الإلف المهلك .. نص

عبدالسلام العديني
1447/02/15 - 2025/08/09 09:29AM

الإلف المهلك 8.8.2025

جاء في الأثر قصة رجل عبدالله في جزيرة فأجرى الله له نبع ماء عذب وشجرة تثمر له كل يوم ثمرة حتى مات ساجدا بعد خمسمائة عام ،
فيقول الله للملائكة ادخلوا عبدي الجنة برحمتي فيقول بل بعملي ، فيقول الله زنوا لعبدي نعمة البصر إلى عمله فيطيش كل عمله أمام نعمة واحدة
السؤال : ما الذي جعل هذا العبد يتذكر علمه وينسى نعم الله عليه
إنه المرض الذي نعاني منه جميعا مرض سماه أهل العلم بالإلف والتعود والتطبع لكنه إلف مهلك
وتعالوا نتأمل في صورتين من الأمور التي يألفها الإنسان فتكون سببا في هلاكه ، صورة خاصة  وأخرى عامة
إلف النعمة إلى درجة نسيان شكرها 
وإلف المنكر إلى درجة التبرير له
والقرآن الكريم بمنهجيته التربوية
ركز على انقاذ الإنسان من الإلف الذي يسوقه إلى الهلاك  ،
وأول ما يألفه ويعتاد عليه الإنسان هو النعم التي غمره الله بها وكلفه بشكره عليها
تألف النعم فترى وتسمع وتتذوق وفي نفسك شعور أن هذا أمر طبيعي لأنك صاحب هذه الحواس ، وتنسى تماما أنها منحة الله وأن الله قادر أن يسلبها منك في لحظة وبلمحة بصر
ألفت النعمة ونسيت المنعم فتعاليت على الشكر
تشرب الماء ثم تشعر بالحاجة لإخراجه فتفعل ذلك ثم لا تشكر لأن هذا أمر ألفته وتعودت عليه  ، فإذا حدث خلل بسيط في عمل المثانة وتوقف خروجه تدرك النعمة التي لم تشكر الله عليها
رجل في السبعين من عمره حصل عنده انحصار بول واسعف وتم علاجه
فرأى أبنائه محتلقين حول الطبيب يشكرونه فبكى ، قالوا ما يبكيك ، قال سبعين عام وأن أخرجه دون تدخل طبي ولا أشكر الله حق شكره
ومرة واحدة أخرجه الطبيب غمرتموه بالشكر مع أنه أخذ مالا مقابل فعله 

إخوة الإيمان : إن شكر النعم الذي يحمينا من الإلف المهلك يكون في تسخير النعم  لله ونصرة دينه وعون خلقه ، ولكن المهلك ..  أن تتحول النعمة إلى مادة للإفساد والعلو والاستكبار والتعالي على الله الواحد القهار

ويكفي لندرك خطر هذا الإلف
أن يتذكر أحدنا أيام مرت عليه على فراش المرض ثم يتذكر لحظة الشفاء سيجد أنه أدرك نعمة العافية وشكر الله عليها لحظة الشفاء ، وما هي إلا أيام قلائل ونسى تلك النعمة لأنه ألفها فعاد للغفلة والمعصية من جديد
فالإلف المهلك أن تتذكر النعمة لحظة العطاء ، وتنسى شكرها في عمر البقاء 

وهذا ما وقع فيه مشركي قريش 
حين خاطبهم الله بقوله (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ)  ألفوا هذه النعمة التي حققت لهم الأمن النفسي والغذائي ونسو المنعم فكانت سبب هلاكهم حين قابلوا النعمة برفض عبادته (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ

فالإلف المهلك
أعلى درجاته نسيان المنعم وإعلان العداء له بإنكار دينه ومحاربة رسالته
وأوسط درجاته الاستنقاص من شرعه وانكار سنة نبيه
وأدناها .. الجواب بتذمر على سؤال : كيف الحال ، فتقول له إشكر الله على نعمه ، فيقول أي نعمه وأنا أعاني من كذا وكذا ، وفلان معه وله ولديه والمتحدث في هذه اللحظة ينسى نعمة اللسان الناطق والعقل الغاضب ولو نطقت ذرات جسده لقالت (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)
ونعم الله التي ألفناها  وما عدنا نشكره عليها كثيرة ، ومنها نعمة شروق الشمس وغروبها ،
نعمة ألفناها فلم يعد منا أحد يصبح الصباح فيشكر الله على نعمة شروق الشمس ، ولأن الله علم أننا سنألف هذه النعمة قال لنا في القرآن
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ  قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ

