﴿استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ ﴾. 14 /2/ 1447هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الأولى: ﴿استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ ﴾. 14 /2/ 1447هـ
الحمدُ للهِ، نوَّرَ قلوبَ العارفينَ بالإيمانِ واليقينِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، المَلِكُ الحقُّ المبينُ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه، وعلى آلهِ وأصحابِه وأزواجِه، ومَن تبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ. أمَّا بعدُ
﴿يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ﴾.
حين يطولُ الأمدُ بانتفاشِ الباطلِ، وقلةِ الناصرِ، وطولِ الطريقِ الشائكِ، ويشقُ الجهدُ على النفوسِ من ضيقِ الحالِ، واختناقِ المعيشةِ، عندها قد يضعفُ الصبرُ أو ينفدُ، إذا لم يكن هناك زادٌ ومددٌ.
هنا تأتي الصلاةُ لتعضُدَ الصبرَ، وتُثبِّتَ الجَنانَ؛ فهي المعينُ الذي لا ينضبُ، والزّادُ الذي لا ينفدُ، المعينُ الذي يُجدِّدُ الطّاقةَ؛ فيمتدَّ حبلُ الصّبرِ ولا ينقطعُ، لتُضيفَ الصلاةُ إلى الصّبرِ الرِّضى والبَشاشةَ، والطّمأنينةَ والثّقةَ.
"أرِحْنا بالصَّلاةِ يا بلالُ"، يقولها عليه الصلاة والسلام: عندما تشتدُ الحالُ ليقوى الصبرُ على مشاقِّ الحياة؛ فتُضفي الراحةَ، والطُّمأنينةَ، والثّقةَ الموْقِدةَ للعملِ والجهادِ، والتّعليمِ، والمجاهدةِ.
الصبرُ مع الصلاةِ هما الوسيلةُ الفعالةُ للنجاحِ والتغلبِ على الصعابِ "قَامَ النَّبِيُّ r حَتَّى تَفَطَّرَت وتشققت قَدَمَاهُ" ليتحمَّلَ بعدَها أعمالًا تتشقَّقُ من عِظمِها الجبالُ الرّاسياتُ صبرًا وثباتًا.
الصبرُ مع الصلاةِ وقودٌ وقوةٌ للعطاءِ والتحملِ، قَالَ حُذَيْفَةُ t: " كَانَ رَسُولُ اللهِ r إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى" أخرجَهُ أبو داودَ.
لا بد للإنسانِ الضعيفِ المحدودِ أن يتصلَ بالقوةِ الكبرى، ليستمدَ منها العونَ حين يتجاوزُ الجهدُ قواه.
حينما تُواجِهُه قوى الشرِّ الباطنةِ والظاهرةِ، حينما يشتد أذى الأعداء يأتي الدعاء بعد الصلاة, قال عبدالله بن مسعود h فَلَمَّا فَرَغَ رسول الله g مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ،«اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، ثلاثا.
حينما تَثقُلُ عليه مجاهدةُ الطغيانِ والفسادِ،حينما يَثقُلُ عليه جهدُ الاستقامةِ والثباتِ على الطريقِ بين دفعِ الشهواتِ وإغراءِ المطامعِ، ... حينما تَكثرُ دُيونُه وتَغلِبُه همومُه،
حينما يَطولُ به الطريقُ، وتَبعُدُ به الشُّقَّةُ في عُمرِه المحدودِ، ثم يَنظرُ فإذا هو لم يَبلُغْ شيئًا، وقد أوشكَ المَغيبُ، وشمسُ العُمرِ تَميلُ للغروبِ.
حينما يَجدُ الشَّرَّ نافشًا، والخيرَ ضاويًا، ولا شُعاعَ في الأفقِ، ولا مَعلَمَ في الطريقِ، عندها تأتي الصَّلاةُ لِتدعَمَ الصَّبرَ، وتُقوِّي الحالَ، وتَرتفعَ معها الآمالُ، قال عَلِيُّ t:" لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ، وَمَا مِنَّا إِنْسَانٌ إِلا نَائِمٌ، إِلا رَسُولَ اللهِ r، يُصَلِّي، وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ" أخرجَهُ الإمامُ أحمدُ بإسنادٍ صحيحٍ.
الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ. آخرُ وصيةٍ من النبيِ r في هذه الحياةِ؛ لِعِلمهِ أنّ الأمةَ بعده ستضلُها الفتنُ، وتكثرُ عليها المحنُ، ويستكبرُ القويُ، ويقهرُ الضعيفُ، ولا مخرجَ منها ولا تَغَلُبَ عليها إلا بالصبرِ على الصلاةِ.
ثبتَ الإمامُ أحمدُ يومَ المحنةِ، وصبرَ على السياطِ؛ لأن الصلاةَ وقودُه. قَالَ ابنه عَبْدُ اللهِ: "كَانَ أَبِي يُصَلِّي فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيلةٍ ثَلاَثَ مائَةِ رَكْعَةٍ، فَلَمَّا مَرِضَ مِن تِلْكَ الأَسواطِ، صَلِّي كُلَّ يَوْمٍ وَليلَةٍ مائَةً وَخَمْسِيْنَ رَكْعَةً".
