التحذير من الإسراف والتبذير في الولائم والمباهاة بها
الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله الهويمل
التحذير من الإسراف والتبذير في الولائم والمباهاة بها
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَأَثْنَى عَلَى الْمُعْتَدِلِينَ ، وَذَمَّ الْمُبَذِّرِينَ وَجَعَلَهُمْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْقَائِلُ فِي كِتَابِهِ الْمُبِينِ : ( يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الأَمِينُ ، وَصَفْوَةُ الأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الَّذِينَ لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَكُونُوا مِنَ الْمُقْتِرِينَ ، وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ . أَمَّا بَعْدُ :-
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ؛ والبعدِ عن الإسراف والتبذير .
عباد الله : لقد أكرَمنَا ربُّنا جلَّ وعلا ومَنَّ علينا بنعمٍ ظاهرةٍ وباطنةٍ ، ومن تلكَ النِّعمِ : نعمةُ الطعامِ ، فهوَ قوامُ حياةِ الإنسانِ ، وغذاءُ بدنِه ومصدرُ قوتِه وطاقتِه . فنعمة الطعام من أعظم النعم التي تحفظ الجنس البشري من الانقراض ، فلا حياة للإنسان بدون طعام ، وأَمرَنا سبحانَه وتعالى أَنْ نتأمَّلَ في بديعِ إيجادِ هذا الطعامِ ومراحلِ تكوينِه ، فقالَ جلَّ وعلا : ( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِه * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُم ) .
عباد الله : إذا جلس أحدنا على مائدة طعامه ، ونظر إلى سفرته ، وجد أصنافاً ممّا لذّ وطاب من مأكلٍ ومشرب ، قد جُلِبت إلينا من دول شتّى نعمة من الله وفضل ، وهذه النعمةُ نحنُ مسؤولونَ عنهَا ومحاسبونَ عليهَا ، وعلى تأديةِ الشكرِ لمسدِيها جلَّ وعلا
وقدَ أمرَنا اللهُ جلَّ وعلا بالمحافظةِ على نعمةِ الطعامِ وعدمِ الإسرافِ فيهَا وإهدارها ، كما يحصل في كثير من ولائم الزواجات وغيرها من الإسراف والمبالغة في كثرة الطعام وتعدد أصنافه ، كما حذَّر ربُّنا جلَّ وعلا من التبذيرِ ونفَّرَ منه ، ووَصَفَه في كتابِه بأقبحِ الصفاتِ ، وَجَعلَ المبذرَ أخًا للشيطانِ ، لأن أضرارَه كثيرةٌ وخطيرةٌ .
ولقد جاءتْ نصوصُ كثيرةٌ تُحذِّرُ من الإسرافِ والتبذيرِ ، وتأمرُ بالتوسُّطِ في النَّفقةِ والاعتدالِ فيهَا ، ومِنْ ذلكَ : قَولُه تعَالى : { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } [الإسراء: 26، 27] ، قال ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه : " التبذيرُ هو الانفاقُ في غيرِ حقٍّ ، أمَّا الانفاقُ في الحقِّ فلا يُعدُّ تبذيرًا " . وقال الشافعي رحمه الله : ( التبذير إنفاقُ المال في غير حقِّه ) وقال مجاهدُ رحمه اللهُ : " لو أنْفقَ إنسانٌ مالَه كلَّه في الحقِّ لم يكنْ مبذراً ، ولو انْفقَ مُدًّاً في غيرِ الحقِّ كانَ مُبذِّراً " . وقَولُه تعَالى : { وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } [الأعراف:31] ، قال عطاء رحمه الله : ( نُهوا عن الإسراف في كل شيء ) . والإسرافُ : هو مجاوزةُ الحدِّ أيًّا كان ، وقال الراغب الأصفهاني : ( السَّرَفُ : تجاوزُ الحد في كلِّ فعلٍ يفعله الإنسان ، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر ) وقَولُه تعَالى : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا }[الفرقان:67] ، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : ( إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقالَ ، وإضاعَةَ المالِ ، وَكَثْرَةَ السُّؤالِ ) رواه البخاري ومسلم ، وقالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم :( كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالبَسُوا وَتَصَدَّقُوا ، فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ ) رواه النسائي وابن ماجه واللفظ له ، وأحمد ، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة . والإسرافُ والتبذيرُ مرضانِ من الأمراضِ الفتَّاكةِ التي تنخرُ في قوِّةِ المجتمعِ وصلابتِه ، فمنْ لا يجدُ شيئًا يتقوَّى به على أمورِ دينِه ودنياهُ ، وشَاهَدَ مَنْ يُسرفُ ويُبذِّر ويرمي نعمَ اللهِ تعالى هنا وهناكَ ، فإنَّه يضيقُ صدرُه ، ويصيبُه الحُزنُ ، ويمتلئ قلبُه كُرهًا وبغضًا ، وحقدًا وحسدًا .
