استقبال رمضان وبيان حقيقة الصيام
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
استقبال رمضان وبيان حقيقة الصيام
الخطبة الأولى
الحمدُ للهِ الكَريمِ المنَّانِ ، أحمدُهُ سبحانَهُ شَرَّفَ هذِه الأمّةَ وخَصَّها بصيَامِ شهْرِ رمضَانَ وأشهدُ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ ، وأشهدُ أنَّ نبيَّنَا محمَّدًا عبدُ اللهِ ورَسُولُهُ ، خيرُ مَنْ صلَّى وصَامَ وقَامَ لعبادةِ ربِّهِ الرَّحيمِ الرَّحمنِ ، صلّى الله وسَلّم علَيه وعلَى آلِهِ وصحبِهِ والتَّابعِينَ ومَنْ تَبعَهُمْ بإحْسَانٍ ... أمَّا بَعْدُ :-
فأُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتَقوى اللهِ ، فإِنَّهَا سَبِيلُ النجاة فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ ، قال تعالى : ( وَيُنَجِّى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ ٱلسُّوٓءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (الزمر – 61) .
عباد الله : إن من نعمة الله على عبده أن يوفقه لبلوغ مواسم الخير التي تُضاعف فيها الحسنات ، وتُكفّر فيها السيئات ، وللعمل الصالح فيها مزية عن غيره . ومن هذه المواسم : شهر رمضان ، فبَعْدَ سَاعَاتٍ مَعْدُودَاتٍ يُهِلُّ علينْا هذا الشَهْرُ المبَارَكِ بأَجْوَائِهِ الإِيمَانِيَّةِ ، وأيَّامِهِ المبَارَكَةِ ، فغَدَاً أو بعد غدٍ رمضانَ ، ومَنْ مِنَّا لا يَعْرِفُ فضْلَ هذَا الشهرِ وقَدْرَه ، فهُو سيِّدُ الشهورِ وخَيْرُهَا ، قال تعالى : ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) [البقرة: 185] ، مَنْ صَامَهُ وقَامَهُ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ لَه مَا تقدَّمَ مِن ذَنبِهِ ، فِيهِ ليلةٌ هِي خيرٌ مِن أَلْفِ شَهْرٍ . فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما أنه قال : « من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه » فالإيمان : التصديق واليقين بأن هذا من عند الله جل وعلا ، والاحتساب : الإخلاص وطلب الأجر والثواب من الله جل وعلا ، فيَنْبَغِي علينا أَنْ نَسْتَقْبِلَهُ بِالْفَرَحِ بِإِدْرَاكِهِ ، لِأَنُّ إدراكه فَضْلٌ مِنْ الله . فبدخول رمضان تُفَتَّحُ أبْوَابُ الجَنَّةِ فَلا يُغْلَقُ مِنهَا بَابٌ ، وتُزيَّنُ فيهِ هذِهِ الجنَّةُ الَّتِي وَعَدَ الرحمنُ عِبَادَه بالغَيبِ ، تَرْغِيبًا للعَامِلِينَ لَها بِكَثْرَةِ الطَّاعَاتِ مِن صَلاةٍ وصِيامٍ وصَدقةٍ وذِكْرٍ وقِراءةٍ للقرآنِ وغيرِ ذَلِكَ . وتُغَلَّقُ أبوَابُ النِيرَانِ ، وذَلكَ لِقلَّةِ المعاصِي فِيهِ مِنَ المؤمِنِينَ . وتُصَفَّدُ الشَّياطِينُ ، ومَعْنَى ذلكَ أنَّهَا تُسَلْسَلُ وتُقَيَّدُ فَلا تسْتَطيعُ الخُلُوصَ إِلى مَا كَانَتْ تَخْلُصُ إليهِ فِي غيرِ رمضَانَ ، وفي كلِّ لَيلَةٍ مِن لَيَالِي هذَا الشَّهْرِ الكَريمِ خُصُوصِيَّةٌ لَه مِن بَينِ لَيَالِي وأَشْهُرِ العَامِ ، ففِي كُلِّ لَيلةٍ مِن لَيالِي هذَا الشهْرِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ ، إنَّهَا فُرصَةُ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ ، يَوَفَّقُ مَن شَاءَ اللهُ مِن عِبَادِهِ مِمَّنْ حَقَّقُوا الصِّيامِ والقيام بأَنْ يُعْتَقُوا مِنَ النَّارِ ، ورمضَانُ شهرُ اسْتجَابةِ الدَّعَواتِ , فدعَوَاتِ الصَّائِمينَ مُسْتجَابةٌ ، فاللهُ تعَالى يقُولُ بعد آيَاتِ الصّيامِ : ( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ) [البقرة: 186] ، ويقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ ، الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ ، وَالإِمَامُ العَادِلُ ، وَدَعْوَةُ المَظْلُومِ " فَكَمْ مِن دعْوَةِ اسْتُجِيبَتْ في رَمَضَانَ ، وكَمْ مِنْ أُمْنِيَّةٍ تحقَّقَتْ بالدَّعَوَاتِ فِي رمَضَانَ ، وكَمْ مِنْ كُرْبَةٍ كُشِفَتْ بالدعوَاتِ في رَمضانَ .
