التحذير من الإسراف والتبذير في الولائم والمباهاة بها

عبد الله بن علي الطريف
1446/10/18 - 2025/04/16 07:39AM

التحذير من الإسراف والتبذير في الولائم والمباهاة بها 1446/10/20هـ

الحَمْدُ للهِ الذِي أَنعَمَ عَلَينا نِعَمًا ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِراً.. أَمَا بَعْدُ: أيها الإخوة: اعلموا أنَّ التقوى خيرُ لباسٍ فقد قالَ سبحانه: (‌وَلِبَاسُ ‌التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) أي: خَيْرٌ من اللباسِ الحسي، فإن لباسَ التقوى يستَمرُ مع العبدِ، ولا يَبْلَى ولا يَبِيدُ، وهو جَمَالُ القَلبِ والروحِ.. يقول تعالى في محكم التنزيل: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31] قال الشيخُ السعديُ رحمه الله: (‌وَكُلُوا ‌وَاشْرَبُوا) أي: مما رزقَكم اللهُ من الطيباتِ (وَلا تُسْرِفُوا) في ذلك، والإسرافُ: إما أن يكون بالزيادةِ على القدرِ الكافي، والشرهِ في المأكولات الذي يضرُ بالجسمِ، وإما أنْ يكونَ بزيادةِ التَرَفُهِ والتَنَوقِ في المآكلِ والمشاربِ واللباسِ، وإما بتجاوزِ الحلالِ إلى الحرامِ.. (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) فإنَّ السَرفَ يُبغِضُهُ اللهُ، ويضُرُ بدنَ الإنسانِ ومَعِيشتَهُ، ففي هذهِ الآيةِ الكريمةِ الأمرُ بتناولِ الأكلِ والشربِ، والنهيُ عن تركهِما، وعن الإسرافِ فيهما". أهـ. والتبذيرُ في الولائمِ، والمبالغةُ في كثرةِ الطعامِ وتعَدُدِ أصْنَافِهِ من الإِسرَافِ وَاللهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، ولا يعني عدمُ الإسرافِ عدمُ إظهارِ النعمةِ؛ فاللهُ يحبُ أنْ يَرَى أثَرَ نعمتِهِ على عبدِهِ، وهُو من شُكرِها بالحالِ، فَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «‌إِنَّ ‌اللهَ ‌إِذَا ‌أَنْعَمَ ‌عَلَى ‌عَبْدٍ نِعْمَةً أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» رواه الطبراني في الكبير وصححه الألباني.. وإظهارُ النعمةِ مقيدٌ بعدمِ الإِسرَافِ وَالخُيلاءِ، فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «‌كُلُوا ‌وَاشْرَبُوا ‌وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي ِغَيْرَ سَرَفٍ وَلَا مَخْيَلَةٍ» رواه أحمد والنسائي والبيهقي والحاكم وحسنه الألباني.  والإسرافُ عمومًا وفي المطاعمِ والمشاربِ من أعظمِ أسبابِ زوالِ النعمةِ وفقدِها، وصَرْفٌ للنعمةِ في غيرِ وجهِها؛ وهو نوعٌ من الكفرِ الفِعلي للنعمةِ، وجَزَاءُ مَنْ كَفَرُوا النعمةِ؛ أنَّ اللهَ يُزِيلُها عنهم... يقول سبحانه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ). [النحل:112]