ألفنا النعم التي نعيش بين دفتيها من لحظة الاستيقاظ إلى لحظة المنام وتعودنا عليها فنسينا شكرها
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام
أخرجنا من دائرة الإلف المهلك إلى الشكر الدائم من خلال الأذكار
فحين تقول لحظة الاستيقاظ (الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره )
أنت تشكر الله الآن على نعمة القلب الذي لم يتوقف نبضه والنفس الذي لم يتوقف زفيره وشهيقه و الكلية التي لم يتوقف غسيلها ، ونعمة جليلة لا تحصى 

إخوة الإيمان  :
هذه صورة من صور الإلف المهلك
إلف النعمة حد انكارها ونسيان شكرها
أما الصورة العامة  للإلف المهلك .. فهي
إلف المنكر حد  التوقف عن إنكاره

منكر موجود في المجتمع مشاهد ملموس في حياتك المحيطة بك أو البعيدة عنك ، لكنك تألفه لكثرة وقوعه وتكرر حدوثه  فتتوقف عن إنكاره ثم تهون منه ومن خطره ،  لأن قلبك قد ألفه وتطبع عليه
والقرآن في قصة أصحاب السبت
يجلي خطر ألف المنكر ( وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ)
قرية على البحر حرم عليهم اصطياد السمك يوم السبت ، أي أن الاصطياد يوم السبت أصبح منكرا، فتوقف الجميع،
إلا أن أحدهم فكر بالاحتيال  فكان يأتي يوم الجمعة وينصب الشباك فيعلق السمك فيها فيأخذه يوم الأحد ،
شخص واحد
ارتكب الآن منكرا في المدينة وأبناء المدينة كلهم يتفرجون عليه دونما انكار ،
ثم بدأ المجتمع يألف المنكر حتى أصبحت منكرا عاما ،
ثم تجاوزوا إلف المنكر إلى التبرير له والدفاع عنه حتى قال قائلهم : ( إنما حرم الله الصيد على أبائنا لذنب ارتكبوه ، أما نحن فليس بمحرم علينا لأننا لم نذنب )
وهنا ذكر القرآن  أولئك الذين ألفوا المنكر وتعودوا عليه حتى أصبحوا يلومون من ينكره
( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)  .. هذان فريقان
فريق ألف المنكر فأصبح شعاره  ، لماذا تشارك لم تتحدث لم تجمع لغزة ، ماذا ستغير أفعالك وكلماتك على أرض الواقع ، كيف ستحدث التأثير رغم هذه المسافات الطوال ،

 الجواب لك من يريد أن يبرر لمنكر ألفه وتعود عليه هو شعار الفريق الثاني ( مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ

أنا حين أقف ضد المنكر في أقصى الأرض أو ضد منكر داخل مدينة تعز ،  هدفي الأول أن أنقذ نفسي فأنجوا من العذاب
المشكلة أن البعض لا يريد ان يشارك في تغيير المنكر ولو بكلمة أو الوقوف ضد الظلم ولو بجرة قلم .. إلا إذا ضمن النتيجة المحققة ،
وهنا لا بد أن ندرك
أن النتيجة المحققة ليست زوال المنكر أو انتهائه وإنما أن يكتبك الله مع الذين ينكرون المنكر فيكرمك ويجازيك بالنجاة أن تكون  ممن قال الله عنهم (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ في الآية لم يتحدث
عمن ألفوا المنكر ، لم يذكر الفريق المحايد الفريق الذي لازال يعتبر أن من ينكر المنكر يهول ويشوه ويشق الصف
لم يتحدث عمن قالوا ( لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا)
لم يذكره لضعف موقفه
بل قال أهل العلم انه يشترك مع أهل المنكر في العقاب لأن سكوته عد من باب الرضا عن المنكر
وقال بعضهم يكفيهم عقوبة إهمال الله لهم واعراضه عنهم لسوء موقفهم
وهنا يأتينا حديث أخر
في هلاك من ألف المنكر ولم يغيره ولو كان من الصالحين ، حين سُأل رسول الله ( أنهلك وفينا الصالحون ، قال نعم )
وقال الله للملك عن الرجل الصالح ( به فابدأ) لأنه ألف المنكر وتطبع عليه ولم ينكره ( لم يتمعر وجهه في قط* 

