اتركها لله.
أسامة بن سعود عبد الله التميمي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
اتركها لله.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُحِلُّ لِعِبَادِهِ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيُعَوِّضُ مَنْ تَرَكَ لِأَجْلِهِ خَيْرًا مِمَّا تَرَكَ.
نَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ، الدَّالُّ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ، الْمُحَذِّرُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ،
فَإِنَّ رَبَّكُمْ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ…
لِلشَّهَوَاتِ سُلْطَانٌ عَلَى النُّفُوسِ، وَتَمَكُّنٌ فِي الْقُلُوبِ، فَتَرْكُهَا عَزِيزٌ، وَالْخَلَاصُ مِنْهَا عَسِيرٌ، إِلَّا عَلَى مَنْ يَسَّرَ اللَّهُ لَهُ الْأَمْرَ، وَأَعَانَهُ وَسَدَّدَهُ؛ فَمَنِ اتَّقَى اللَّهَ كَفَاهُ، وَمَنِ اسْتَعَانَ بِهِ أَعَانَهُ، {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ:
«إِنَّمَا يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي تَرْكِ الْمَأْلُوفَاتِ وَالْعَوَائِدِ مَنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَمَّا مَنْ تَرَكَهَا صَادِقًا مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي تَرْكِهَا مَشَقَّةً إِلَّا فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ لِيُمْتَحَنَ أَصَادِقٌ هُوَ فِي تَرْكِهَا أَمْ كَاذِبٌ فَإِنْ صَبَرَ عَلَى تِلْكَ الْمَشَقَّةِ قَلِيلًا اسْتَحَالَتْ لَذَّةً، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: سَمِعْتُ شُرَيْحًا يَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا تَرَكَ عَبْدٌ لِلَّهِ شَيْئًا فَوَجَدَ فَقَدَهُ، وَقَوْلُهُمْ: مَنْ تَرَكَ لِلَّهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ حَقٌّ، وَالْعِوَضُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ، وَأَجَلُّ مَا يُعَوَّضُ بِهِ الْأُنْسُ بِاللَّهِ، وَمَحَبَّتُهُ، وَطُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِهِ، وَقُوَّتُهُ، وَنَشَاطُهُ، وَفَرَحُهُ، وَرِضَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى».
إِذًا؛ فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾،
وَقَالَ سُبْحَانَهُ:
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بَدَّلَكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ.» صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَاعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ!
أَنَّ لَيْسَ كُلَّ تَرْكٍ مَحْمُودًا، فَرُبَّ شَخْصٍ يَتْرُكُ طَاعَةً أَوْ مَعْرُوفًا، أَوْ يَتْرُكُ الْمَعْصِيَةَ حَيَاءً مِنَ النَّاسِ لَا تَعْظِيمًا لِحَقِّ اللَّهِ؛ هَذَا لَمْ يَبْنِ لِتَرْكِهِ عَلَى الْإِخْلَاصِ.
التَّرْكُ لِلَّهِ هُوَ أَنْ تَقُولَ بِقَلْبِكَ:
يَا رَبِّ، تَرَكْتُ هَذَا، حُبًّا لَكَ، وَخَوْفًا مِنْكَ، وَرَجَاءً لِمَا عِنْدَكَ.
وَهُنَا تَأْتِي فِكْرَةُ التَّفْكِيرِ لِلَّهِ وَالتَّفْكِيرِ بِاللَّهِ:
تَفْكِيرٌ لِلَّهِ: أَنْ تَجْعَلَ قَرَارَاتِكَ وَاخْتِيَارَاتِكَ مَبْنِيَّةً عَلَى: هَلْ هَذَا يُرْضِي اللَّهَ؟
وَتَفْكِيرٌ بِاللَّهِ: أَنْ تُكْثِرَ مِنْ تَذَكُّرِ ثَوَابِ اللَّهِ، وَعِوَضِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ؛ فَتَسْتَحْضِرَ أَنَّهُ كَرِيمٌ، لَا يَتْرُكُ عَبْدًا تَرَكَ شَيْئًا لِأَجْلِهِ بِلَا عِوَضٍ.