أيها الإخوة: حقٌ علينا أن نعلَمَ أنَّ الإسرافَ والتبذيرَ في الولائمِ له أضرارٌ كبيرةٌ، دينيةٌ، واقتصاديةٌ، واجتماعيةٌ، فهو معصيةٌ للهِ ولرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسبقَ بيانُ ذلك، أما أضرارُه الاقتصاديةُ، من هدرٍ للمالِ والثروةِ الحيوانيّة، والمياهِ والأيدي العاملةِ وغيرِها في غيرِ منفَعَةٍ فهي كبيرةٌ.. وسأدعُ الأرقامَ تتحدثُ: فمقدارُ الهدِرِ في الطعامِ على المستوى العالميِ والمحليِ شَيءٌ مهولٌ، ففي تقريرٍ نشرتُه صحيفةُ الشرقِ الأوسطِ في 21 ربيع الثاني 1444هـ ذكرت أنَّ ما يَقْرُبُ من ثُلُثِ الأَغذيةِ المنتجةِ في العالمِ (نحو 1.3 مليار طن) تُهدَرُ، وتبلغُ قيمةُ الخسائرِ بسببهِ نحو 990 مليارَ دولارٍ.. وفي تقريرٍ للأمم المتحدة عام 2024م على مستوى العالم، يعاني حوالي 735 مليون شخص من الجوع على، وَتُهْدِرُ الأسرُ ما يزيدُ عن مليارِ وجبةٍ من الأغذيةِ الصالحةِ للأكلِ يوميًا، أي ما يعادل 1.3 وجبة يوميا لكل شخص يعاني من الجوع في العالم.

أَمَا الفاقد والهدرُ الغذائيُ في بلادِنا فيمثلُ 33.1% من كميةِ الغذاءِ، بمبلغٍ يصلُ إلى 39,75 مليارَ ريالٍ سنوياً.. وفي تقريرٍ لوزارة الزراعة والبيئة والمياه ذكرت أن و14,2% من الطعام يفقد و18.9% يُهدَر، أي بما يزيدُ على 4 مليون طن سنويًا، ومعدلُ ما يُهْدِرُ الفردُ نحو 184 كيلوغراماً من الغذاء سنوياً.. وأظهرت البيانات السنوية التي نشرتها الهيئةُ العامةُ للأمنِ الغذائي في بلادنا بأن أعلى الأغذيةِ إهدارًا الخبز بمعدل 917 ألف طن، والرز 557 ألف طن، ويُهْدَرُ من الحومِ بجميعِ أنواعِها 589 ألف طن.. ومن التمر 137 ألف طن. وهناك أرقامٌ كبيرة لأصنافٍ أُخرى من الأطعمةِ لم نذكُرَها، وهي أرقامٌ مُخِيفَةٌ تنذرُ بالخطرِ.. ثم إن الإسرافَ في المأكلِ والمشربِ عمومًا مذمومٌ، وفي الولائمِ بوَجْهِ الخصوصِ من القادرين وأصحابِ الثرواتِ.. فكيفَ به من ذوي الدخلِ المحدود، أو الفقراء الذين ربما استدانوا وشغلوا ذِمَمَهم بديونٍ من أجل إكرامِ فلانٍ أو علان زعموا.! وفي الإسرافِ في الطعامِ والمشرب كسرٌ لقلوب الفقراء والمساكين..

