التحذير من الظلم في تقسيم الميراث

التحذير من الظلم في تقسيم الميراث

الخطبة الأولى

الحمد لله الذي قسّم الميراث بنفسه وهو أعدل من قسم ، سبحانه من إله عظيم . علّم الإنسان مالم يعلم . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، في عبادته وهو أعلم وأحكم ، وأشهد أن سيّدنا محمداً عبده ورسوله ، أصدق البريّة لساناً ، وأعلاها مقاماً ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم . أمّا بعد :-

 فاتّقوا الله عباد الله ، فقد أمركم بذلك المولى جلّ في علاه ، فقال سبحانه : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ، ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) .

عباد الله : من عدل وعظمة الإسلام ؛ اهتمامه بأحكام الميراث بعد موت المُوَرِّثْ فقد جاءت أحكامه دقيقة وعادلة ، تولى الله تقسيم التركات وتفصيلها ، ولم يترك ذلك لأحد من البشر ، لعظم شأنها ، بدقة وبيان بليغ ، وحساب دقيق ، فأعطى لكل صاحب حق حقَّه ، مما يستحيل على البشر أن يهتدوا إليه لولا أن هداهم الله . فلا مجال في ذلك للمجاملة ولا للواسطة ولا للرأي ولا للهوى ، منعاً للنفوس الضعيفة المفتونة بالمال أن تتلاعب بمال الورثة ، وبيَّن ربنا عز وجل أنَّ الميراث أمرٌ من أوامره ، وحُكمٌ ووصية من عنده عز وجل في غير آية في كتابه سبحانه ، فبين سبحانه أنه فريضة شرعية فقال : ﴿ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 11] . وبين أنه وصية إلهية فقال : ﴿ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ﴾ [النساء: 12] . وبين أنَّ الضلال والزيغ لمن تعدى أمر ربه فقال : ﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [النساء: 176] .

عباد الله : إن الواجب على الوصي أو المسؤول عن توزيع تركة الميت ، المبادرة إلى توزيعها بعد إحصائها ، وتسديد الديون التي عليه ، والنظر إلى الأموال التي له في ذمم الناس ، فيجمعها ويحصيها فإذا تم جمع وإحصاء كل ماله ، يتم إخبار الورثة ، ويبادر بتنفيذ وصيته إن كانت هناك وصية ، ثم يقوم بتوزيع الميراث على المستحقين له ، و أن يتقي الله في ذلك ، ويقوم بإعطاء كل وارثٍ حقّه سواء أكان ذكراً أو أنثى ، لاسيما إذا طالب المستحقون للميراث بحقهم فلا يجوز تأخيره مهما كانت الأحوال والأعذار والمبررات إذا كان الورثة بالغين راشدين . ولا يؤخر ذلك لأنه يؤدّي إلى وقوع المشاكل والخلافات والشحناء . ولأن المبادرة بقسمة الميراث تسهل قسمة المال وتدعو لتراحم الإخوان ، وفي التأخير قد يموت أحد الورثة وتطول مطالبات أولاده .

عباد الله : كل ما تركه الميت من عقار وغيره لورثته الشرعيين بعد تسديد دينه إن وجد وتنفيذ وصيته الشرعية ، فلهم حق التصرف فيما آل إليهم من مُوَرِّثِهم بالبيع أو الإجارة أو غير ذلك من وجوه التصرفات المسموح بها شرعاً .

ولا بد من المبادرة بتقويمها وبيعها وتقسيمها بينهم حسب الميراث الشرعي بواسطة أهل الخبرة بالتقويم ، وإن تراضوا بينهم في القسمة وهم راشدون فلا بأس ، وإن تنازعوا فمرد النزاع إلى الصلح بينهم ، أو عن طريق المحكمة الشرعية‏ ، وما يتعذر به الوصي أو المسؤول عن توزيع تركة الميت ؛ من وجود عقار يرغبون في ارتفاع سعره ؛ فهذا غير مناسب لاسيما مع حاجة الورثة .

