الأشهر الحرم

الخطبة الأولى : منها أربعةٌ حُرم

الحمدُ للـهِ الوليِّ الحميدِ، الفعَّالِ لِما يُريدُ، الذي خضعت له الرِّقابُ، وذلَّت له جميعُ العبيدِ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له ولا نديدُ، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسولُه سيِّدُ الرُّسُلِ وخُلاصةُ العبيدِ، اللهمَّ صلِّ على محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ أُولي الأخلاقِ والقولِ السديدِ، وسلِّم تسليماً.

أما بعد: فأوصيكم ...

عن أبي بكرةَ t قال، قال ﷺ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّـهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا،

 مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجَّةِ وَالْـمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» خ. م

عباد الله: إنَّ شهرَكُم هذا هوَ أحدُ الأشهُرِ الْـحُرُمِ التي نصَّ القرآنُ عليها في الجملة، فقال تعالى (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ).

قال ابنُ كثيرٍ: «وإنما كانتِ الأشهرُ المُحرَّمةُ أربعةً، ثلاثةٌ سَرْدٌ وواحدٌ فَرْدٌ؛ لأجلِ أداءِ مناسكِ الحجِّ والعمرةِ.

 فحُرِّمَ قبلَ شهرِ الحجِّ شهرٌ وهو ذو القَعْدَةِ؛ لأنهم يَقعدونَ فيه عنِ القتالِ، وحُرِّم شهرُ ذي الحِجَّةِ؛ لأنهم يُوقِعون فيه الحجَّ، ويشتغلونَ فيه بأداءِ المَناسكِ، وحُرِّم بعده شهرٌ آخَرَ وهو المُحرَّمُ؛ ليَرجعوا فيه إلى نائِي أقصى بلادِهم آمنين، وحُرِّم رَجَبٌ في وسَطِ الحَوْلِ؛ لأجل زيارةِ البيتِ والِاعتمارِ به، لمَن يَقْدَمُ إليه من أقصى جزيرةِ العربِ، فيزورُه ثم يعودُ إلى وطنِه فيه آمِناً»

عبادَ اللـه: إنِّ هذه النصوصَ الكريمةَ لها دلالاتُها وعِبَرُها،

ومن هذه الدلالاتِ: أولاً: أنَّ هذا الاصطفاءَ لهذهِ الأشهرِ أثرٌ مِن آثارِ كَمَالِ عِلْمِ اللـهِ تعالى وتَمامِ حكمتِه، وهذا مما يَزيدُ المسلمَ عبوديةً وإيماناً بربِّه سُبحانه، (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَـهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّـهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

ثانياً: تعظيمُ ما عظَّمهُ اللـهُ تعالى، فإن هذهِ الأشهُرَ عظيمةَ القدرِ والمكانةِ في شرع اللـهِ، ومِن تعظيمِ المؤمنِ لربِّه تعالى: أنْ يُعظِّم ما عظَّمه، بل ذلكَ مِن أَماراتِ خيريَّةِ العبدِ وتقواهُ، (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّـهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ).

وإذا كان أهلُ الجاهليةِ يُعظِّمونَ هذهِ الأشهرَ بالامتناعِ عنِ القِتالِ فيها، حتى يَمُرَّ الرَّجُلُ بقاتلِ أبيهِ فلا يُؤذيهِ؛ فإنَّ المؤمِنَ الْـمُعظِّمَ للـهِ ورسولهِ rأولى بتعظيِمها: لا تقليداً! بل تعبُّداً واتباعاً .