كما أن الإسراف والتبذير من أعظم أسباب زوال النعمة وفقدها ، يقول الله تعالى : ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ النحل 112 . كما أن بقاء النّعم التي أنعم الله بها علينا ، ومنها نعمة الطعام إنما يكون بشيء واحد ، هو شكر صاحب الفضل والإنعام سبحانه وتعالى القائل : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ ) والقائل سبحانه : ( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ) ، والشكر يكون باللسان وبالقلب وبالجوارح . فالشُّكرَ يحفظُ النِّعمةَ ويُنمِّيها ، ويجلبُ رضَا مُسدِيهَا ومُولِيها ، والنِّعمةُ إذَا شُكرتْ قرَّت وإذا كُفِرتْ فرَّت . فاتقوا الله عباد الله واحترموا نعمة الله واشكروه عليها حتى تدوم لكم . اللهم أدِم علينا نعمك واحفظها من الزوال يا حي يا قيوم . اللهم أعنّا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك . اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفُجاءة نقمتك وجميع سخطك . قلتُ ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي دبَّرَ عباده في كُلِّ أمورهم أحسنَ تدبير، ويسَّر لهم أحوال المعيشة وأمرهم بالاقتصاد ونهاهم عن الإسراف والتبذير والتقتير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه البشيرُ النذير ، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا طُرق الاعتدال والتيسير . أما بعد :-
فإن التبذير والإسراف في الولائم وغيرها سلوك مشين ؛ ومن أعظم أسباب زوال النعمة وفقدها ، وما حُفِظَت النِعمُ بِمِثلِ رعايةِ حقِّ الله فيها ، ومن ذلك عدمُ الإسراف والتبذير فيها ، وما ترحلّت النِعمُ ولا استُجلِبت النقمُ بمثلِ الإسرافِ والتبذيرِ فيها . وللإسراف والتبذير أضرار دينية فهو مخالفة لأوامر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فقد ورد النهي عنهما كما سمعتم ، وأضرار اقتصادية فهو سبب لهدر المال والثروات دون فائدة ، وأضرار اجتماعية ؛ حيث يؤدي إلى وقوع البعض في الديون وشغل الذمم في غير طائل بدافع التقليد والمنافسة ، وفيه كسر لقلوب الفقراء والمساكين ويشعرون بالحسرة أمام مشاهد البذخ . وخاصة بعد انتشار الظاهرة السلبية التي لم تكن موجودة عند كرماء العرب الذين يعرفون أصول الضيافة وحقوق الضيف ، وهي ظاهرة تصوير الضيوف منذ استقبالهم حتى توديعهم ؛ وتصوير الولائم ؛ والضيوف وهم يأكلون ، ونشر تلك الصور في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة ، والتي أخرجت الولائم من مفهوم الكرم إلى الرياء والمباهاة ، فضلاً عمَّا يحصل بسبب التصوير من محاذير شرعية ومشاكل صحية كالإصابة بالعين ونحوها ؛ ومشاكل اجتماعية كالتقاطع والتهاجر . فالواجب على المسلم ، الحذر من تصوير الولائم ؛ أو تصوير الضيوف وهم يأكلون . كما أن على المسلم ألاّ يُسرف في هذه الحفلات والولائم ، وإن بقي شيء من الطعام فيتصرّف فيه التصرف السليم ، إما بتوزيعه على من يحتاجه ، وإما أن يطلب من الجمعية الخيرية أن تستلمه وتتولّى توزيعه ، مع الحرص على نظافة الطعام الباقي وعدم خلطه بمشروبات أوغيرها ، حتى يقبله المحتاج فيأكله ، وإن بقي شيء من الطعام الذي لا يصلح للأكل فيعطيه للحيوانات بالطريقة التي يراها صحيحة ، ولا يرمي به في النفايات . أو يوضع في محل نظيف بعيد عن الامتهان ، حتى يأخذه من يحتاج إليه ، أو تأكله الدواب والسباع ، إذا بقي شيء من الوليمة ، مع تحري الاقتصاد ، وتحري عدم إضاعة المال .
عباد الله : إنَّ الواجب على المسلمَ أن يكون معتدلٌ متوسّطٌ مقتصدٌ في أموره كلِّها ، لا إِفْرَاطَ ولا تَفْرِيطَ ، لا غُلُوَّ ولا مُجَافَاةَ ، لا إسرافَ وتبذير ولا تَقْتِيرَ ؛ لأنه ينطلق في ذلك من تعاليم الإسلام التي تأمرُه بالاعتدال والتوازن والاقتصاد في جميع الأمور ، وتنهاه عن الإسراف والتبذير ومجاوزةِ الحَد .
ثمَّ اعلموا رحمكم الله أن من أفضل الأعمال وأزكاها عند ربِّنا جلَّ وعلا : الإكثارَ من الصلاة والتَّسليم على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين : أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعن سائر الصحابة أجمعين ، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين . وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشِّرك والمشركين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم مَنْ أرادنا أو أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فاشغله في نفسه ، واجعل تدميره في تدبيره يا رب العالمين . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الأحياء منهم والأموات . اللهم وفِّق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لما تحبه وترضاه يا رب العالمين ، وهيئ له البطانة الصالحة ، اللهم وفق ولي عهده الأمير / محمد بن سلمان لما تحب وترضى وهيئ له البطانة الصالحة ، اللهم وفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لما تُحبُّ وترضى يا أكرم الأكرمين ، اللهم اجعلهم رحمةً على رعاياهم وشعوبهم ، اللهم اجمع بينهم وبين شعوبهم على الحقِّ والتَّقوى ، وعلى سنة المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام . اللهم احفظ ووفق جنودنا ورجال أمننا وسدد رميهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين . اللهم احفظ علينا نعمك ، ووفقنا لشكرك وطاعتك ، { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } ، { ربنا آتِنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنَا عذاب النار } . وأقم الصلاة .
( خطبة الجمعة 20/10/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل للتواصل جوال و واتساب / 0504750883 ) .
المرفقات
1744665675_التحذير من الإسراف والتبذير في الولائم والمباهاة بها.docx