إنَّ هذا العِلْمُ دِيْنٌ فَانظُروا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
إنَّ هذا العِلْمُ دِيْنٌ فَانظُروا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا . ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ . أما بعد :-
فإن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار .
عباد الله : العلمُ النَّافِعُ شَرَفٌ لِأَهلِهِ ورفعَةٌ لهم في الدَّارينِ ، قالَ اللهُ جَلَّ وعلا : ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ . وَصَاحِبُ العِلمِ حقِيقةً هو الذي يَعملُ بِعلمِهِ ، وَيكونُ قُدوةً لِغيرهِ . يَقِفُ عِندَ حُدُودِ اللهِ ، يَقُولُ بالحقِّ ويُرضي الربَّ , ولا يُتاجِرُ بِدِينِهِ بِعَرَضٍ من الدُّنيا . يتأدَّبُ بِشرعِ اللهِ ، وَيَتَحَلَّى بِأخلاقِ الإسلام ، كلُّ مَنْ رآهُ أَحَبَّهُ واقتَدَى به . صَاحِبُ العِلمِ النَّافِعِ هو الذي إذا سُئِلَ أَبَانَ الحقَّ بلا ريبٍ ولا التباسٍ ؛ وِفْقَ ما دلَّ عليه الكتابُ والسُّنةُ على فهم سلف الأمة .
والعِلم النَافِع المبني على الكتاب والسنة بفهم السلف تَحتَاجُه الأمَّةُ ، لِيهديَها من الضَّلالَةِ ، ويُنقذَها من الغواية ، ويخرجَها مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ . وقد حضَّ الله على ذلك فقال : ﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُون ﴾ . فعلى المرء المسلم أن يأخذ العلم الشرعي من مصدره الصافي ، من الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، وأن يسأل أهل العلم الموثوقين ؛ المشهود لهم بالعلم والصلاح والتقوى والورع عما أشكل عليه معرفته .
فالمسلم مُطالَبٌ بالبَحثِ والتحرِّي عمَّن يأخُذ منهُ دِينُه وفتواه ، فليس كل طريق موصلًا إلى المقصود ، ولا كل كلمة تقال حقًّا ، فإن الكلمة إنما تأخذ قيمتها من قائلها ، ومصدرها ، والنية التي قيلت من أجلها ، وهذه قاعدة من القواعد التي وضعها أئمة الإسلام ، قاعدة تُلزِم كل طالبِ علمٍ أن يضبط ميزانه ، وأن يزِن بها أقوال الرجال ، وأفعالهم ومناهجهم ، قبل أن يأخذ عنهم العلم ، وهي كلمة قالها الإمام الجليل محمد بن سيرين رحمه الله ، ذلك التابعيُّ الذي أدرك الصحابة وروى عنهم ، فأدرك كيف يختلط في الدين ؛ الحقُّ بالباطل ، وكيف يتسلل الدخيل إلى الأصيل ، فكان حريصًا على تنبيه المسلمين إلى خطورة التلقي العشوائي ، فقالها قاعدةً جليلة : " إنَّ هذا العِلْمُ دِيْنٌ ؛ فَانظُروا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم " .
عباد الله : إن من يتأمل أحوال الناس يجِد العَجب العُجاب ؛ ترى الرجل يُحكم إغلاق بيته خشيةَ اللصوص ، ويختار طعامه بعناية خوفًا من السُّمِّ ، ويمضي أيامًا يسأل عن طبيب ماهر ليعالج جسده ، لكنه حين يتعلق الأمر بدينه يأخذ العلم والفتوى عن كل من هبَّ ودبَّ ، ويستمع إلى كل ناعقٍ في الفضائيات ، ويَتلقَّى أحكام الشريعة من صفحات مجهولة في زوايا الإنترنت .
عباد الله : إن مما ابْتُلِي المسلمون به في هذا الزمان تَصَدُّر أقوام للفتوى ، ممن قَصُرَ في العلم باعهم ، يخوضون في نوازل عامة ، وقضايا هامة ، بلا علم ولا روية ، فيخبطون خبط عشواء ، ويأتون بما يضاد الشريعة الغراء ، من الإفتاء والقول على الله بغير علم ، وتتبع الأقوال الشاذة التي لا يخفى على من له أدنى بصيرة مفاسدها الكبيرة على الدين . رؤوس جُهَّال ، ضَلُّوا وأضَلُّوا ، وزاد شررهم وعَظُمَ خطرهم في مواقع التواصل الاجتماعي ومنصاتها ، وقنوات وفضائيات مشبوهة تفرح بباطلهم للإساءة للإسلام والمسلمين . فكيف يرضى العاقل أن يكون دينه - وهو رأس ماله في الدنيا والآخرة - عرضةً للأخذ عن غير أهله ؟! كيف يثق بمن لا يعرف حاله ، ولا يدري أهو من أهل العلم والورع ، أم من المتعالِمِين وأصحاب الأهواء ؟! .
