أهمية اغتنام فرص الحياة

أهمية اغتنام فرص الحياة 1447/6/7هـ 

أما بعد أيها الإخوة: من أعظم ما يوفق له المسلم استشعاره دومًا للغاية التي خلقَهُ اللهُ من أجلِها والتي أشار -تَعَالَى- لها بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56] وبعث الله جميع الرسل يدعون لعبادته -تَعَالَى- المتضمنة لمعرفته ومحبته، والإنابة إليه والإقبال عليه، والإعراض عما سواه.. وقد خلق الله -تَعَالَى- الموت والحياة لحكمة ابتلاء عباده فإن وُفْقُوا في حياتهم لحُسْنِ العَمَلِ نجحوا في اغتنام أول فرصة في الحياة، قال -تَعَالَى-: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:2] لذلك تتضخمُ مسئوليةُ المرءِ عن نفسِهِ، وتعظمُ حاجته للقيام بعبادة الله -تَعَالَى- واغتنام فُرَصَ الحياة فيما يرضيه -سُبْحَانَهُ-.. فقد قال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-:  لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظُهُ حَاثاً لَهُ عَلَى اغْتِنَامِ فُرَصَ الحَيَاةِ «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ» رواه الحاكم وابن ابي الدنيا في قصر الأمل والبيهقي في الشعب وصححه الألباني رحم الله الجميع، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-. أي: اظفر على وجهِ المغالبة وقهر النفس بخمس نِعَمٍ قبل خمسِ مِـحَنٍ، فإن النَّعمةَ لا تدوم على ما هي عليه في جميع الأحوال؛ فدوام الحال من المحال.. قال شيخنا محمد العثيمين -رَحِمَهُ اللهُ-: " ففي الشباب قوة وعزيمة فإذا هرم الإنسان وشاب ضعفت القوة وفترت العزيمة.. وفي الصحة نشاط وانبساط فإذا مرض الإنسان انحط نشاطه وضاقت نفسُه وثقلت عليه الأعمال.. وفي الغنى راحة وفراغ فإذا افتقر الإنسان اشتغل بطلب العيش لنفسه والعيال.. وفي الحياة ميدان فسيح لصالح الأعمال فإذا مات العبد انقطعت عنه أوقات الإمكان".. أهـ. واغتنامُ فُرصةِ الحياةِ قبل الممات بينها خالد بن معدان -رَحِمَهُ اللهُ- بقوله: إذ فُتح لأحدكم بابُ خيرٍ فليسرع إليه فإنه لا يدري متى يغلقُ عنه..

فيا أيها الأخ المبارك: اشغل أوقاتَك بالخير، وإن لم يكن فلا تُضِعْها في لهوٍ فضلًا عن معصية.. فكم من مستقبلٍ يومًا لا يستكمِلُه.. وكم من مؤمِّلٍ غدًا لا يُدركه.. وقد صَحَّ عن الحسنِ البصري -رَحِمَهُ اللهُ- أنه قال: "ما من يومٍ ينشقُ فجرُه إلا ويُنادي يا بنَ آدم، أنا خلقٌ جديد، وعلى عملِك شهيد، فتزوَّد مني بعمل صالح؛ فإني إذا مضيت لا أعود إلى يومِ القيامة".. نعم هو ينادي، ولكن بصوت غير مسموع.. لأنه نداء قلبي يحس به مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ..

واعلموا أن كلَّ دقيقة من حياة أحدنا فرصةٌ لن تُعوَّض؛ لأنه لا يمكن إرجاعُها أو تداركها، فأمس القريب الذي مرَّ مع قربِه يعجزُ أهلُ الزمانِ عن ردِّه.. ولله دَرُّ عَامِرَ بْنَ قَيْسٍ -رَحِمَهُ اللهُ- عندما رَدَّ على رَجُلٍ قَال له: قِفْ فَكَلِّمْنِي. فَقَالَ: أَمْسِكْ الشَّمْسَ.!. ومع كل أسف هذا المعنى الضخم للحياة لم يستوعبه كثير من المسلمين.. فضاعت حياتهم سبهللا..

ففي الحياة فرصٌ كثيرة لكسب الخير قد لا تعوض، وكثير من الناس لا يلتفتون إليها.. فمن تفطن لذلك أدرك أنَّه بكل نَفَسٍ تذروه نفسُه تسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة، وهي غراس الجنة، والجَنَّةَ طَيِّبَةُ التُّرْبَةِ عَذْبَةُ المَاءِ، وَهِيَ قِيعَانٌ، وَ‌غِرَاسُهَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ.. رواه الترمذي عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني. فأين نحن من هذه الفرص.؟

ومن الفرص التي نغفل عنها إتباع السيئةِ الحسنة: وذلك بالتوبة من الذنب والاستغفار قبل أن يسجلها الـمَلَك في صحيفته، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ صَاحِبَ الشِّمَالِ لِيَرْفَعُ الْقَلَمَ سِتَّ سَاعَاتٍ عَنِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ أَوْ الْمُسِيءِ، فَإِنْ نَدِمَ وَاسْتَغْفَرَ اللهَ مِنْهَا، أَلْقَاهَا، وَإِلَّا كُتِبَتْ وَاحِدَةً» رواه الطبراني عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني.. وإن فاتت الساعات الست ولم يندم ويستغفر فهل تفوت عليه الفُرص.؟ لا. -ولله الحمد- فقد أتاح الإسلام للْعَبْدِ الْمُسْلِمِ الْمُخْطِئِ فرصًا أخرى أكثر فضلًا وأعظم أجرًا قَالَ الله تعالى: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70] وَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: لِأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا عَمِلْتَ سَيِّئَةً، فَاعْمَلْ حَسَنَةً، فَإِنَّهَا عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ» قال أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- راوي الحديث فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَمِنْ الْحَسَنَاتِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟ قَالَ: «هِيَ أَفْضَلُ الْحَسَنَاتِ» رواه الترمذي وأحمد عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وحسنه الألباني..

