الأنوار اللائحة في أسرار الفاتحة 

فهد السعيد
1447/06/28 - 2025/12/19 17:00PM

الأنوار اللائحة في أسرار الفاتحة

 

الحمد لله الذي عز جلالُه فلا تدركه الأفهام، وسَمَا كمالُه فلا تُحيطُ به الأَوهام، وشَهِدَتْ أَفعالُه أنه الحكيم العلَّام، الموصوفُ بالعلم والقدرة والكلام، سبحانه هو اللهُ الواحدُ السلام، تبارك اسمُ ربِّك ذي الجلال والإكرام، أَنَزَل أَحْسنَ الكلام، وشَرَعَ فيه الحلالَ والحرام، وهدى من الضلال إلى الإسلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, وهو على كل شيء قدير، شهادةَ مَن قال ربى اللهُ ثم استقام
وأشهد أن سيدَنا وحبيبَنا وشفيعَنا محمدٌ عبدُ الله ورسولُه وصفيُّه مِن خَلقه وحبيبُه على الدوام، لم يَزل في ذات الله مجاهداً، حتى انقشع عن سماء الحق تراكمُ الغمام، وظل في أفق الإيمان بدْرَ التمام. وعلى آله وأصحابه أولي الهمم العالية، مصابيح الدجى وأنوار الظلام.

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واستقيموا على الخير تَسْعدوا وتُفلحوا، وتفوزوا بجزيل الثواب، واعلموا أيها المباركون أن وقت المسلم عليه لا له إلا ما كان في خير وطاعة، فأكثروا من الباقيات الصالحات قبل الممات.

أيها المسلمون: القرآن الكريم عِزٌّ لهذه الأمة، ونورٌ يضيء طريق المؤمنين، وبَلسمٌ يزيل الجراح عن المكروبين ويغيث الملهوفين.

القرآن شفاء الجراح، وحياة الأرواح، ومفتاح النجاح لمن لازمه ورام الفلاح

في كل سورة، بل في كل آية، بل في كل حرف منه أَجرٌ وغنيمة، ورفعةٌ في المكانة، وطمأنينة قلب.

وفي القرآن الكريم سُورةٌ واحدة حوت من الخير أعظمه ومن النور أسناه ومن البركة أعلاها.

لم ينزل -على وجازتها- في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلُها

قال ابن عباس: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سَمِعَ نقيضًا من فوقه، فرفع رأسه، فقال: هذا بابٌ من السماء فُتِح اليوم، لم يُفتَحْ قط إلا اليوم، فنزَلَ منه ملَكٌ، فقال: هذا ملَك نزل إلى الأرض، لم ينزل قط إلا اليوم، فسلَّم، وقال: أَبْشِرْ بنورينِ أوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلك: لن تَقرَأَ بحرف منهما إلا أُعطيتَه" يعني هذه السورة والآيتين الأخيرتين من سورة البقرة.

وعن أبي سعيد بن المعلَّى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَأُعلِّمَنَّك أعظَمَ سورةٍ في القرآن) فقرأها.

إنها يا مسلمون سورة الفاتحةُ التي نقرأها كل يومٍ سَبعَ عَشْرةَ مرة على الأقل.

إنها فاتحة الكتاب التي افتتح الله بها كلامه، وقدّم بها كتابه على جميع السور، فجعلها كالمقدمة للكتاب، لأنَّها جمَعتْ مقاصد القرآن، ولأنَّ فيها إجمالَ ما يحويه القرآن مُفصَّلًا؛ فجميع القرآن تفصيل لِمَا أجملتْه، وشرح لما حوته، وفي ذلك براعة استهلال؛ وهو وجه من وجوه البلاغة والفصاحة عزَّ نظيره.

إنها الفاتحة، فاتحةُ الخير والبركة والهدى والنور، وهي مع قِصَرها اشتملت على أنواع التوحيد الثلاثة: توحيدِ الربوبية، وتوحيدِ الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

إنها الركنُ الركين في الصلاة، ولا تصح الصلاة بدونها، ولو أن مسلما ترك منها حرفاً لبَطَلَت صلاته، حتى قال صلى الله عليه وسلم: (لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ)، قال النووي: "فِيهِ وُجُوب قِرَاءَة الْفَاتِحَة وَأَنَّهَا مُتَعَيِّنَةٌ لَا يُجْزِي غَيْرها إِلَّا لِعَاجِزٍ عَنْهَا، وَهَذَا مَذْهَب ... جمهور الْعُلَمَاء مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدهمْ".

