الإسراف

عبدالله الغامدي
1446/10/19 - 2025/04/17 17:49PM

الخطبة الأولى:

إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إلَيْهِ، ونعوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مضلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أن لاَ إلَهَ إلا اللَّهُ وَحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

المعتمدُ بنُ عَبّاد أميرُ أشبيلية في الأندلس كان يعيش حياةً مُترفةً غاية في التنعّم واللذة، طيّباتُ الدنيا تُجلب له، جلس ذات يومٍ هو وزوجته وبناتُه على شُرفَةِ القصر، فرأت زوجتُه أُناسًا يمشون في الطين؛ فاشتهتْ أن تخوضَ في الطين كما يفعلون، فنُثِرَ الطينُ والزعفران في ساحة القصر، ثم عجنوه بماء الورد والمسك والكافور؛ لتخوض به هي وبناته، لتحقق رغبتها!

ثم دارت الأيامُ, وحصل عليه ما حصل, وزال ملكه, وسُجن بسجنِ أغمات في المغرب، واستُذِلَّت بناتُه وعاد مرحومًا بعد أن كان محسودًا، بينما هو مسجونٌ دخلت عليه بناتُه يوم العيد في ملابسَ رثة, معهن المغازل يغزلن الثياب للناس؛ فقال متحسرًا:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورًا *** فساءك العيدُ في أغمات مأسورًا

تـرى بناتك في الأطمارِ جائعة *** يغـزلْن للناس لا يملكْنَ قِطميرًا

برزْن نحـوَك للتسلـيمِ خاشعةً *** أبصـارُهنَّ حسيراتٍ مكاسيرًا

يطأْنَ في الطين والأقـدام حافيةٌ *** كأنهـا لم تطأْ مسكًا وكافورًا

من بات بعدك في ملك يسرّ به *** فإنما بـات بالأحـلام مغرورًا

تبرز للأذهان قصة المعتمد في هذه الأيام, ونحن نرى صوراً من الترف, وأشكالاً من التباهي, وعجائب من التبذير في كافة الجوانب وعلى جميع الأصعدة.

إسراف في المياه، في الملابس، في المهور، في حفلات الزواج، في المناسبات الاجتماعية، بل صار الإسراف حتى في العزاء والأتراح!

وظاهرة الإسراف قد حذَّر منها القرآن في مواضع كثيرة، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى أنَّه لا يحب المسرفين فقال: قال الله -عز وجل-: (وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ)

وجعلهم إخوانًا للشياطين فقال: : (وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)

ولما ذكر صفات عباد الرحمن لم يصفهم بالصلاة والذكر فقط، بل جعل من أعظم صفاتهم حسن التعامل مع المال وعدم الإسراف فقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً).

وقد نهى الشرعُ عن الإسراف ولو كان في عبادة، عن عبد الله بن عمرو ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسعد ، وهو يتوضأ ، فقال : ما هذا السرف ؟ فقال : أفي الوضوء إسراف ؟ قال : نعم ، وإن كنت على نهر جار .

وثبت في الصحيحين أنَّ النبيَّ  كان مع شدة إسباغه للوضوء والغسل، يتوضأ بمد ويغتسل بصاع فقط!

واليوم تجد البعض لا يرتاح حتى يفتح صنبور المياه إلى آخر حد فيذهب كثير منه ولا يتوضأ إلا بالقليل! وإذا كان النبيُّ ‘ ينهي عن الإسراف في عبادة، فكيفَ بمن يسرف في مباح أو مكروه أو محرم؟!

وهذه ليست دعوةً إلى ترك التمتّع بالمباح فقد قال الله: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)[الأعراف:31-32].

وليست دعوةً إلى التقتير والبخل والشح، ولكنها دعوة إلى الاعتدال والرجعة إلى ميزان الله في التعامل الوسطي مع المال: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً)، (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً).

دَبِّرِ العيشَ بالقليلِ ليبقى=فبقاءُ القليلِ بالتَّدبيرِ

لا تُبَذِّرْ وإن ملَكْتَ كثيرًا=فزوالُ الكثيرِ بالتَّبذيرِ

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

point.pngpoint.pngpoint.png

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه الداعي إلى رضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون﴾ أما بعد:

جماع القول يا كرام: أنه ما حُفِظَت النِعمُ بِمِثلِ رعايةِ حقِّ الله فيها, ومن ذلك عدمُ الإسراف والتبذير فيها, وما ترحلّت النِعمُ ولا استُجلِبت النقمُ بمثلِ الإسرافِ والتبذيرِ فيها.

جرّب أن تجلس مع رجلٍ من الأجداد وكبار السنّ, سله عن الحال هنا قبل عقود, سيُحَدِّثُكْ عن الجوع والشِدّة, سيُحدِّثُك بأحوالٍ لا يكادُ يُصدِّقُها أبناءُ اليوم, سيُحَدِّثُكَ أنه في عام 1327هـ تبرع أهلُ الصومال لأهل هذه البلاد؛ لِسَدّ مجاعتهم!.

سيحدثك أنهم رأوا جوعاً كان البعض يسقط معه في الطُرُقات مغشيّاً عليه, سيُحدِّثك أنهم رأوا جوعاً أُكِلَت معه الميتاتُ, وأُكلت معه الحشائش, ليس هذا مِن نسج الخيال ولا مِن ضُروبِ المُبالغاتِ؛ بل إنه حديثٌ ليس بالأغاليط, لكننا اليوم لا نتصوره!

والذي بدّل الشدةَ رخاءً والضراء سراءً قادرٌ على أن يقلب الأحوال, وليس بينه وبين العباد نسب, وليس لأهل هذه البلاد عقد مع الله أن لا يفتقروا ولا تمرَ بهم الشدائد.

قال أحدُ كبار السن لأولاه: "لقد حدثناكم بجوعٍ مَرّ بِنا، وأخشى أن يأتي زمانٌ تحدثون أولادكم بِنعمةٍ مرّت بكم, ثم فُقِدت".

فلا نكن -يا مؤمن-, لا نكن بإسرافنا سبباً في أن تحل بنا المثُلات, وأن تترحّل النعمُ ونُحْرَمَ البركات.

أنفِق وكُلْ واشرب, وسافر واصنع ما شئت, مِن غَيرِ سَرَفٍ ولا مَخيلةٍ, ومِن غيرِ تبذيرٍ ولا معصية.

اللهمّ اجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين

وصلى الله على نبينا وآله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين

line.png

 

المرفقات

1744901463_خطبة الإسراف والتبذير.docx

1744901463_خطبة الإسراف والتبذير.pdf

المشاهدات 1066 | التعليقات 0