كُلَّمَا هَمَمْتَ بِتَرْكِ شَهْوَةٍ أَوْ هَوًى، فَقُلْ لِنَفْسِكَ:
مَاذَا أَعَدَّ اللَّهُ لِمَنْ تَرَكَ شَهْوَتَهُ لِأَجْلِهِ؟ مَاذَا أَرْجُو مِنْ عِوَضِ اللَّهِ؟ كَيْفَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيَّ الْآنَ؟
▫️ اللَّهُ لَا يَحْرِمُ عِبَادَهُ شَيْئًا إِلَّا عَوَّضَهُمْ خَيْرًا مِنْهُ:
حَرَّمَ عَلَيْهِمُ الرِّبَا وَعَوَّضَهُمُ التِّجَارَةَ الرَّابِحَةَ، وَحَرَّمَ الزِّنَا وَأَعَاضَهُمُ النِّكَاحَ، وَحَرَّمَ الْخَمْرَ وَأَعَاضَهُمْ الْأَشْرِبَةَ اللَّذِيذَةَ، وَحَرَّمَ آلَاتِ اللَّهْوِ وَأَعَاضَهُمْ سَمَاعَ الْقُرْآنِ… فَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا، هَانَ عَلَيْهِ تَرْكُ الْهَوَى، وَعَرَفَ حِكْمَةَ اللَّهِ وَرَحْمَتَهُ.
فَانْظُرْ يَا عَبْدَ اللَّهِ كَيْفَ أَنَّ تَرْكَ الْحَرَامِ لَيْسَ حِرْمَانًا، بَلْ هُوَ انْتِقَالٌ إِلَى مَا هُوَ أَنْفَعُ وَأَبْقَى وَأَطْهَرُ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ!
اعْلَمُوا أَنَّ لَذَّةَ قَهْرِ الْهَوَى لَيْسَ لَهَا مُنْتَهًى، وَالتَّخَلُّصَ مِنْ بَلْوَى الْمَعْصِيَةِ غَايَةٌ تُرْتَجَى، وَالتَّحَلِّيَ بِالتَّقْوَى أَسْمَى الْمُنَى، وَلَا يُدْرَكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْخَيْرِ وَالْعَطَاءِ بِالْأَمَانِيِّ، وَإِنَّمَا بِتَرْكِ الْعَجْزِ وَالتَّوَانِي، وَالْمُوَفَّقُ مَنْ لَا يَزَالُ مَعَ نَفْسِهِ فِي تَرْغِيبٍ وَتَرْهِيبٍ، وَمُحَاسَبَةٍ وَتَدْرِيبٍ حَتَّى تَسْتَقِيمَ.
تَقْهَرُ هَوَاكَ فِي الْبَصَرِ تَجِدْ لَذَّةَ النُّورِ فِي بَصِيرَتِكَ.
تَقْهَرُ هَوَاكَ فِي الْكَلَامِ تَجِدْ لَذَّةَ الصَّمْتِ عَنِ الْحَرَامِ وَطِيبَ الذِّكْرِ بَيْنَ الْأَنَامِ.
تَقْهَرُ هَوَاكَ فِي الِانْتِقَامِ؛ تَجِدْ لَذَّةَ الْعَفْوِ وَسَعَةَ الصَّدْرِ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ…
لِلنَّظَرِ الْحَرَامِ لَذَّةٌ عَابِرَةٌ، لَكِنَّهَا تَتْبَعُهَا غَفْلَةٌ، وَضِيقٌ فِي الصَّدْرِ، وَظُلْمَةٌ فِي الْقَلْبِ، وَوَحْشَةٌ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.
أَمَّا حِفْظُ الْبَصَرِ لِلَّهِ:
فَأَوَّلُهُ مَشَقَّةٌ وَمُكَابَدَةٌ؛ يُجَاهِدُ الْعَبْدُ نَفْسَهُ لِيَغُضَّ بَصَرَهُ، وَيَصْرِفَ عَيْنَهُ، وَيُغْلِقَ النَّافِذَةَ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا الشَّيْطَانُ.