فتأمل أيها المبارك: رَحمَةَ اللهِ بالمذنب كيف يُعطيه الفُرصةَ تلو الفرصة.. فبعد الوقوع بالذنب يُمْهل المذنبُ ستَّ ساعات لعله يستغفر ويتوب.. فإن لم يستغفر ويتوب وانتهت الساعات الست.. ثم وُفق لفعل حسنة محت تلك الحسنةُ السيئةَ، وكُتبت الحسنةُ عشرُ حسنات، ومن أَفْضَلِ الْحَسَنَاتِ وأيسرِها أن يقول العبد: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ"...!!

"فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" ما أوسعها من فرص.. "وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ" ما أجزله من عطاء.! فهل بعد هذا الحِلم الواسعِ حِلْم.؟ وهل بعد هذا العطاء الجزل عطاء.؟ فاللهم لك الحمد..

قِيلَ لِلْحَسَنِ -رَحِمَهُ اللهُ-: أَلَا يَسْتَحْيِي أَحَدُنَا مِنْ رَبِّهِ يَسْتَغْفِرُ مِنْ ذُنُوبِهِ، ثُمَّ يَعُودُ، ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ، ثُمَّ يَعُودُ، فَقَالَ: "وَدَّ الشَّيْطَانُ لَوْ ظَفِرَ مِنْكُمْ بِهَذِهِ، فَلَا تَمَلُّوا الِاسْتِغْفَارَ".. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَرَى هَذَا إِلَّا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي: أَنَّ الْمُؤْمِنَ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ، وفي الحديث «إِنَّ ‌المُؤْمِنَ ‌خُلِقَ ‌مُفَتَّناً ‌تَوَّاباً نَسَّاءً، إِذَا ذُكِّرَ ذَكَرَ» رواه الطبراني وصححه الألباني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- في صحيح الجامع. جعلنا الله ممن إذا أذنب تاب واستغفر، وإذا ذُكر ذكر.. وبارك لنا بالقرآن والسنة وجعلنا من الراشدين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم...

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: ومن الفرص المهمة: المبادرة بالتحلل ممن ظلمته قبل أن تُسلب منك حسناتك يوم القيامة، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلِمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ أَخِيهِ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ» رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-. وقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ مَاتَ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ أَوْ دِرْهَمٌ، قُضِيَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ» رواه ابن ماجة عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وصححه الألباني.

ومن الفرص التي نغفل عنها في يوم الجمعة الإكثار من الصلاة على النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ قَالَ «إِنَّ مِنْ أَفْضَلِ أَيَّامِكُمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدمُ، وَفيهِ النَّفْخَةُ، وَفيهِ الصَّعْقَةُ، ‌فَأكثِرُوا ‌عَلَيَّ ‌مِنَ ‌الصَّلَاةِ ‌فِيهِ؛ فَإنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وابن حبان في صحيحه، عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني.. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرَ صَلَوَاتٍ، وَحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطِيئَاتٍ، وَرُفِعَتْ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» رواه النسائي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وصححه الألباني.. وهذا الأجر ثابت في كل وقت ولكن حث النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- على الإكثار منه يوم الجمعة..

أيها الإخوة: ولقد وفق بعض عباد الله لاستثمار الفرص؛ فقد رأيت عاملًا في أحد الأسواق الكبيرة يضع البضائع في الأكياس وهو يسبح ويهلل ويُحَمد.. وصليت في المسجد الحرام يومًا بجنب رجل أتى من أحد البلاد ليؤدي العمرة، وكان طوال الوقت يصلي النافلة تلو النافلة وكان يخففها وحاورته فقال: أتيت من بلادي من أجل أن أصلي ولست مثلكم تأتون متى شئتم..

وبعد أيها الإخوة: يقول ابنُ القيمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا حَضَرَتْ لَهُ فُرْصَةُ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَالْحَزْمُ كُلُّ الْحَزْمِ فِي انْتِهَازِهَا وَالْمُبَادَرَةِ إِلَيْهَا، وَالْعَجْزُ فِي تَأْخِيرِهَا وَالتَّسْوِيفِ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَثِقْ بِقُدْرَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهَا، فَإِنَّ الْعَزَائِمَ وَالْهِمَمَ سَرِيعَةُ الِانْتِقَاضِ قَلَّمَا ثَبَتَتْ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَاقِبُ مَنْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنَ الْخَيْرِ فَلَمْ يَنْتَهِزْهُ، بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَلَا يُمْكِّنُهُ بَعْدُ مِنْ إِرَادَتِهِ عُقُوبَةً لَهُ، فَمَنْ لَمْ يَسْتَجِبْ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ إِذَا دَعَاهُ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِجَابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالَ تَعَالَى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)" أهـ [الأنفال:24].. زاد المعاد في هدي خير العباد. جعلنا الله ممن يستثمر الفرص إذا لاحت وثبتنا على دينه..

 

 

المشاهدات 357 | التعليقات 0