إن الدين أغلى ما يملكه العبد ، وهو سبب نجاته يومَ لا ينفع مال ولا بنون ، فكيف يُفَرِّطُ فيه ؟ وكيف يُسَلِّمٌه إلى كل من ادَّعى العلم ، أو تكلف الفتوى ، أو اغترَّ بشهرته وأسلوبه ؟ . نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع ، وأن يجعلنا من أهل السنة والاتباع ، وأن يحفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه . أقول قولي هذا ، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب ، فاستغفروه وتوبوا إليه ، إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله رب العالمين ، رَفَعَ شَأنَ العلماءِ العَامِلينَ , والدُّعاةَ الصَّادِقينَ , وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حقٍّ وصدقٍ ويقين ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الصَّادقُ النَّاصحُ الأمين ، صلَّى اللهُ وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان وإيمانٍ إلى يوم الدين . أما بعد :-
فإن العلم الشرعي هو النور الذي يُهتدَى به إلى الله ، وهو الميزان الذي تُوزن به العبادات ، وهو السياج الذي يحمي الشريعة من تحريف الغالين ، وانتحال المُبطلين ، وتأويل الجاهلين . وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يعلمون أن العلم هو باب الدين ، فكانوا يَحْذَرون أشدَّ الحذر من تلقِّيه عن غير الثِّقات ، وكانوا يختبرون الرجال قبل أن يأخذوا عنهم ، فلما كثر الوضَّاعون ، وظهر أقوام يدُسون في الدين ما ليس منه، قال ابن سيرين كلمته المشهورة : " إنَّ هذا العِلْمُ دِيْنٌ ؛ فَانظُروا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم " ، لِيُلفِت أنظار طلاب العلم إلى أن الأمر ليس بالتساهل الذي يتصوره البعض ، فإن الفساد إذا دخل في العلم ، أفسَد العقائد ، وأفسد العبادات ، وأفسد الأمة كلها .
فإن الإنسان إذا لم يكن على بينة من مصادر علمه ، وقع في شَرَكِ أهل الأهواء ، وأرباب البدع ، والذين يُلَبِّسون على الناس دينهم ، فيُلقون إليهم بالأباطيل في ثياب الحق ، ويُلَبِّسون عليهم أمر الشريعة حتى يظنوا أنهم على شيء وليسوا على شيء . لهذا كان العلماء يُحَذِّرون أشد التحذير من الأخذ عن كل أحد ، فليس كل من حمل كتابًا أو لبس بشتاً أو ألقى خطبة يعتبر عالمًا ، ولا كل ذي لحية أو من حفِظ حديثًا يعتبر فقيهاً ، ولا كل ذي تمتمة بالذكر ؛ مخلصا حريصا على الدين والأمة ، وإنما العلم يُؤخَذ عن أهله ؛ أهلِ الورع والتقوى ، أهل العلم والدِّيانة ، الذين سلكوا طريق العلماء قبلهم ، وأخذوا عن الثقات ، وأثبتوا أمانتهم في هذا الدين .
وإذا كان لا بد من التثبت في الأخذ ، فإن أول ما يُنظر فيه هو حال العالِم الذي يُقتدى به ، فإن وجدناه على الجادة ، عالمًا ورِعًا ، متبعًا للسنة ، محافظًا على أصول الدين ، فذاك الذي يُستمع إليه ويُؤخذ عنه . أما إن كان الرجل من الذين يتَّبعون الهوى ، ويُهَوِّنون أمر البدعة ، ويستعجلون في الفتوى بغير علم ، فذاك الذي يجب الحذر منهم . فإن دينك هو رأس مالك ، وهو أثمن ما تملك ، فإياك أن تجعله عرضةً لكل متكلمٍ ، أو أن تأخذه عن كل من تصدَّر بلا علم ولا ورع ، واعلم أن انحراف الأمم لم يكن إلا حين استمعوا إلى الجهَّال ، وتركوا العلماء الذين يعيشون بالله وفي الله ومع الله ، ربانيون ، همّهم دينهم وأمتهم والعالم كله ، غير متقوقعين على مصالحهم الخاصة ، ولا يبيعون دينهم بعرض من الدنيا ، كما هي حال رموز الأحزاب والجماعات كالأخوان المسلمين والسرورية الذين يربطون الناس بهم ويحذِّرونهم من العلماء ، فاختلطت عليهم السُّبُل ، وزاغت بهم الأقدام ، حتى أوردهم الباطلُ المهالكَ ، فلا تغتر ببلاغة الرجل إن لم يكن معها علم نافع ، ولا تنخدع بكثرة المتابعين إن لم يكن صاحبها على صراط مستقيم ، بل كُن على الجادَّة ، واقتدِ بالسلف الصالح ، ولا تسألوا في دينكم إلا من يُوثق بعلمه وَوَرَعِهِ ممن يَسْتَنِدُ في فتاواه على الدليل ، كاللجنة الدائمة وهيئة كبار العلماء عندنا في السعودية : ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ ، وكذلك دعاة الوسطية والاعتدال ، واحْذَروا وحَذِّروا من دعاة شق عصا الطاعة ؛ ومثيري الفتن ، الذين يُظْهِرُون المعايب والأخطاء ؛ ويَغُضُّون الطَّرف عن المحاسن ، الرؤوس الجُهال ، ومُدَّعي العلم الضُلَّال .. هذا وصلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ . اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين ، وعن سائر الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنَّا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ، وانصر عبادك المؤمنين . اللهم آمِنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم احفظ إمامنا وولي عهده بحفظك وأيدهم بتأييدك وأعز بهم دينك ياذا الجلال والإكرام . اللهم وفقْهُم لهُدَاكَ واجعلْ عمَلَهُم في رضاكَ ، اللهم وارزقْهُم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُهُم على الخيرِ وتعينهم عليه ، اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلا ووفقنا لاجتنابه ، ولا تجعله ملتبساً علينا فَنَضِّل ، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك ، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا ، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز ، اللهم أمّن حدودنا واحفظ جنودنا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات برحمتك يا أرحم الراحمين : ﴿ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ﴾ . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 24/12/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1750141490_إنَّ هذا العِلْمُ دِيْنٌ فَانظُروا عَمَّن تَأخُذُونَ دِينَكُم.docx