التبكير إلى الصلاة
عبدالرحمن عبدالعزيز القنوت
الحمدُ للهِ الذي وفَّقَ مَن شاءَ لطاعتِهِ، وأعانَهُ على ذِكرِهِ وشُكرِهِ وحُسنِ عبادتِهِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيُّها المؤمنونَ: فإنَّ مِن فضلِ اللهِ ورحمتِهِ بعبادِهِ أنْ يسَّرَ لهم الطاعاتِ، وبيَّنَ لهم سبيلَ كَسْبِ الأجورِ والحسناتِ، وأرشدَهم إلى طريقِ الجناتِ، وإنَّ مِن أعظمِ القُرُباتِ إلى اللهِ الصَّلاةَ، فالصَّلاةُ خيرُ موضوعٍ، والمحافظةُ عليها مِن صفاتِ ورثةِ جَنَّةِ الفِردوسِ.
ومِن العباداتِ الجليلةِ التي تتعلَّقُ بالصلاةِ أيُّها الكرامُ؛ التبكيرُ إلى حضورِها، والسَّعيُ إليها، والتَّهجيرُ حين يُنادى لها.
لمَّا كانَ التبكيرُ إلى الصلاةِ مِنَ الخيراتِ التي أمرَ اللهُ بالمسابقةِ إليها، كما قالَ اللهُ: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾، ومدحَ مَن يفعلُ ذلك، فقالَ اللهُ: ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾، فكانَ للسَّابقِ إليها فضلٌ وثوابٌ أكثرَ مِن غيرِه.
سُئِلَتْ عائشةُ: ما كانَ النبيُّ ﷺ يصنعُ في بيتِهِ؟ قالتْ: كانَ يكونُ في مِهْنَةِ أهلِهِ، فإذا حضرتِ الصلاةُ خرجَ إلى الصلاةِ. رواهُ البخاريُّ.
وقد أخبرَ ﷺ أنَّ أجرَ التهجيرِ والتبكيرِ إلى الصلاةِ ثوابُهُ عظيمٌ من اللهِ، وأجرُهُ جزيلٌ، قالَ ﷺ: "لو يعلمونَ ما في التهجيرِ لاستبقوا إليه". متفقٌ عليه.
أيُّها الأحبَّةُ.. والتبكيرُ إلى الصلاةِ حينَ يُنادى لها سبيلُ المؤمنينَ، ولقد جاءتِ الفضائلُ والأجورُ للمبكِّرينَ إليها والمسارعينَ لها، ومن ذلك استغفارُ الملائكةِ لِمَن ينتظرُ الصلاةَ، قالَ ﷺ: "إنَّ الملائكةَ تُصلِّي على أحدِكم ما دامَ في مجلسِهِ، تقولُ: اللهمَّ اغفرْ له، اللهمَّ ارحمْه، ما لم يُحدِثْ، وأحدُكم في صلاةٍ ما كانتِ الصلاةُ تحبسُهُ". رواهُ مسلمٌ.
ومِن فضائلِ التبكيرِ إلى الصلاةِ إدراكُ الصفِّ الأولِ، وما فيه من الفضلِ العظيمِ، في الصحيحينِ قالَ ﷺ: "لو يعلمُ الناسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ لاستهموا عليهما"، وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "خيرُ صفوفِ الرجالِ أوَّلُها، وشرُّها آخرُها.." رواهُ مسلمٌ.
والمبكِّرُ إلى الصلاةِ سيدركُ تكبيرةَ الإحرامِ، وهي مِن أفضلِ التكبيراتِ، ومفتاحُ الصلاةِ، وأجرُ إدراكِها عظيمٌ عند اللهِ، قالَ ﷺ: "مَن صلَّى للهِ أربعينَ يومًا في جماعةٍ يُدركُ التكبيرةَ الأولى كُتبتْ له براءتانِ: براءةٌ مِن النارِ، وبراءةٌ مِن النفاقِ". رواهُ أحمدُ والترمذيُّ.
عبادَ اللهِ.. والدعاءُ بين الأذانِ والإقامةِ مستجابٌ، والمبكِّرُ إلى الصلاةِ قد شهدَ وقتَ الاستجابةِ في أفضلِ مكانٍ وأبركِه، متطهِّرًا مستقبِلًا القبلةَ رافعًا يديْهِ، قالَ ﷺ: "الدعاءُ لا يُردُّ بين الأذانِ والإقامةِ". رواهُ الترمذيُّ وأبو داودَ والنسائيُّ.
والمبكِّرُ إلى الصلاةِ يُدركُ صلاةَ السُّننِ الرواتبِ القبليَّةِ، كسُنَّةِ الفجرِ والظهرِ، وتحيَّةِ المسجدِ، وصلاةَ ما شاءَ من الركعاتِ قبلَ صلاةِ الفريضةِ.
وقراءةُ القرآنِ والوِردُ اليوميُّ من كتابِ اللهِ يستطيعُ إنجازَهُ المبكِّرُ إلى الصلاةِ قُبيلَ الإقامةِ.
والمبكِّرونَ إلى الصلاةِ يحضرونَ إلى المسجدِ بسكينةٍ ووقارٍ، مستجيبينَ لهديِ خيرِ الأنامِ، قالَ ﷺ: "إذا سمعتُم الإقامةَ فامشوا إلى الصلاةِ، وعليكم السكينةُ والوقارُ، ولا تُسرعوا، فما أدركتُم فصلُّوا، وما فاتَكم فأتمُّوا". متفقٌ عليه.
وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ سببٌ في محو الخطايا ورفعِ الدرجاتِ، وهو مِن الرِّباطِ في سبيلِ اللهِ، قالَ ﷺ: "ألا أدلُّكم على ما يمحو اللهُ به الخطايا ويرفعُ به الدرجاتِ؟!"، قالوا: بلى يا رسولَ اللهِ، قالَ: "إسباغُ الوضوءِ على المكارهِ، وكثرةُ الخطا إلى المساجدِ، وانتظارُ الصلاةِ بعدَ الصلاةِ، فذلكمُ الرِّباطُ". رواهُ مسلمٌ.
أيُّها المؤمنونَ.. ولقد ضربَ سلفُنا الصالحُ أروعَ الأمثلةِ وأصدقَها في التبكيرِ إلى الصلاةِ، يقولُ عديُّ بنُ حاتمٍ رضي اللهُ عنه: "ما دخلَ وقتُ صلاةٍ حتى أشتاقَ إليها، وما أُقيمتِ الصلاةُ منذ أسلمتُ إلا وأنا على وضوءٍ".
ويقولُ سعيدُ بنُ المسيبِ: "ما أذَّنَ المؤذِّنُ منذ ثلاثينَ سنةً إلا وأنا في المسجدِ، وما فاتتني صلاةُ الجماعةِ منذ أربعينَ سنةً، وما نظرتُ إلى قفا رجلٍ في الصلاةِ".
وفي بيانِ حرصِ الصحابةِ على أداءِ الصلواتِ في الجماعةِ، روى مسلم في صحيحِه عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي اللهُ عنه قال: "مَن سرَّه أن يلقى اللهَ غدًا مسلمًا فليُحافظْ على هؤلاءِ الصلواتِ حيثُ يُنادى بهنَّ، فإنَّ اللهَ شرعَ لنبيِّكم ﷺ سُننَ الهدى، وإنهنَّ مِن سُننِ الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتِكم كما يُصلِّي هذا المتخلِّفُ في بيتِه لتركتم سُنَّةَ نبيِّكم، ولو تركتم سُنَّةَ نبيِّكم لضللتم، وما من رجلٍ يتطهَّرُ فيُحسنُ الطهورَ، ثم يعمدُ إلى مسجدٍ من هذه المساجدِ، إلا كتبَ اللهُ له بكلِّ خطوةٍ يخطوها حسنةً، ويرفعُه بها درجةً، ويحطُّ عنه بها سيئةً، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّفُ عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاقِ، ولقد كان الرجلُ يُؤتى به يُهادَى بين الرجلين حتى يُقامَ في الصفِّ". أي: يُؤتى به وهو مستندٌ بين رجلينِ حتى يقفَ في الصفِّ، وذلك من شدةِ حرصِ صحابةِ رسولِ اللهِ ﷺ على حضورِ الصلاةِ.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، فاستغفروا وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرجيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ حمدًا طيِّبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أيُّها المؤمنونَ: يومُ الجمعةِ خيرُ يومٍ طلعتْ عليه الشمسُ؛ وهو يومُ عيدٍ يجتمعُ فيه المسلمونَ كما يجتمعونَ لصلاةِ العيدِ، وكما حثَّ النبيُّ ﷺ على التبكيرِ للصلاةِ عمومًا، فقد رغَّبَ في التبكيرِ ليومِ الجمعةِ خصوصًا، ورتَّبَ للمبكِّرِ إليها أجرًا وثوابًا أكثرَ مِن المتأخِّرِ في حضورِها، قالَ ﷺ: "مَنِ اغتسلَ يومَ الجمعةِ غُسلَ الجنابةِ، ثم راحَ في الساعةِ الأولى، فكأنَّما قرَّبَ بدنةً، ومَن راحَ في الساعةِ الثانيةِ فكأنَّما قرَّبَ بقرةً، ومَن راحَ في الساعةِ الثالثةِ فكأنَّما قرَّبَ كبشًا أقرنَ، ومَن راحَ في الساعةِ الرابعةِ فكأنَّما قرَّبَ دجاجةً، ومَن راحَ في الساعةِ الخامسةِ فكأنَّما قرَّبَ بيضةً، فإذا خرجَ الإمامُ حضرتِ الملائكةُ يستمعونَ الذكرَ". متفقٌ عليه.
لقد منحَ اللهُ أجورًا للمبكِّرينَ والمسارعينَ، فكلُّ مسارعةٍ إلى الصلاةِ وحضورٍ مبكِّرٍ فإنَّ الأجرَ فيهما أكبرُ، والثوابَ أعظمُ.
أيُّها الأحبَّةُ.. ومَن كانتِ الصلاةُ همَّهُ وشُغلَهُ فليُبشِرْ بموعودِ اللهِ له، بأن يكونَ ضمنَ السبعةِ الذينَ يُظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه، قالَ ﷺ: "سبعةٌ يُظلُّهم اللهُ في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظلُّه..." وذكرَ منهم: "ورجلٌ قلبُه معلَّقٌ في المساجدِ". متفقٌ عليه. فلا يُبكِّرُ إلى الصلاةِ ويسعى إليها إلا مَن أحبَّها، وأنِسَ بالجلوسِ في المساجدِ، وتعلَّقَ قلبُه بها.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على مَن أمرَكم اللهُ بالصلاةِ والسلامِ عليه، فقالَ عزَّ من قائلٍ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاءِ الراشدين، وعن سائرِ الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.