﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي خلق الخلق وأبدعه ، وأحسن كل شيء خلقه ، وأمر بالتفكر في بديع صنعه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل برياته ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً ، أما بعد :-

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل وطاعته : ( (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) .

عباد الله: إن من المخلوقات العظيمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه الإبل ، قال تعالى : ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ . أفلا ينظرون نظر تأمل إلى الإبل كيف خلقها الله ، وسخرها لبني آدم . فقد جعلها الله آيةً من آياته ودليلًا من دلائل قدرته ووحدانيته ، ومن صفاتها وخُلُقِها وما جُبِلَت عليه ما هو أعجب ، ومن خالطها أو استمع إلى ما يذكره أهلها عرف ذلك . قال ابن كثير رحمه الله : « فإنها خلق عجيب ، وتركيبها غريب ، فإنها في غاية القوة والشدة ، وهي مع ذلك تلين للحمل الثقيل ، وتنقاد للقائد الضعيف ، وتؤكل ، ويُنتفع بوبرها ، ويُشرب لبنها ، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت » . وإنما أمر الله سبحانه بالنظر إليها والتفكر فيها لأن ذلك يدل على عظمة خالقها سبحانه . فلنتفكر عباد الله ، فإن في التفكر حياة للقلوب ، وزيادة في الإيمان ، وطريق إلى معرفة الرحمن .

وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ   ***   تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ

والإبل محبوبة لدى كثير من الناس لا سيما العرب ، ومن حُبهم لها وتعلقهم بها أنهم يؤثرونها على كثير من المحاب الدنيوية ، ويدافعون عنها ويستميتون دونها ، ولا يزالون يحرصون على امتلاك الإبل ، ويعتبرونها من الثروات المهمة ، بل ويعدونها من أنفس أموالهم وأغلاها ، وتكاد في نظرهم أن لا يعدلها شيء من الأموال ، خصوصاً الإبل الحُمُر ، وتُدعى بحُمْر النَّعَم ، وَهِيَ أَنْفسُ وأجود أَمْوَال الْعَرَب ، يَضْرِبُونَ بِهَا الْمَثَل فِي نَفَاسَةِ الشَّيْء ، وَأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ أَعْظَم مِنْهُ . فَعَنْ سَهْلِ بن سعدٍ رضي الله عنه ، أنَّ النَّبيَّ ﷺ قَالَ لِعَليًّ رضي الله عنه : { فو اللَّهِ لأنْ يهْدِيَ اللَّه بِكَ رجُلًا واحِدًا خَيْرٌ لكَ من حُمْرِ النَّعم } متفقٌ عليهِ . وقد ورد في الكتاب والسنة ما يدل على أن العرب سيستمرون في عنايتهم بالإبل إلى أن تقوم الساعة ،  فعن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : { وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَقَدِ انْصَرَفَ الرَّجُلُ بِلَبَنِ لِقْحَتِهِ فَلاَ يَطْعَمُهُ ، وَلَتَقُومَنَّ السَّاعَةُ وَهُوَ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلاَ يَسْقِي فِيهِ } رواه البخاري . واللقِحَةُ هي النَّاقةُ الحلوبُ ، ويَليطُ حَوْضَه ، يعني : يُصلحُ ويُطيِّنُ حَوْضَه ليسقي فيه إبله .  وأخبر سبحانه أن من علامات الساعة تعطيل الإبل وإهمالها بلا راعي من شدة هول يوم القيامة . قال تعالى : ( وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ) ، والعشار هي الحوامل التي حملها في الشهر العاشر . ومن أصحاب الإبل من يسمي الناقة الحامل ( إِلْقَحَة ) .

ولقد ورد ذِكْر الإبل في القرآن الكريم في عدة مواضع بعدة مسميات ، فذُكِرت الإبل في موضعين ، فقال تعالى : ( أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ) ، وقال تعالى : ( وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ )[الأنعام:144] ، وذُكِرَتْ الناقة في سبعةِ مواضع كلها تتعلق بقصة نبي الله صالح ، لأن الله جعلها آية ومعجزة لنبيه صالح عليه السلام ، وذُكر لفظ البعير في موضعين في قصة يوسف ، وذُكر لفظ الجمل في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ) [الأعراف:40] .