وفي الحديث: "مَن صلَّى صلاةً لم يقرأْ فيها بأُمِّ القرآن، فهي خِداجٌ -ثلاثًا- غير تمام، فقيل لأبي هُرَيرَة: "إنَّا نكونُ وراءَ الإمام، فقال: اقرأْ بها في نفسِك؛ فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: (قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بَيني وبَين عبدي نِصفين، ولعَبدي ما سأل، فإذا قال العبدُ: الحمدُ لله ربِّ العالَمين، قال الله تعالى: حمَدني عَبدي، وإذا قال: الرَّحمن الرَّحيم، قال الله تعالى: أثْنَى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالِك يومِ الدِّين، قال: مَجَّدني عبدي، (وقال مرَّة: فوَّض إليَّ عبدي)، فإذا قال: إيَّاك نعبُدُ وإيَّاك نستعين، قال: هذا بَيني وبَين عبدي، ولعَبدي ما سأل، فإذا قال: اهدِنا الصِّراطَ المستقيمَ صِراطَ الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالِّين، قال: هذا لعَبدي، ولعبدي ما سألَ) ".

هي السبع المثاني، بل هي القرآنُ العظيم كما جاء في الحديث: (لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ السُّوَرِ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ قُلْتُ لَهُ: أَلَمْ تَقُلْ لَأُعَلِّمَنَّكَ سُورَةً هِيَ أَعْظَمُ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ؟ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي، وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُه).

قال الحافظ ابن حجر:" اخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتهَا "مَثَانِي" فَقِيلَ لِأَنَّهَا تُثَنَّى كُلّ رَكْعَة أَيْ تُعَاد، وَقِيلَ لِأَنَّهَا يُثْنَى بِهَا عَلَى اللَّه تَعَالَى، وَقِيلَ لِأَنَّهَا اُسْتُثْنِيَتْ لِهَذِهِ الْأُمَّة لَمْ تَنْزِل عَلَى مَنْ قَبْلهَا، " اهـ.

 

 

 

اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك

بارك الله لي ولكم في القرآن الحكيم والصراط المستقيم

أقول قولي هذا مستغفراً اللهَ من الزلل في القول والعمل، فاستغفروه على الدوام يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على ولد عدنان، المبعوث بالقرآن، وعلى آله وأصحابه الذين اهتدوا بالقرآن فكانوا سادة الأزمان.

أما بعد: فيا أيها المسلمون:

من دلائل فضل سورة الفاتحة وعلوِّ شأنها، وعِظَمِ قَدْرِها أنها اُخْتُصت بأسماء وألقابٍ وأوصافٍ ليس لغيرها من السور!

هذه الأسماء تضمنت أنواعاً من المعاني الجليلة، مَن تأمّلها وتفكّر في دلائلها تبيّنت له عظمةُ هذه السورة الجليلة، وازداد يقيناً بفضلها، وحِرصاً على الانتفاع بها.

فمن أسمائها الثابتة: فاتحة الكتاب، وفاتحة القرآن، والفاتحة، وأم الكتاب، وأم القرآن، والحمد لله رب العالمين، والحمد، والسبع المثاني، والقرآن العظيم.

وقد ذكر عددٌ من المفسّرين أسماءً أخرى للفاتحة حتى أوصلوها إلى نحو ثلاثين اسماً عامّتها ألقابٌ وأوصافٌ أُخذت من بعض الأحاديث والآثار، ومما ذُكر من تلك الأسماء: الشافيةُ، والكافية، والوافية، والرُّقْية، والصلاةُ، والدعاء، والسؤال، والشكر، والكنز، والأساس.

