خَفَتَ -أيْ: ضَعُفَ- فَصَارَ مِثْلَ الْفَرْخِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ كُنْتَ تَدْعُو بِشَيْءٍ أَوْ تَسْأَلُهُ إِيَّاهُ؟)، قَالَ: نَعَمْ، كُنْتُ أَقُولُ: اللَّهُمَّ مَا كُنْتَ مُعَاقِبِي بِهِ فِي الْآخِرَةِ فَعَجِّلْهُ لِي فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ اللَّهِ لَا تُطِيقُهُ أَوْ لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَفَلَا قُلْتَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)، فَدَعَا اللَّهَ لَهُ فَشَفَاهُ.

بل عليكَ بسؤالِ اللهِ تعالى العافيةِ، فعَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: (سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ)، فَمَكَثْتُ أَيَّامًا، ثُمَّ جِئْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَسْأَلُهُ اللَّهَ، فَقَالَ لِي: (يَا عَبَّاسُ يَا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ، سَلِ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).

وكانَ من أذكارِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في الصَّباحِ والمساءِ أن يقولَ ثلاثاً: (اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَدَنِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي سَمْعِي، اللَّهُمَّ عَافِنِي فِي بَصَرِي، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ).

اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إنِّا نسْأَلُكَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ فِي دِينِنا وَدُنْيَانا وَأَهْلِنا وَأمَوالِنا.

المشاهدات 363 | التعليقات 0