لكن في  المقابل
القرآن نفى الهلاك عن الأمة التي فيها المصلحون الذين لم يقعوا في فخ الإلف للمنكر والتطبع عليه والتبرير له
( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)
أخا الإيمان :
إن لا يرضى الله لك أن تألف المنكر
ولو ارتكب المنكر  في أقصى الأرض ،
لأن رسول الله قال ( إذا عُملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها وفي رواية فأنكرها كمن غاب عنها

انكارك لمنكر ارتكب في أقصى الأرض وأنت في تعز كأنك أنكرته حضورا أينما ارتكب

لماذا إلف المنكر والمعصية مهلك
لأن أظلم الظلم التعود على الظلم
ومن الإجرام الرضا عن المجرمين
ومن الفساد الدفاع عن المفسدين
حين يصبح في المدينة
أنه من الطبيعي أن فلان وفلان أشخاصا وهيئات ينهبون الأرضي ولا يقول لهم أحد لا ، والناهب ينهب معتقدا أن هذا أمرا طبيعيا فانتظر الهلاك
يقول صلى الله عليه وسلم  : ( إذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها )
كيف لا ننتظر الهلاك والعقوبة
ونحن نرى المنكر الأكبر يمارس على إخواننا في الإسلام في غزة من قبل اليهود والنصارى والمنافقين مجتمعين
ثم مع مرور الأشهر تعودنا الوضع وأصبح خبر المئات من الشهداء مألوف والعشرات يموتون جوعا خبرا عادي 

حين تسمع بمنكر التعليم وتغيير المناهج عبر مصفوفة تروج للدين الإبراهيمي وتسمع بمنكر الأقليات الذي سيقضى على ما تبقى من الشعب بالقتتال  وتسمع بمنكر التطفيف والسرقة في محطات البترول ومخابز العيش
وتسمع بمنكر التجار الكبار الذين يتلاعبون بأسعر الصرف ،
والجميع يمارس هذا الظلم بأنه حق والناس قد ألفوه وتعودوا عليه .. 

فاعلم أن من سكت عنهم من أهل القرار فهو ظالم ، ومن سكت عنهم من أهل الإعلام فهو ظالم ، ومن سكت عنهم من عموم الناس فهو ظالم
لأن أظلم الظلم التعود عليه وإلف وقوعه
متلازمة استوك هولم  :
مصطلح اطلق عام 1973 خلاصتها في علم النفس : أن يصل المعتدى عليه إلى درجة التعاطف والتأييد للمعتدي 

ولعل الذين وقعوا اتفاق استوك هولم الذي تم الانسحاب بعده من الحديدة قد وقعوا وأصيبوا بهذه المتلازمة وبدلا من الدفاع عن الشرعية أصبحوا يمكنوا للمليشيات المعتدية
في عام 1993 اختطفت فتاة أمريكية عمرها 11 عام ولم يعرفوا عنها شيء لمدة 18 سنة  ، المختطف قيدها ثلاث سنوات كاملة واغتصبها وحملت منه بطفلتين وفك قيدها بعد ثلاث سنوات 

ثم بعد 18 سنة اكتشفت بالصدفة وهوجم البيت وحررت  وفي التحقيق كانت الفتاه تتحدث عن الخاطف بأنه رجل عظيم وتدافع عنه ، لأنها ألفت حياة الأسر والعبودية والاستعباد
وللأسف فكثير منا مصاب بهذه المتلازمة

ألف الناس الفساد والذل والضعف 

فأصبحوا كالقطيع المعتدي والمفسد والفاشل في الإدارة يدافع عنه من يعانون من الفساد والغلاء فقط لأنه ينتمي إلى جماعته أو حزبه أو قبيلته
أصيب الكثير منا مصاب بمتلازمة استوك هولم
فهاهم يدافعون عن مفسدي الأمس ومفسدي اليوم ويبررون لكل جرم يرتكبونه 

ختاما :
الحديث عن الإلف المهلك لا ينبغي أن يأخذ بمفهوم اليأس وإنما ينبغي أن يكون دافعا لحامل راية الإنكار ورفض الظلم وعدم التعود على الاستبداد ، 

وعلى المستوى الشخصي ينبغي أن يكون دافعا لشكر الله على نعمه الجليلة 

المشاهدات 247 | التعليقات 0