عباد الله : ينبغي على المسلم في رمضان أن يعرف قدر رمضان وحقيقة الصيام فيحرص على الارْتِقاءِ بالأخلاقِ والتعَامُلِ والسلوكِ ، فالمسْلِمُ في رمضانَ لا يُمسِكُ عنِ الأكلِ والشربِ والشَّهوةِ فحَسْب ، وإنَّما يُمسِكُ سَمْعَهُ وبصَرَهُ ولسَانَهُ عَن كلِّ مَا يُنَافِي الكَمَالَ ، فالصَّومُ جُنَّةٌ وحِمايَةٌ عنِ الوقُوعِ في الزَّلاَّتِ ، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " الصِّيَامُ جُنَّةٌ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ ، فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَسْخَبْ ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ ، فَلْيَقُلْ : إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ " (متفقٌ عليهِ) . وقد سَأَلَ أبُو أُمَامَةَ البَاهِلِيُّ رضي الله عنه رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال : مُرْنِي بأَمْرٍ آخُذُهُ عنْكَ ، يَنفَعُنِي اللهُ بهِ ، فقال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " عليكَ بالصَّومِ ، فإنَّهُ لا مِثْلَ لَهُ " ، وفي رِوَايةٍ : " لا عِدْلَ لَهُ " (رواه أحْمَدُ والنَّسَائِيُّ بإسنادٍ صَحيحٍ ) . نَعَمْ الصيامُ لا مِثْلَ لَهُ فِي إصْلَاحِ القُلوبِ وَتَزْكِيَةِ النُّفُوسِ ، وَدَفْعِ النَّفسِ الأمَّارةِ والشيطانِ ، لا مِثْلَ لَه في كَثْرةِ الثوابِ ورفعِ الدَّرجاتِ وتكفِيرِ السيئاتِ ، ولا مِثْلَ لَه فِي إشاعةِ الرَّحمةِ بينَ المسلمينَ والشُّعُورِ بِهِمْ والتَّسَاوي بَينَهُمْ ، لا مِثْلَ لَه فِي معْرِفةِ حَاجَةِ إخْوَانِهِ الفقَرَاءَ وموَاسَاتِهِمْ والإحسانِ إليهم , ولا مِثْلَ لَه في تَعوِيدِ النَّفسِ علَى الأخلاقِ الكريمةِ كالصبرِ والحِلْمِ والجُودِ والكَرمِ ، ومجَاهَدَةِ النَّفسِ فيمَا يُرْضِي اللهَ ويقَرِّب إليهِ ، ولا مِثْلَ لَه في إصْلاحِ الأَبْدَانِ وحِفْظِ عَافِيَتَهَا وبقاءِ صحَّتِهَا ، إلى غيرِ ذلكَ مما تَضَمَّنَهُ هذا الحديثُ العَظِيمُ . قلت ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، والعاقبة للمتقين ، ولا عُدوان إلا على الظالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :-
فيا عباد الله : هنا أمور ينبغي الاهتمام بها قبل دخول هذا شهر رمضان :
أولها : التفقه في أحكام الصيام ، فإن العبادات مبناها على الأدلة من الكتاب والسنة ، وكل عبادة لا تقوم على ذلك فإنها مردودة على صاحبها ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ، والتفقه في أحكام الصوم سهل يسير خصوصاً في هذا الزمان الذي توفرت فيه جميع سبل العلم من مقروء ومسموع .
الثاني : التوبة النصوح من جميع الذنوب والمعاصي ، فعلينا أن نستقبل هذا الشهر الكريم بتوبة صادقة خالصة نصوح نقلع فيها عن كل معصية ، ونندم على ما مضى من أعمارنا في معصية الله ، ونعاهد ربنا ألا نعود لمعصيته أبدا . قال تعالى : ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور:31 ] . وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم:8 ] . والله يحب التائبين . قال سبحانه وتعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة:222] .
الثالث : يجب على المسلم أن يعلم بأن الأعمال التي حرَّمها الله في غير الصيام يتضاعف إثمها حال الصيام ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ) . وقال عليه الصلاة والسلام : ( رب صائم حظه من الصيام الجوع والعطش ، ورب قائم حظه من القيام السهر ) ، فكما أن البطن يصوم عن الطعام والشراب ، والفرْجَ يصوم عن الاستمتاع ، فكذلك العين تصوم عن النظر الحرام ، والأذن تصوم عن السماع المحرم كسماع الموسيقى والأغاني وكل ما يسخط الله ، واللسان يصوم عن الغيبة والكذب وسائر الكلام المحرم .
الرابع : أن جبريل عليه السلام دعا على رجل أدرك رمضان فلم يٌغفَر له وأمّن على دعائه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ( يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله فدخل النار قل : آمين . فقال : آمين ) . فهذا يا عباد الله دعاءٌ من سيد الملائكة أمّن عليه أفضل خلق الله ، فهو دعاء مستجاب بلا شك على هذا الإنسان الذي دخل عليه رمضان ثم خرج ولم يكن من المغفور لهم ؛ وما ذاك إلا لأن الله هيأ له جميع فرصِ مغفرة الذنوب من أول يوم من رمضان إلى آخر يوم فلم يستغلها أو يستغل واحدة منها . فاتقوا الله عباد الله واستغلوا هذا الشهر ، وإياكم والتساهل أو التفريط فإن الأمر خطير . اللهم بلغنا رمضان ، وأعنّا على صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا على الوجه الذي يرضيك عنّا يا رب العالمين . اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين . اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل ، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين ، اللهم اهدي ضال المسلمين يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين وانصر عبادك المؤمنين ، اللهم انصر وارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان ، اللهم عليك بالكفرة والملحدين وجميع أعداء الدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك ، اللهم من أرادنا أو أراد بلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرًا له يا سميع الدعاء ، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك ، اللهم حبب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
( خطبة الجمعة 29/8/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .