التحذيرُ من الإسراف وتصوير الولائم 20/10/1446
أحمد بن ناصر الطيار
الحمد لله الذي لا تدركه الأبصار، ولا تبلغه الأفكار، ولا تحجبه الأستار, ولا تخفى عليه الأسرار، والصلاةُ والسلامُ على صفيه وخليلِه المختار، وعلى جميع أهلِ بيتِه وأصحابِه الأخيارِ الأبرار, أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين, واعلموا أنّ مِن عادة الكفار المشركين, أنَّهُم إذا ركبوا البحر وماجت بهم الأمواج, وأوشكوا على الهلاك: أنْ يزْدادُوا قُرْبًا مِنَ الله تعالى, ولُجُوءًا إليه, ويتركوا أصنامهم وآلهتهم, لِعْلِمْهِم أنه لا يُنجيهم من محنتهم إلا الواحد الأحد.
ونحن أولى منهم بأنْ نَلْجَأَ إِلَى اللهِ في هذه الأوقاتِ العصيبة, والفتن الْمُتلاطمة.
لقد تخطّفتِ الفتنُ مَنْ حولَنا, وأخذ الله من هو أشدّ قوّةً ومكانة, وعزّةً ومَنَعة, فغدا العزيز ذليلًا, والشريف وضيعًا, والأمير كسيرًا, والغنيّ فقيرًا.
ونحن آمنون مُطمئنون, ولو خرجنا قليلاً إلى مَن حولَنا لرأينا ما تشيب له الولدان, وتدمع له العينان, وحالنا كما قال تعالى عن أهل مكة: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}.
والواجب علينا في كلّ وقت وحين, وخاصة في هذه الفتن العصيبة, أنْ نشكرَ نِعَم الله علينا, وألا نكفرها, ومن صور كفران النعم: الإسرافُ والتبذير في الولائم، وذلك بالمبالغة في كثرة الطعام وتعدد أصنافه، قال الله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}.
وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ, وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}.
والإسراف والتبذير من أعظم أسباب زوال النعمة وفقْدِها، كما قال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
وقال سبحانه: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}.
والإسراف والتبذير في الولائم له أضرار كبيرة دينية واقتصادية واجتماعية، فهو معصية لله ولرسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وهدرٌ للمال وللثروة الحيوانيّة في غير منفعة، وسببٌ لشغل الذّمم بالدّيون في غير طائل، وكسرٌ لقلوب الفقراء والمساكين.
ومن المؤسف له: تصويرُ الولائم ونشرُها في وسائل التواصل الاجتماعي, والتي أخرجت الولائم من مفهوم الكرم إلى الرياء والمباهاة.
والتباهي بالإسراف والتبذير كبيرةٌ من كبائر الذنوب, لما فيه من الآفات الكثيرة, منها:
أولا: كسرُ قلوب الفقراء والمحتاجين, فإنهم إذا رأوا مثل ذلك حقدوا على الأغنياء, وامْتَلأَتْ قلوبُهم غيظًا وكمدًا.
ثانيًا: إشاعةُ هذه المعصيةِ بين الناس, وسنُّها وتشجيعُهم على القيام بمثلها وأعظمَ منها.
"ومَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".
ثالثًا: تعريضُ نفسِه للحسد والعين, قال ابن الجوزي رحمه الله: ومِن البليةِ أنْ يُبَذِّرَ في النفقة، وَيُبَاهِي بها لِيَكْمِدَ الأعداء، كأنه يتعرض بذلك -إنْ أكثر- لإصابته بالعين. ا.ه
ورُبّما أغرى الفقراء بسرقتِه والاعتداء عليه.
إخوةَ الإيمان: إنّ انتشار ظاهرة الإسراف مُؤذنٌ بعقوبةٍ من الله تعالى, فمن سنته أنه يَعُمُّ بالعقاب إذا كثرتِ الْمعاصي, كما قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَن سأله: أَفَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخُبْثُ». متفق عليه
ألا فلْنحمد اللهَ تعالى على هذه النعم العظيمة, التي والله لا ينعم بمثلِها إلا نُدْرةٌ من الناس.
نسألُ اللهَ تعالى دوامَ نعمِه, ونعوذُ به من مُسَبِّباتِ سخطِه, إنّ ربّنا برٌّ رؤوفٌ رحيم.
الحمد لله ذي الإفضال والإنعام، وصلى الله تعالى وسلم على نبيِّنا محمد, وعلى آله وصحبه والأئمة الأعلام, أما بعد: أمة الإسلام: لقد كان أجدادُنا قبل ثمانين سنةً أو أقلّ, في فقرٍ وجوع وذلّ, يجوبون الدّيار بحثًا عن لقْمة العيش, ويقطعون الفيافي طلبًا للرّزق, ويغْتَرِبون الشّهور والأعوام؛ لأجل جمْع بعضِ المال والمتاع, كي يُعيلوا أهلهم وأولادهم.
وبعضُ هذه الدولِ الغنيّة, التي ذهب إليها أجدادُنا بحثًا عن لقمة العيش, افْتَقرت وزال عنها الأمْن ورغدُ العيش, فمن الذي أغنانا وأفقرهم, ومن الذي جمعنا وفرّقهم, ومن الذي آوانا وشرّدهم, ومن الذي آمننا وخوّفهم.
إنَّه الله القهار ذو العظمة والجلال, الذي يُغير مِنْ حالٍ إلى حال.
وهل نحن بِمَأمنٍ من مكر الله تعالى؟ {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ}.
لقد أمدّهم بالنعم فما قاموا بشكرها كما يجب, ولم يُحافظوا عليها بشكرها والحفاظِ عليها.
نسأل الله تعالى الذي أرانا نعمه ورحمتَه, ألا يُرينا سخَطَه وعذابَه, إنه سميعٌ قريبٌ مُجيب.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.
عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.