اسم الله (الحكيم)
عبدالرحمن اللهيبي
الحمد لله الذي خلق فسوى وقدر فهدى ، وأسعد وأشقى، واضحك وأبكى ، ومنع وأعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُ الأعلى, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المصطفى والرسول المجتبى وعلى آله وصحبه ومن اهتدى.
أما بعد فاتقوا الله حق التقوى ، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ))
عباد الله: إن العباد حين يتأملون في أسماء الله وصفاته ويتفكرون فيها فإن ذلك مما يملأ قلوبهم إيمانا ويقينا ، ويورثهم طمأنينة وسكينة وأنسا، ويكسبهم خشوعا لله وحبا ، ورجاء له وخوفا ، فإن من عرف الله أحبه وأجله ، وهابه وعظمه ، وإننا سنقف اليوم متأملين لواحدٍ من هذه الأسماء الجليلة للرب العظيم، نتأمل في معناه ونتفكر في آثاره، ألا وهو اسم الحكيم، وهو اسم ورد في واحد وتسعين موضعًا من كتاب الله
والحكيم يا مسلمون: هو الذي يضع الأمور في مواضعها فلا يبتلي إلا بحكمة، ولا يقدِّر إلا لحكمة ، وإن غاب عن الخلائق إدراكها، ومن ظن أن الله يقضي بلا حكمة أو يُقدِّر بلا مصلحة فقد ضل وما هدى، وأساء الظن بربه فغوى ، وقد قال المولى جل وعلا (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ*)
ومن حكمته سبحانه أنه يقدر على عبده المصيبة والبلاء، ويداول عليه الشدة والرخاء، ليس ذلك عبثاً، بل لحكم عظيمة، وغايات جليلة، ليعلم الله الصابر من الساخط والشاكر من الجاحد ..
قال ابن القيم رحمه : لولا خَلْقُ الله لأنواع البلايا لما عَرف العبدُ نعمة العافية ..
فإن أعرف الناس بقدر النعمة من ذاق طعم البلاء.
فكم لله في أقداره من حكم باهرة، وحجج قاهرة، وآيات ظاهرة، ونعم سابغة.
أصيب رجلٌ بحادث فعُرِض على الأطباء فاطلعوا منه على داء، لو تأخر عن كشفه لما أمكن تلافيه، وكان هلاكه فيه.
وآخر يريد السفر، فمنعه الله بحكمة وقدر، فانزعج وتكدر، وما علم أن ملك الموت كان ينتظر المسافرين، كل هذا بتدبير الحكيم العليم
وعليه فما يصيب المسلمَ من المصائب والشدائد ، وَإِن كَانَ في ظَاهِرِهِ بلاء وَنِقمَة، إِلاَّ أَنَّهُ في حَقِيقَتِهِ تَمحِيصٌ وَرَحمَةٌ ، وعلو عند الله ورفعة ، واصطفاء من الله ومحبه
فإن الله إذا أحب عبدا ابتلاه
ثم الله سبحانه كريم رحيم يُخرِجُ لعبده مِن رحم المِحَنِ مِنَحًا وَعَطَايَا ، ويدفع عَنهُ بِهَا مَصَائِبَ أعظم وَرَزَايَا..
وَهَذِهِ المصائب والابتِلاءَاتُ لا يجوز بحال أن تزعزع المسلم في إيمانه ويقينه ، فيسيء الظن بربه، أو يزهد في التمسك بدينه، أو يقنط من روح الله وتفريجه ، بل يجب أن تَزِيد في المؤمن إِيمَانَه وثباته ، وَتُقَوِّي في الله يَقِينَه ورجاءه ، فيَشتَدُّ بها صَبرُه، ويعظم بذلك أجره، ويزداد بها عند الله قربه
ومن جليل الحِكم في هذه المصائب والبلايا أنها تَقطَعُ عَن المؤمن كُلَّ اتِّصَالٍ بِالخَلقِ أَوِ اعتِمَادٍ عَلَيهِم، أو رجاء فيهم ، فَيَصرِفُ بِذَلِكَ إِلَى الله قُلبه ، ويعظم إخلاصه وتوكله وصدقه.. قال تعالى: يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ
ومن حكم الله في المصائب والبلايا أنها اختِبَارٌ لصِدقِ الإِيمَانِ
قَالَ سُبحَانَهُ (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ * وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكاذِبِينَ)
وَمِنَ حكم الله في المصائب والبلايا دخول الجنة في الآخرة فمن البلاء مَا لا يَكُونُ له ثمن إلا الجَنَّةَ ، فعَن أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "قَالَ اللهُ -سُبحَانَهُ وَتَعَالى-: إِذَا ابتَلَيتُ عَبدِي بِحَبِيبَتَيهِ ثُمَّ صَبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنهُمَا الجَنَّة" (رَوَاهُ البُخَارِيُّ)
ولو يعلم العبد ما له من ثواب وجزاء في حال صبره على البلاء : لم يجزع ، قَالَ ﷺ: (يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ) رواه الترمذي وحسَّنه الألباني" .