ومن الأخطاء الشائعة التي يفعلُها بعضُ الناسِ في مناسباتِهم حتى أصبحت ظاهرةً اجتماعيةً في المناسبات، أو حتى الجلسات العائلية الخاصة تصويرُ الولائمِ وموائدُ الطعامِ، ونشرِها في وسائلِ التواصل الاجتماعي فخرجت الولائم من مفهوم الكرم إلى الرياء والمباهاة؛ وعَرَّضَتْ أصحابَها لنقدِ العُقَلَاءِ من الأصدقاء، وسَببت شماتةَ الأعداءِ، وأثارت غيرةَ الفقراء، وحركت نفوسَ الحاسدين بالضَرِّ والبغضاء.. ولو فكرَ من يقومُ بهذا العمل بعقلٍ وبَصِيرةٍ لعلمَ أنَّ هذا الفعلَ مما ترفِضُه الفِطَرُ السليمةُ، وينافي الكرمَ، ويُخْرِجُ الوليمةِ من هدفِها وهو التكريم إلى المبَاهَاةِ والـمِنَّةِ على من أُرِيْدَ إِكرَامُه.. وتُورثُ الفخرَ والخيلاءَ.. فالحذر الحذر إخواني الكرام من هذَا الْتَحَولِ.. بينوا لمن تحت أيديكم من الأهلِ سُوءَ هذا التصرفِ، وانشروا استنكاره في مجالسِكم، ولا تنشروا صوره؛ فليس هذا للمسلمين بخلقٍ ولا للعرب بشيمة.. أسأل الله تعالى أن يرزقنا شُكرَ نعمِهِ في القولِ والعمل، وأن يجعلنا هداةً مهتدين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه، أعطى فأجزل ومنحَ فتفَضَّل.. وأشهد أن محمدًا عبدُ الله، ورسولُه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِرًا.. أما بعد أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى.. واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، يقول سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله في ذم المباهاةِ في المآكل والمشارب: "وقد ابتلي الناسُ اليومَ بالمباهاةِ في المآكلِ والمشارب، خاصةً في الولائم وحفلات الأعراس، فلا يكتفون بقدر الحاجة، وكثيرٌ منهم إذا انتهى الناسُ من الأكلِ ألقوا باقيَ الطعامِ في الزُبالةِ والطرقِ الممتهنة، وهذا من كفر النعمة وسببٌ في تحولِها وزوالها، فالعاقل من يَزِنُ الأمورِ بميزانِ الحاجة، وإذا فَضَلَ شيءٌ عن الحاجةِ بحَثَ عمن هو في حاجته، وإذا تعذَّرَ ذلك وَضَعَهُ في مكانٍ بعيدٍ عن الامتهانِ؛ لتأكلَه الدوابُ ومن شاء الله، ويسلمَ من الامتهان، والواجب على كل مسلم أن يحرص على تجنب ما نهى الله عنه، وأن يكون حكيمًا في تصرفاته؛ مبتغيًا في ذلك وجه الله، شاكرًا لنعمه، حَذِرًا من التهاون بها وصرفِها في غير مصارِفِها، قال تعالى: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7] وقال عز وجل: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152].. وأخبر سبحانه أن الشكرَ يكون بالعملِ لا بمجردِ القولِ، فقال سبحانه: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13].. فالشكرُ لله سبحانه يكون بالقلبِ واللسانِ والعملِ، فمن شكرَ الله قولًا وعملًا زادَهُ من فضلِهِ وأحسنَ له العاقبة، ومن كفرَ بنعم الله ولم يصرفها في مصارفها فهو على خطر عظيم، وقد توعده الله بالعذاب الشديد.." أ هـ وبفضلِ اللهِ انتشر في مملكتِنا الحبيبةِ جمعياتٌ تُعنىَ باستلامِ فائضِ الطعامِ كجمعية نعم وجمعية مشكور، وجمعية اعتدال كلها في عنيزة، وتتولى إعادةَ توزيعهِ على المحتاجين، والذي لا يصلحُ للآدميين يُجمعُ للبهائمِ، وهذا حفظٌ لفائضِ الطعامِ..

وبعد أيها الإخوة: لقد مَرَّ على أجدادنا سِنِيَّ جُوعٍ وفاقة، حري بنا أنْ نذكرها ونُذكرَ بها من تحت أيدينا من الأهل والذرية، قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله: هذه البلاد يحدثُنا أهلُها الذين هم أكبرُ منَّا أنَّه أتاها مجاعاتٌ عظيمةٌ، وكانوا يموتون من الجوع في الأسواق.. فالذي أصابنا بِأَمْسٍ يمكن أن يأتينا اليوم إذا بَطَرْنَا هذه النعمة...وحدثني شخصٌ أكبرُ منَّي قليلاً -والحديث للشيخ- أنه كان إذا أتى أبوه بالنوى [يعني عَبَسَ التمرِ] اجتمع عليه هو وإخوانُه، لعلهم يجدون نَوَاةً فيها سِلْبٌ يأخذُونَها يمصُونَها.. وصلوا وسلموا...

 

المشاهدات 541 | التعليقات 0