ثالثاً: تحريمُ الظُّلمِ في هذه الأشهرِ الْـحُرُمِ، وهو مِن أعظمِ ما تُعظَّمُ به هذه الأشهرِ: الكفُّ فيها عن المعاصي كُلِّها، ومعلومٌ أنَّ ظُلْمَ النفوسِ أمرٌ مُحرَّمٌ مُطلقاً في جميعِ الزَّمانِ والمكانِ، ليسَ للمُؤمنِ وليسَ لأحدٍ أنْ يَظْلِمَ نفْسَهُ بالمعاصي والشُّرورِ،

 وليسَ لأحدٍ أنْ يظلمَ غيْرَهُ لا في الأشهرِ الْـحُرُم ولا في غيرِها، ولا في أيِّ مكانٍ، ولكنَّ اللـهَ خصَّ الأشهرَ الحرمَ بمزيدِ تأكيدٍ للتحريمِ، وأنَّ الظُّلْمَ فيها يكونُ أشدَّ إثماً وأعظمَ جريمةً، كما أنَّ المعاصي في الْـحَرَمِ المكانيِّ: حَرَمِ مكةَ وحَرَمِ المدينةِ أشدُّ إثماً وأعظَمُ في الْـجُرْم، حتى جَعَلَ اللـهُ جلَّ وعلا الْـهَمَّ بالمعصيةِ دونَ العملِ مَحَلَّ وعيدٍ في الْـحَرَمِ المكيِّ، حيث قالَ سُبحانه: ( وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْـحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )

 أي: وَمَنْ يُرِدْ فِي الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ بِأَنْ يَمِيلَ بِظُلْمٍ، فَيَعْصِيَ اللَّـهَ فِيهِ، نُذِقْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَذَابٍ مُوجِعٍ لَهُ.

 قال قتادةُ: «إنَّ الظلمَ في الأشهرِ الحُرُمِ أعظمُ خطيئةً ووِزْرًا من الظلمِ في ما سواها، وإن كان الظلمُ عـلى كلِّ حــالٍ عظيمًا، ولكنَّ اللَّـهَ يعظِّـمُ من أمرِه ما يشاء» .

عباد الله: الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي حَرَّمَهَا اللـهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) يَحْرُمُ انْتِهَاكُهَا بِالمَعَاصِي، وَيَحْرُمُ الْقِتَالُ فِيهَا ؛

 لِيَأْمَنَ قَاصِدُو الْبَيْتِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِيهَا، وَتَحْرِيمُهَا جَاءَ عَلَى لِسَانِ الْـخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَتَوَارَثَ الْعَرَبُ ذَلِكَ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ إِلَّا أَنَّهُمْ عَبَثُوا فِيهِ بِالنَّسِيءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ، وَهِيَ حِيلَةٌ عَمِلُوهَا لِإِبَاحَةِ المُحَرَّمِ كَمَا هِيَ عَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللـهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللـهُ زُيِّنَ لَـهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللـهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الكَافِرِينَ)

 

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «كَانُوا يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِي المُحَرَّمِ، فَإِذَا احْتَاجُوا إِلَى ذَلِكَ حَرَّمُوا صَفَرًا بَدَلَهُ وَقَاتَلُوا فِي المُحَرَّمِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ أَصْحَابَ حُرُوبٍ وَغَارَاتٍ فَكَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَمْكُثُوا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ مُتَوَالِيَةٍ لَا يُغِيرُونَ فِيهَا، وَقَالُوا: لَئِنْ تَوَالَتْ عَلَيْنَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لَا نُصِيبُ فِيهَا شَيْئًا لَنَهْلِكَنَّ. فَكَانُوا إِذَا صَدَرُوا عَنْ مِنًى يَقُومُ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ، ثُمَّ مِنْ بَنِي فُقَيْمٍ مِنْهُمْ رَجُلٌ، فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي لَا يُرَدُّ لِي قَضَاءٌ. فَيَقُولُونَ: أَنْسِئْنَا شَهْرًا، أَيْ أَخِّرْ عَنَّا حُرْمَةَ المُحَرَّمِ وَاجْعَلْهَا فِي صَفَرٍ، فَيُحِلُّ لَـهُمُ المُحَرَّمَ» اهـ.

وَإِنَّمَا سُمِّيَ شَهْرُ مُحَرَّمٍ بِذَلِكَ؛ تَأْكِيدًا لِتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَتَقَلَّبُ بِهِ، فَتُحِلُّهُ عَامًا وَتَحْرِّمُهُ عَامًا.

ألا فاتقوا الله عباد الله وعظموا ما عظمَّ اللـهُ ( ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) . بارك الله ..