ثُمَّ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَجِدَ لَذَّةَ رَاحَةٍ فِي قَلْبِهِ، وَبَرَكَةً فِي وَقْتِهِ، وَخُشُوعًا فِي صَلَاتِهِ، وَحَلَاوَةً فِي طَاعَتِهِ لَا يَجِدُهَا مَنِ اسْتَسْلَمَ لِلَحَظَاتِ النَّظَرِ.
فَكَمَا أَنَّ لِلنَّظَرِ الْحَرَامِ لَذَّةً مُؤَقَّتَةً، فَإِنَّ لَذَّةَ حِفْظِ الْبَصَرِ أَعْظَمُ وَهِيَ لَذَّةٌ دَائِمَةٌ، لَكِنَّهَا تَأْتِي بَعْدَ الصَّبْرِ وَالْمُجَاهَدَةِ.
انْظُرْ إِلَى الْغِيبَةِ: لَهَا لَذَّةٌ فِي الْمَجْلِسِ، وَشَهْوَةٌ لِلْحَدِيثِ، لَكِنَّهَا تَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ، وَتُورِثُ سَوَادَ الْقَلْبِ.
وَمَنْ تَرَكَهَا لِلَّهِ، وَاسْتَبْدَلَهَا بِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ أَوِ السُّكُوتِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ صَفَاءَ قَلْبٍ، وَحِفْظَ عِرْضِهِ، وَسَتْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
كَذَلِكَ الْكَذِبُ: مَخْرَجٌ سَرِيعٌ، لَكِنَّهُ بَابٌ إِلَى الْفُجُورِ، وَسُقُوطُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَالْخَلْقِ.
وَمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ لِلَّهِ، وَلَوْ فَاتَتْهُ بَعْضُ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ ثِقَةً فِي الْقُلُوبِ، وَرِفْعَةً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
الزِّينَةُ الْمُحَرَّمَةُ وَالتَّبَاهِي بِالْمَظَاهِرِ الْفَارِغَةِ:
قَدْ يَجِدُ فِيهَا صَاحِبُهَا إِعْجَابَ النَّاسِ، لَكِنَّهُ إِعْجَابٌ مُؤَقَّتٌ، يَذْهَبُ وَيَبْقَى الْأَثَرُ فِي الصَّحَائِفِ.
أَمَّا مَنْ تَرَكَ الْخُيَلَاءَ وَاللِّبَاسَ الْمُحَرَّمَ، وَتَرَكَ إِسْرَافَ الْمَظَاهِرِ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ وَقَارًا، وَجَمَالًا حَقِيقِيًّا فِي الْقُلُوبِ، وَبَرَكَةً فِي الرِّزْقِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ تَرَكَ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْ مَحَبَّتِهِ، وَعِبَادَتِهِ، وَالْأُنْسِ بِهِ، مَا يُفُوقُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا كُلَّهَا.
عِبَادَ اللَّهِ، تَأَمَّلُوا حَالَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَكَيْفَ تَرَكُوا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَعَوَّضَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا كَثِيرًا..
فَهَذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَرَكَ قَوْمَهُ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً، وَإِمَامَةً فِي الدِّينِ.
وَهَذَا يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا تَرَكَ الْفَاحِشَةَ، وَآثَرَ السِّجْنَ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، عَوَّضَهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالتَّمْكِينَ وَالْجَاهَ.
وَهَاهُمْ أَصْحَابُ الْكَهْفِ لَمَّا تَرَكُوا أَهْلَهُمْ وَقَوْمَهُمْ لِلَّهِ، عَوَّضَهُمُ اللَّهُ حِفْظًا وَذِكْرًا حَسَنًا إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَانْظُرُوا إِلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا تَرَكُوا وَطَنَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ لِلَّهِ، أَعْطَاهُمُ اللَّهُ دِينًا مَتِينًا، وَرِزْقًا وَاسِعًا، وَعِزًّا وَتَمْكِينًا.
هَذِهِ سُنَّةٌ رَبَّانِيَّةٌ: مَنْ تَرَكَ شَيْئًا لِلَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ.
عِبَادَ اللَّهِ!