هنا نعلمُ قيمةَ الصلاةِ في الشدائدِ، فهي النبعُ الذي لا يغيضُ، ومفتاحُ الكنزِ الذي يُغني ويُقني ويَفِيض، إنها الروحُ والندى والظلالُ في الهاجرةِ، إنها اللمسةُ الحانيةُ للقلبَ المتعبِ المكدودِ.
أخرجَ ابنُ أبي شيبةَ وأصلُه في صحيحِ البخاريِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: "لَمَّا طُعِنَ عُمَرُ احْتَمَلْتُهُ أَنَا وَنَفَرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي غَشْيَةٍ حتى أسفرَ، فجعلنا نناديه فلا يجيبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّكُمْ لَنْ تُفْزِعُوهُ بِشَيْءٍ إِلَّا بِالصَّلَاةِ، فَقُلْنَا: الصلاةَ الصَّلَاةَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ: فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: نَعَمْ، إنه لَا حَظَّ فِي الْإِسْلَامِ لمن تَرَكَ الصَّلَاةَ»، فَصَلَّى وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا".
نعم، يا فاروقَ الأمةِ، لا حَظَّ بالنصرِ والتمكينِ لأمّةٍ لا تُقيمُ الصلاةَ، ولا حَظَّ بالنّجاحِ والفلاحِ والتّفوّقِ والتّوفيقِ لِمَن ضيّعَ الصلاةَ، ولا حَظَّ بالسّعادةِ والرّاحةِ لِمَن تهاوَنَ بالصّلاةِ ﴿يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ﴾.
يُستعانُ على قضاءِ الديونِ بالصلاةِ. يُستعانُ على حلِّ المشاكلِ بالصلاةِ. يُستعانُ على النجاحِ والتوفيقِ بالصلاةِ.ِ
يُستعانُ على التربيةِ بالصلاةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "إِنِّي لَأَزِيدُ فِي صَلَاتِي مِنْ أَجْلِ ابْنِي هَذَا". قَالَ مَخْلَدٌ: قَالَ هِشَامٌ: "رَجَاءَ أَنْ يُحْفَظَ فِيهِ".من لم تكنِ الصلاةُ أكبرَ همهِ وأعظمَ شيءٍ في قلبهِ فقد مَرِضَ قلبهُ ولم يكنْ بمعالمِ الدينِ مستمسكا "مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلا بُرْهَانٌ وَلا نَجَاةٌ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ".
الصلاةُ راحةٌ لمن كثرتْ همومهُ، وسكينةٌ لمن اختلفتْ عليه زوجتهُ، ويقينٌ لمن احتارَ أمرهُ وضاقتْ عليه معيشتهُ، الصلاةُ حفظٌ للمجتمعِ من الجريمةِ وصدٌ عن الوقوعِ في المنكراتِ ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾.
من أرادَ النعيمَ والكرامةَ فالتكنِ الصلاةُ دائماً أمامَهُ ﴿وَالَّذين هم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جنتٍ مكرمون﴾.
أين الصلاةُ التي جاء الرسولُ بها *** فرضًا على الناسِ في حلٍ وفي سفرِ
أين الصلاةُ التي تحيا القلوبُ بها *** فاليومُ قد أصبحت نقرًا على الحصرِ
﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات إن ربنا لغفورٌ شكورٌ.
..........................................................
الخطبةُ الثانية الحمدُ للهِ وكفى وسمعَ اللهُ لمن دعا وصلى اللهُ وسلَّمَ على عبدِه ورسولِهِ المصطفى. أمَّا بعدُ ....
المحافظةُ على الصلاةِ عنوانُ صدقِ الإيمان، والتهاونُ بها خسارةٌ وخذلانٌ.
الصلاةُ سرُّ الفلاحِ وأصلُ النجاحِ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾.
فلاحٌ لمن قامَ بها روحاً ومعنىً ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾.
تربيةُ الأسرةِ عليها نورٌ يضيئُ في البيتِ وروحانيةٌ لأهلهِا "أرحنا بها يا بلالُ".
روحُها وروحانيتُها: التبكيرُ لها، والصلاةُ مع الجماعةِ الأولى في المسجد، وأمارةُ التهاونِ بها: ملاحقةُ مصلياتِ المتخلفين والكسالى، ينقرونها نقرًا، لا يذكرون اللهَ فيها إلا قليلاً.
لم يكن السهر عذرا في النوم عن الصلاة وتأخيرها عن وقتها
من أكبرِ عواملِ انحطاطِ المجتمعاتِ بالشهواتِ: إضاعةُ الصلاةِ ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.
قال ابْنُ عُمَرَ رضي اللهُ عنه: "كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ فِي الفَجْرِ أَوِ العِشَاءِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ".
مَن تَنفَعُهُمُ الصَّلَاةُ هُم: ﴿رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.
يا أيُّها الناسُ جميعًا ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾
اللهم صلِّ وسلمِ على عبدِك ورسولِك.اللهم امنا في اوطاننا واصلح ولاة امورنا......
المرفقات
1754573417_استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ.docx
1754573417_استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ.pdf