أمنيات المجرمين (خطبة مكملة للخطبة السابقة بعنوان: نداءات المجرمين)

سامي بن محمد العمر
1447/05/29 - 2025/11/20 20:01PM

أمنيات المجرمين

 

أما بعد:

الندم والحسرة والتمني..

حالاتٌ من تذكر الماضي، ومواقفُ من الندم على التفريط، ولحظاتٌ من التحسر على فوات زمن البذل والطاعة والعطاء.

 

لقد مرَّ بنا في الخطبة السابقة حديث عن (نداءات المجرمين) يوم القيامة لربهم وللملائكة ولأهل الجنة ولخازن النار، وما فيها من رغبة أكيدة في إصلاح الزلات، والرجوع عن الموبقات.

واليوم نتأمل في (أمنيات المجرمين) لنأخذ منها العِبرة قبل أن تأخذنا العَبرة، ونزرع الأمل قبل أن يقتلنا الندم.

ولتكون معرفتنا بهذه الأمنيات طوقَ نجاة للأرواح الغارقة في بحار الذنوب والملهيات، وحالةَ إنعاش للقلوب الميتة برانِ الغفلة عن ربها والدار الآخرة.

فهاكم من كتاب ربكم أمنيات سيتلفظ بها أقوام مثلنا ساروا على هذه الأرض، وملؤها بالحركة والنشاط، قوة وعتادا، ومالا وأولادا، وصدودا عن الحق وعنادا، فما أغنت عنهم أموالهم ولا أولادهم ولا قوتهم ولا عنادهم... حتى أخبرنا الله عن لحظة ضعفهم وندمهم حين كُشِف لهم الغطاء، وحاق بهم البلاء {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}.

 حينذاك أفلسوا من كل شيء، ولم يبق لهم إلا الأماني؛ والأماني رؤوسُ أموال المفاليس.

فلنستمع إذن بقلوبنا لتلك الأمنيات؛ ولننظر بألبابنا ما فيها من العبر والعظات؛ ولنعزم على الإصلاح قبل الفوات، وعلى تدارك التوبة قبل الممات.

فمن أمنيات المجرمين: الرجوع للدنيا للتصديقِ المطلقِ بكل ما جاء به الوحي (كتابا وسنة)، والتزامِ طريقِ المؤمنين (محمدٍ صلى الله عليه وسلم وصحبِه)، بلا تشكيك في الثوابت ولا إعراض عن المسلمات، ولا مخالفة لأمر رب الأرض والسماوات

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: 27]

هذا مشهد الندامة والخزي والحسرة فهم يعلمون الآن أنها كانت «آيات ربنا» فلم كنتم عن الذكرى بها معرضين؟ ولسبيل أهل الإيمان مخالفين؟

وهذا هو الدرس الأول الذي نتعظ به من أمنيات المجرمين: أن نستسلم لآيات ربنا محبة وانقيادا، ورضا وقبولا، لنكون من المؤمنين.

وثاني أمنيات المجرمين: أن لو كانوا من أهل الطاعة والاستقامة، أن لو كانوا من أولئك الذين طالما وجدوا في الصفوف الأولى من المساجد، وفي الصفوف الأولى من التالين لكتاب الله، وفي الصفوف الأولى من المتنفلين والمتصدقين والصائمين والحجاج والمعتمرين.

يتمنون أن لو كانوا ممن علم حقيقة الدنيا وأنها دار طاعة وممر، لا دار معصية ومقر.

{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} [الأحزاب: 66]

فتمسكوا بطاعة الله في كل الأحوال، وأطيعوا الرسول بالأقوال والأفعال، وبرهنوا على ذلك باستغلال الأوقات بأفضل الأعمال.

 

وثالث أمنيات المجرمين وهم يعضون على الأيادي:

أن لو كانت عقولهم حاضرة ليميزوا بين من يستحق الطاعة والاتباع، والاقتداء والانصياع، وبين من حقه الهجر والطرد والنفور والمخالفة.

{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا}

إنهم شياطين الإنس والجن الذين فتحت لهم القلوب والبيوت والأجهزة؛ ليبثوا لنا كل سيء، وليزرعوا فينا كل ردئ، فالتهينا بهم عن أعظم المصالح، وأضعنا بسببهم أعظم الفرص، وفوتنا على أنفسنا مواسم الفلاح والنجاح.

(لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني) وهذا اعتراف بأن الحق قد وصل، والعلم بالفضل قد حصل؛ فلا عذر للمفرطين، واستعتاب للمتخاذلين.

والدرس من هذا أيها المؤمنون: أن نقطع حبال الملهيات، وأن نهجر الصداقات المهلكات، وأن نتمسك بذكر الله حتى لا يضلنا أحد عنه فتضيع الأعمار، ويحل الندم والخسار.

ورابع أمنيات المجرمين: اختصرت لنا في بضع كلمات {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 23، 24]

{يومئذ يتذكر الإنسان} عمله وما كان أسلفه في قديم دهره وحديثه، {وأنى له الذكرى} أي: وكيف ستنفعه الذكرى؟ {يقول يا ليتني قدمت لحياتي} يندم على ما كان سلف منه من المعاصي -إن كان عاصيا- ويود لو كان ازداد من الطاعات -إن كان طائعا-([1])

{يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} نعم، لن ينفع وأنت ترى جهنم جيئ بها تقاد بسبعين ألف زمام - بعد رحمة الله - إلا ما قدمته من عمل صالح.

تقدمه... لماذا؟ تقدمه ثمنا تشتري به الحياة الحقيقة في جنة عرضها السماوات والأرض.

فانظر لنفسك الآن أما زالت روحك في جسدك، أما زالت أنفاسك تتابع، أما زال قلبك ينبِض؟ إذن فأنت تستطيع أن تقدم لحياتك فبادر، وخض بحار الصالحات وغامر، وأدرك فضل الله في العشر القادمة وحاذر.

وحاذر أن تُسلب منك لذةُ الطاعة بسبب الإعراض، ولذةُ الرغبة في الخير بسبب الغفلة، واعلم أنك تتاجر مع رب كريم ما أجزله، إن جئته تمشي أتاك هرولة (سبحانه وتعالى)

 

بارك الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

أما بعد:

فتلك أبرز ما قص الله علينا من أمنيات المجرمين، وقد بقي لمتأمل كتاب الله من أمنياتهم في موقف الحشر؛ أنهم يفضلون القاضية المهلكة على أن يأخذوا كتابهم بشمائلهم ومن وراء ظهورهم؛ إذْ تلك علامة الخسارة والبوار {وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه، ولم أدر ما حسابيه، يا ليتها كانت القاضية}

كما لهم أمنية أخيرة في ذلك اليوم الحق الذي قال الله عنه: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}.

اللهم إنا نسألك العفو والعافية ...

 



([1]) تفسير ابن كثير، ت: السلامة (8/ 400)

المرفقات

1763658067_أمنيات المجرمين.docx

1763658068_أمنيات المجرمين.pdf

المشاهدات 258 | التعليقات 0