هُنَاكَ أُمُورٌ تَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ، وَرُبَّمَا لَا نَقْدِرُ عَلَيْهَا بِطَبْعِنَا وَبِعَادَتِنَا، لَكِنَّهَا تَهُونُ إِذَا تَذَكَّرْنَا أَنَّهَا لِلَّهِ:
التَّغَافُلُ لِلَّهِ:
أَحْيَانًا تُؤْذِيكَ كَلِمَةٌ، أَوْ مَوْقِفٌ، أَوْ زَلَّةٌ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ صَدِيقٍ، وَتَسْتَطِيعُ أَنْ تَرُدَّ، وَأَنْ تُحَاسِبَ، لَكِنَّكَ تَتَغَافَلُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ.
أَوَّلُ الْأَمْرِ ثَقِيلٌ، لَكِنَّكَ سَرْعَانَ مَا تَجْنِي عِوَضًا عَجِيبًا:
رَاحَةَ قَلْبٍ، صَفَاءَ صَدْرٍ، مَحَبَّةً فِي الْقُلُوبِ، وَسَتْرًا مِنَ اللَّهِ.
الِاعْتِذَارُ لِلَّهِ:
أَحْيَانًا لَا تَكُونُ مُخْطِئًا، وَمَعَ ذَلِكَ تُبَادِرُ بِالِاعْتِذَارِ طَلَبًا لِلْإِصْلَاحِ، وَقَطْعًا لِبَابِ الشَّيْطَانِ، وَابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ؛
فَتَجِدُ بَعْدَهَا سَكِينَةً، وَتَوْفِيقًا، وَرِفْعَةً عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُفْهِمْكَ النَّاسُ.
الصَّبْرُ عَلَى الْعِبَادَاتِ:
الْقِيَامُ لِلْفَجْرِ، الصَّبْرُ فِي الصَّوْمِ، الْمُحَافَظَةُ عَلَى وَرْدِ الْقُرْآنِ… كُلُّهَا مَشَاقٌّ،
لَكِنْ إِذَا رَبَطْتَهَا بِـ «لِلَّهِ»، هَانَتْ، وَصَارَ التَّعَبُ لَذَّةً، وَالْجُهْدُ أُنْسًا.
وَتَدَبَّرُوا قَوْلَهُ تَعَالَى، قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:
﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
وَتَذَكَّرُوا مَاذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْجَنَّةِ عِنْدَمَا قَالَ:
«مَوْضِعُ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.»
فَمَا تَخْلِيهِ الْيَوْمَ لِلَّهِ — مِنْ نَظْرَةٍ مُحَرَّمَةٍ، أَوْ كَلِمَةٍ آثِمَةٍ، أَوْ عِلَاقَةٍ تَجُرُّكَ، أَوْ مَالٍ يَذْهَبُ بَرَكَةُ عُمُرِكَ، أَوْ جَاهٍ زَائِفٍ يُفْسِدُ قَلْبَكَ — فَإِنَّ اللَّهَ يُعَوِّضُكَ عَنْهُ سَعَةً فِي صَدْرِكَ، وَنُورًا فِي قَلْبِكَ، وَبَرَكَةً فِي حَيَاتِكَ، وَثَوَابًا لَا يَفْنَى فِي جَنَّتِهِ… عِوَضٌ يُنْسِيكَ كُلَّ مَا تَرَكْتَ.
وَعِوَضُ اللَّهِ أَخَيْرُ وَأَعْظَمُ..
فَفِي قَلْبِكَ: أُنْسًا بِاللَّهِ، طُمَأْنِينَةً، قُوَّةَ إِيمَانٍ.
وَفِي دُنْيَاكَ: رِزْقًا مَبَارَكًا، صِحَّةً وَعَافِيَةً، قَبُولًا فِي الْأَرْضِ.
وَفِي آخِرَتِكَ: جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ.
فَاتْرُكْ لِلَّهِ وَلَا تَتَرَدَّدْ.