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية :

الحمد لله...أما بعد: فيا عباد الله :

وَرَدَ فِي شهرِ ذي القَعْدَة فَضِيلَتَانِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِمَا، الْفَضِيلَةُ الْأُولَى: إِنَّهُ مَنِ الْأَشْهُرِ الَّتِي يَدْخُلُ الْـحَاجُّ فِيهَا لِلنُّسُكِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَتِّعًا، أَوْ مُفْرِدًا، أَوْ قَارِنًا، وَغَالِبُ مَنْ يُحْرِمُونَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُحْرِمُونَ مُتَمَتِّعِينَ، وَلِذَا لَمـَّا حَجَّ e فِي أَوَاخِرِ ذِي الْقَعْدَةِ كَانَ قَارِنًا، ثُمَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُحِلُّوا إِحْرَامَهُمْ إِلَى التَّمَتُّعِ رِفْقًا بِهِمْ وَرَحْمَةً، فقَالَ e"لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْـهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا "

الْفَضِيلَةُ الثَّانِيَةُ: الِاعْتِمَارُ فِيهِ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ عُمَرِ النَّبِيِّ eكَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَتَّى عُمْرَتُهُ الَّتِي قَرَنَهَا بِحَجَّتِهِ أَحَرَمَ بِهَا فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَكَانَتْ عُمَرُهُ e أَرْبَعًا، عُمْرَةُ الْـحُدَيْبِيَّةِ وَلَمْ يُتِمَّهَا، بَلْ تَحَلَّلَ مِنْهَا وَرَجَعَ، وَعُمْرَةُ الْقَضَاءِ مِنْ قَابِلٍ، وَعُمْرَةُ الْجِعِرَّانَةِ عَامَ الْفَتْحِ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ، لَـمَّا قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ فِي حَجَّةِ الْودَاعِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ جَمَاهِيرُ أهْلِ الْعِلْمِ، بَلْ فَضَّلَتْ طَائِفَةٌ مِنَ السَّلَفِ عُمْرَةَ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى عُمْرَةِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ eاعْتَمَرَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَلِذَا كَانَ كَثِيرٌ مَنِ السَّلَفِ يَحْرِصُ عَلَى أَدَاءِ الْعُمْرَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ e .

عن ابْنِ عَبَّاسٍ y قَالَ: كَانُوا في الجاهليةِ يَرَوْنَ أَنَّ العُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الـمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَا الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ العُمْرَةُ لِمَنِ اعْتَمَرْ، فقَدِمَ e وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّـهِ، أَيُّ الحِلِّ؟ قَالَ: "حِلٌّ كُلُّهُ" خ. م .

 وفي رواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "وَاللَّـهِ مَا أَعْمَرَ رَسُولُ اللَّـهِ e عَائِشَةَ فِي ذِي الْحِجَّةِ إِلَّا لِيَقْطَعَ بِذَلِكَ أَمْرَ أَهْلِ الشِّرْكِ" أبو داود.

يا أهلَ حَرَمِ اللَّـهِ- إنَّه قدِ اجتمع لكم حُرْمتانِ: حرمةُ الزمانِ وحرمةُ المَكانِ. فأنتم في زمانِ الأشهرِ الحُرُمِ، وتسكنون البَلْدَةَ التي حرَّمها اللَّـهُ.

فاحذروا من ظلمِ أنفسِكم في هاتينِ الحُرْمَتَيْنِ، فإنَّ الذنبَ فيهما مُعَظَّمٌ. واعلموا أنَّه كما أنَّ المَعاصيَ -في هاتينِ الحُرْمَتَيْنِ- عظـيمةٌ، فإنَّ طاعاتِكم فيهما عظيمةٌ -كذلك-، ولها مزيدُ فضلٍ على طاعاتِ غيرِكم ، فاغتنموا ما أنتم فيه بكثرةِ الأعمالِ الصالحةِ للـهِ ربِّ العالمينَ.

ثم صلوا ...

المرفقات

1746541206_الأشهر الحرم.doc

1746541206_الأشهر الحرم.pdf

المشاهدات 322 | التعليقات 1

.