عباد الله : إن الإبل حيوانات عظيمة الخَلْق ، في معيشتها أسرار ، وفي خلقها إعجاز كبير ، ولها سلوكيات نادرة وطبائع غريبة قد لا تتوفر في أي مخلوق حي آخر . فمشيتها لاتشبه مشية بقية الحيوانات . فهي تقدم يدها اليمين مع رجلها اليمين في وقت واحد ، ثم يدها اليسار مع رجلها اليسار ، وهذا مما يزيد في جمال مشيتها ، والحيوانات الأخرى تقدم اليد اليمين مع الرجل اليسار ، ثم اليد اليسار مع الرجل اليمين . كما أن الإبل تحب صاحبها وتفرح برؤيته ، وتأتيه عند سماع صوته . ولكن إن ضربها ضرباً شديدا فلا يلومن إلا نفسه ، فإنها تنتقم منه . فسبحان من خلقها ..  أقول قولي هذا ، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب ، فاستغفروه إنه الغفور الرحيم .

 

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِيْنَ ، وَأشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيْكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِيْنَ ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ إِمَامُ الأَنبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِيْنَ ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِيْنَ ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَالتَّابِعِيْنَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ . أما بعد :-

فإن الإبل عِزٌّ لأهلها ، ففي حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رضي الله عنه ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « الإبلُ عزٌّ لأَهْلِها ، والغنمُ برَكَةٌ ، والخَيرُ معقودٌ في نَواصي الخَيلِ إلى يومِ القيامةِ » أخرجه ابن ماجه وأبو يعلى وصححه الألباني . ولكن تربية الإبل قد تكون مدعاة للخيلاء والفخر على الناس ، فعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « الفخرُ والخيلاءُ في أهلِ الإبِلِ ، والسَّكِينةُ والوقارُ في أهلِ الغنمِ » أخرجه أحمد والطبراني وصححه الألباني . فيلزم المؤمن أن يعلم أنها نعمة من الله ، ويتواضع لخلق الله ، ويبتعد عن التفاخر على الآخرين .

وفي الإبل فوائد ومنافع كثيرة يجب أن نشكر الله عليها ، يقول الله جلَّ وعلا : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ) [يس: 71 – 73] . وكلمة : (مَشَارِبُ) جمع ، قال ابن كثير : (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ) أي من الألبان والأبوال لمن أراد التداوي .

عباد الله : هناك أحكام لابد من معرفتها ، قد دلت عليها الأدلة ومنها :

1 - طهارة بول ولبن ما يؤكل لحمه كالإبل ، فيشرع الطب والتداوي بألبانها وأبوالها .

2 - وجوب الوضوء من أكل لحم الإبل ، امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، ويشمل الكبد والطحال على الصحيح ، أما اللبن والمرق فلا ينقض الوضوء .

3 - منع الصلاة في أعطان الإبل ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ  وَلَا تُصَلُّوا فِي أَعْطَانِ الإِبِلِ } رواه الترمذي  وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ . والمعاطن هي الأماكن التي اعتادت الإبل أن تبرك فيها .

4 - وجوب إخراج زكاة الإبل إذا بلغت النصاب ، وأقل النصاب خمس من الإبل .

5 – عدم المنع من حقها كما ورد في الحديث ، فقد صح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما مِن صاحِبِ إبِلٍ ولا بَقَرٍ ولا غَنَمٍ ، لا يُؤَدِّي حَقَّها ، إلَّا أُقْعِدَ لها يَومَ القِيامَةِ بقاعٍ قَرْقَرٍ تَطَؤُهُ ذاتُ الظِّلْفِ بظِلْفِها، وتَنْطَحُهُ ذاتُ القَرْنِ بقَرْنِها ، ليسَ فيها يَومَئذٍ جَمَّاءُ ولا مَكْسُورَةُ القَرْنِ قُلْنا : يا رَسولَ اللهِ، وما حَقُّها ؟ قالَ : إطْراقُ فَحْلِها ، وإعارَةُ دَلْوِها ، ومَنِيحَتُها ، وحَلَبُها علَى الماءِ ، وحَمْلٌ عليها في سَبيلِ اللهِ } رواه مسلم .

6 – تحريم لعنها ، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لعنها .

7 - ألاَّ يشغلك ما تحب من الإبل والذود عن حقوق ربك وحقوق أهلك .

هذا وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم  امتثالا لأمر ربكم : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين ، وعن سائر الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ، وانصر عبادك المؤمنين ، اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك وأيدهم بتأييدك وأعز بهم دينك ياذا الجلال والإكرام . اللهم وفقْهُم لهُدَاكَ واجعلْ عمَلَهُم في رضاكَ ، اللهم وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُهُم على الخيرِ وتعينهم عليه . اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن ، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين . اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين . { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار } . وأقم الصلاة .

 

( خطبة الجمعة 30/5/1447هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

 

المرفقات

1763586821_أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ.docx

المشاهدات 346 | التعليقات 0