اتْرُكْ لِلَّهِ وَلَا تَتَرَدَّدْ…
اتْرُكْ ذَلِكَ الذَّنْبَ الَّذِي أَثْقَلَكَ سِنِينَ:
اتْرُكِ التَّدْخِينَ الَّذِي نَخَرَ صَدْرَكَ…
اتْرُكِ النَّظْرَةَ الْمُحَرَّمَةَ الَّتِي أَحْرَقَتْ قَلْبَكَ…
اتْرُكْ تِلْكَ الْعَادَةَ السَّرِّيَّةَ الَّتِي سَلَبَتْ نُورَ وَجْهِكَ…
اتْرُكْ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ الَّتِي نَزَعَتِ الْبَرَكَةَ مِنْ أَيَّامِكَ…
اتْرُكِ الصُّحْبَةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي جَرَّتْكَ بَعِيدًا عَنْ رَبِّكَ…
اتْرُكْ كُلَّ مَا يُبْعِدُكَ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ أَعَزَّ شَيْءٍ عَلَى نَفْسِكَ.
قَدْ تَتَأَلَّمُ فِي الْبَدَايَةِ…
قَدْ تُصَارِعُ هَوًى…
وَقَدْ تَبْكِي مِنْ شِدَّةِ الْمُجَاهَدَةِ…
لَكِنَّهَا دُمُوعُ الطَّرِيقِ إِلَى اللَّهِ،
وَاللَّهُ لَا يُضَيِّعُ دَمْعَةً خَرَجَتْ خَوْفًا مِنْهُ،
وَلَا خُطْوَةً تُقْطَعُ فِي سَبِيلِهِ،
وَلَا ذَنْبًا يُتْرَكُ رَجَاءَ وَجْهِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ:
(مَنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَمَنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً).
لَقَدْ حَانَ الْوَقْتُ! ارْفُقْ بِنَفْسِكَ…
اغْسِلْ قَلْبَكَ مِنْ أَثْقَالِهِ…
وَتَذَكَّرْ: مَا تَرَكْتَ لِلَّهِ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاكَ خَيْرًا مِنْهُ، سَكِينَةً، وَقُرْبًا، وَقُوَّةً، وَانْشِرَاحًا.
وَإِذَا وَجَدْتَ الْأَلَمَ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ، فَاصْبِرْ،
فَقَدْ قَالُوا: أَوَّلُ الْمُجَاهَدَةِ مَشَقَّةٌ، وَآخِرُهَا لَذَّةٌ وَطُمَأْنِينَةٌ.
وَسَتَعْلَمُ يَوْمًا أَنَّكَ لَمْ تَتَخَلَّ عَنْ شَيْءٍ… بَلْ تَخَلَّصْتَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ يُثْقِلُكَ، لِيَهَبَكَ اللَّهُ مَا يَرْفَعُكَ.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ تَرَكَ لِلَّهِ، وَمَنْ فَعَلَ لِلَّهِ، وَمَنْ كَانَتْ حَيَاتُهُ كُلُّهَا لِلَّهِ، فَرَفَعَهُ اللَّهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دِينِكَ.
اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا صِدْقَ التَّوْبَةِ، وَقُوَّةَ الْمُجَاهَدَةِ، وَلَذَّةَ قَهْرِ الْهَوَى، وَحَلَاوَةَ الْإِيمَانِ.
اللَّهُمَّ طَهِّرْ أَبْصَارَنَا مِنَ الْحَرَامِ، وَأَلْسِنَتَنَا مِنَ الْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ، وَقُلُوبَنَا مِنَ النِّفَاقِ وَالرِّيَاءِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ تَرْكَنَا لِلْمَعَاصِي خَالِصًا لِوَجْهِكَ، وَعَوِّضْنَا عَنْ كُلِّ مَا نَتْرُكُهُ لِأَجْلِكَ خَيْرًا فِي دِينِنَا وَدُنْيَانَا وَآخِرَتِنَا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ، وَرُدَّهُمْ إِلَيْكَ رَدًّا جَمِيلًا، وَاحْفَظْ بِلَادَنَا، وَوَفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا، وَاكْفِنَا وَالْمُسْلِمِينَ كُلَّ سُوءٍ وَفِتْنَةٍ.
اللَّهُمَّ اشْفِ مَرْضَانَا، وَارْحَمْ مَوْتَانَا، وَاغْفِرْ ذُنُوبَنَا، وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا، وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.