وقال ﷺ : (إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا ، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ) رواه الترمذي وحسنه الألباني" .
وقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) رواه الترمذي وصححه الألباني
ومن حكم الله في المصائب والبلايا أن يدرك العبد أَنَّ الدُّنيَا لَيسَت بدَار استِقرَارٍ وَبَقَاءٍ ، بَل هِيَ مَرحَلَةُ تَغَيُّرٍ وَفَنَاءٍ ، فما الدنيا إلا اجتِمَاع وَفُرقَة ، وَغِنًى وَفَقر ، وَقُوَّة وَضَعف ، وَمِن ثَمَّ فَلا يَركَنَ المؤمن إِلَيهَا، ولا يطمئن لها، وَلا يَنخَدِعَ بِمَتَاعِهَا ، فيكون حينئذٍ سعي العبد ورجاؤه في الآخرة
وَمِنَ حكم الله في المصائب والبلايا أن يعلم العبد أنه لا فرار من الله إلا إِليه ، وَلا مَلجَأَ مِنهُ إِلاَّ إِلَيهِ ، فَالأَمرُ كله بِيَدِيه، وَكُلُّ مَا يُخَافُ منه فَإِنَّهُ يُفَرُّ مِنهُ.. إِلاَّ اللهَ ، فَإِنَّهُ إِذَا خافه العبدُ فَرَّ إِلَيهِ ، " فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِنهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ "
" الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ " فبِقَدرِ القُربِ من الله يَكُونُ الأَمنُ وَالأَمَانُ
أقول قولي هذا ..
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ ما يصيب المسلم من الأمراض أو نقص الأموال أو غيرها من الابتلاءات، أو ما تَتَوَالى عَلَيه من المصائب والنكبات، سيعقبه لا محالة يُسر بعد عُسرٍ، وفرج بعد شدة، إن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا
فَلْيَتَّقِ اللهَ كُلُّ مُسلِمٍ ، وليحسن الظن بربه ، وليوقن بالفرج بعد الشدة ، وليعلم أيضا بِأَنَّ الله تَعَالى سَيُعَوِّضُ المُؤمِنِينَ في الآخِرَةِ بِمَا يُنسِيهِم كُلَّ أَلَمٍ في الدُّنيَا ، وفي الحديث الصحيح : (( يؤتَى بأشدِّ المؤمنينَ ضُرًّا ، وبلاءً ، أي يوم القيامة فيقالُ: اغمِسوهُ غمسةً في الجنَّةِ ، فيُغمَسُ فيها غمسةً ، فيقالُ لَهُ: أي فلانُ هل أصابَكَ ضرٌّ قطُّ ، أو بلاءٌ ، فيقولُ: ما أصابَني قَطُّ.. ضرٌّ ، ولا بلاءٌ)) رواه ابن ماجه وصححه الألباني
والمؤمن الصادق ، يرضى عن ربه، ويصبر على قدره ، ومهما أصابه فإنه يقول: رضيت بالله ربا ..
ثم اعلموا يا عباد الله أنه مهما أصاب العبدَ من بلاء وكرب وشدة ، فإنه يتَقَلّبُ أيضا في نعمٍ تعد ولا تحصى ، ولكن أكثر الناس لا يشكرون ، ينظرون فقط إلى المفقود ، ولا يستحضرون من النعم ما هو موجود ، قال ﷺ : (انظروا إلى من هو أسفلَ منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقَكم ، فإنه أجدَرُ أن لا تزدَروا نعمةَ اللهِ عليكم)
قالَ بعضُ السّلفِ لابنِه: يا بُنَيَّ، إذا مَرَّ بك يومٌ وليلةٌ قد سَلِمَ فيهما دينُك وجسمُك ومالُك وعيالُك، فأَكثِرْ الشّكرَ للَّهِ تعالى، فكمْ مِن مَسلوبٍ دينُه، ومَهتوكٍ سِترُه، ومَقصومٍ ظهرُه في ذلك اليوم، وأنت في عافية.
فاتّقوا اللهَ رحمَكم الله، واشكروه على نِعمِه في السّراءِ واصبروا واحتسبوا عند المصائب والضّراء، كحالِ مَنْ سَبَقَكم مِن الأنبياءِ والأولياء (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا ۚ نِّعْمَ الْعَبْدُ ۖ إِنَّهُ أَوَّابٌ).
كل الملاجئ دون الله كاذبةً بالله لا بالناس تقضى الحوائج