أما تسميتها: الرقية أو الشفاء أو الشافية فيدل له القصة التالية: "انطلَق نفرٌ من أصحابِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في سَفرةٍ سافروها، حتى نزَلوا على حيٍّ من أحياء العرب، فاستضافوهم فأَبَوْا أن يُضيِّفوهم، فلُدِغ سيِّد ذلك الحيِّ، فسَعَوا له بكلِّ شيءٍ، فقال بعضُهم: لو أتيتم هؤلاءِ الرهطَ الذين نزلوا؛ فأتوْهُم، فقالوا: إنَّ سيِّدنا لُدِغ، وسَعَينا له بكلِّ شيءٍ، لا ينفعُه؛ فهل عند أحدٍ منكم من شيءٍ؟ فقال بعضهم: نعَمْ، واللهِ إني لأَرْقي، ولكنْ واللهِ لقدِ استضفناكم فلم تُضيِّفونا! فما أنا براقٍ لكم حتى تجعلوا لنا جُعلًا، فصالَحوهم على قَطيعٍ من الغَنم، فانطلق يتْفُل عليه، ويقرأ: الحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمِينَ، فكأنَّما نشِط من عِقال، فانطلَق يمشي وما به مرض، قال: فقدِموا على رسولِ الله، فذكروا له، فقال: وما يُدريك أنَّها رُقيةٌ؟.

فهي شِفاءٌ للأجساد من الأوجاع والأسقام، وهي كذلك شفاء للقلوب، من الشكوك والوساوس والأوهام، فإنْ كنت في شك من ذلك، فتأمل في حال هذا الرجل الملدوغ والسمُّ القاتل يسري في جسده سريان الدم، فما هو إلا أن قرئت عليه هذه السورة فنشط كأن لم يكن به بأس! فلا تعجب إنه القرآن وإنها الفاتحة الشافية الرقية على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أيها المسلمون: ونحن على هذه الدنيا، كم يُصيبنا من الأمراض! ويصيبُ أبنائنا وأهلينا من الأوجاع الطارئة أو الدائمة، ونفزع إلى كل باب من أبواب المصَّحات والمستشفيات والعيادات ونتناول سائرَ العقاقير، ونَغْفل عن الدواء الرباني، والشفاء النبوي، والعلاج القرآني.

قال ابن القيم: "كان يعرض لي آلام مزعجة بحيث تكاد تقطع الحركة مني، فأبادر إلى قراءة الفاتحة وأمسح بها على محل الألم فكأنه حصاة تسقط، جربت ذلك مراراً عديدة، وكنتُ آخذُ قَدَحاً من ماء زمزم فأقرأ عليه الفاتحةَ مِراراً فأشربُه فأجد به من النفع والقوة ما لم أعهد مثلَه في الدواء" اهـ، وفي واقعنا المعاصر أمثلة كثيرة، وقصص معبرة عن أناس ما كان يُظنُّ أنهم يُشفوا، فشُفوا بإذن الله بهذه السورة فقط، لكن السبب المانع كامنٌ في ذواتنا، قال ابن القيم: "لو أحسن العبدُ التداوي بالفاتحة لرأى لها تأثيراً عجيباً في الشفاء"

أيها المسلمون: كما تضمنت سورة الفاتحة أعظم الدعاء وأنفعه وأبركه وأتمه، ألا وهو الهداية إلى الصراط المستقيم. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "تأملت أنفعَ الدعاء، فإذا هو سُؤالُ العونِ على مرضاته، ثم رأيته في الفاتحة في: إياك نعبد وإياك نستعين"

فتأملوا سورة الفاتحة كلمةً كلمةً، وآيةً آيةً، بتدبر وتفهم تروا عجباً من القول، ويقينا في القلب، وخشوعاً وتأثراً، جربوا أن تقرؤها في صلاتكم بيقين وتدبر سترون أثر ذلك.

قال العلامة السعدي: فهذه السورة على إيجازها، قد احتوت على ما لم تحتو عليه سورة من سور القرآن، فتضمنت أنواع التوحيد الثلاثة، وإثبات النبوة، وإثبات الجزاء على الأعمال، وتضمنت إثبات القدر، بل تضمنت الرد على جميع أهل البدع والضلال. وتضمنت إخلاص الدين لله تعالى.

 

اللهم اهدنا الصراط المستقيم

اللهم نور قلوبنا بالقرآن، وأحينا بالقرآن، وتوفنا على الإيمان.

المرفقات

1766152476_الفاتحة، أسرار وهدايات (1).pdf

المشاهدات 155 | التعليقات 0