عباد الله : بعض الورثة يعترض على توزيع التركة مع انتفاعه ببعضها ، وهذا أمر محرم شرعاً ، لأن هذا من التعدي على حقوق بقية الورثة ، وحينئذ يكون انتفاع الوارث ببعض التركة كالعقارات والأراضي والمزارع وغيرها من باب الغصب ، وهو من الظلم المحرم . وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير من غصب الأراضي وأخذها من أصحابها بغير حق . وإذا أخذ هذا الوارث ــ الذي يمنع قسمة التركة ــ مالاً من الميراث دون موافقة بقية الورثة ، فما يأخذه كسب محرم ، وإذا أصرَّ بعض الورثة على المنع من توزيع التركة ؛ فإن للورثة الآخرين رفع الأمر إلى القضاء لإجبار الممتنع عن القسمة .

عباد الله : الأَولى أن الميراث وما خلَّفه الميت من المال ؛ أن يجمع الأسرة ولا يفرقها ؛ ويقويها ولا يضعفها ؛ والواجب على العقلاء أن لا يغلبهم حب المال فيقدموه على حبهم لأهلهم وإخوانهم وأخواتهم . ولكن وللأسف الشديد كم من أخ يشتكي أخاه في المحاكم اليوم بسبب الميراث ؟ وكم من إخوة بعد الوصال والحبّ تهاجروا وتباغضوا بسبب الميراث ؟ فهل يا تُرى لو علم والدهم ومورّثهم بهذا أكان يرضيه ذلك ؟ نسأل الله العافية والسلامة .. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على فضله وإحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين ، أما بعد :-

فإن هناك عدة أمور وأخطاء تتعلق بالميراث تسبب المشاكل وتثير الكثير من العداوة والبغضاء بين الورثة ، ومن ذلك :-

1 - تساهل كثير من الناس بالوصية وعدم كتابتها وإيضاح ما لديه من أموال ؛ وما هي الأموال المشتركة مع آخرين ، فبعد موت الإنسان ؛ قد يدَّعي أحد الأولاد أنه شريك لوالده أوأمه ؛ وحينذاك لابد مما يثبت ذلك وإلا فتح على الورثة بابا عريضا من الخلافات والاتهامات .

2 - تخصيص الوالد أحد أبنائه لمعرفة أملاكه والبقية لا يعلمون ، وقد ينزغ الشيطان الابن لإخفاء بعض الأموال .

3 - تأخير قسمة التركة ؛ فتمضي الأشهر والسنوات والتركة لم تقسم ؛ وقد يوجد قُصَّر يعيشون فقراء والتركة تغنيهم عن الزكوات والصدقات .

4 - عدم عدل الوصي على التركة في قسمتها بين الورثة ؛ خاصة إذا كان للوصي إخوة غير أشقاء ؛ فيعطيهم مثلا العقارات الأقل أهمية . ويتصرف ويقسم بناء على وجهة نظره الشخصية التي قد يخالفه فيها كثير من الورثة ، والواجب هو تحري العدل وما أشكل فيرجع فيه على القاضي .

5 – عدم إعلان مقدار التركة للورثة ، فيعطى كلا نصيبه دون أن يعلم الورثة كم وَرَّثّ ميتهم . وهنا تحدث الشكوك والظنون السيئة وتبدأ القطيعة بين الأقارب .

6 - إخفاء الصكوك والمستندات فترة طويلة من بعض الورثة لكسب مزيد من الوقت لاستغلال بعض العقارات وخاصة المؤجرة . وكذلك عدم نقل ملكية العقارات لملاكها بعد القسمة ، فالقسمة لا تعني الانتهاء من التركة بل لابد من إفراغ ما يحتاج لإفراغ واستلام ما يحتاج لاستلام لأن في ذلك غلقا لباب النزاع .

عباد الله : من الظلم والجور إسقاط حق أحد الورثة أو بعضه ، أو إلجاء بعض

الورثة إلى التنازل عن حقه أو بعض حقة ، والتحايل عليهم ، وخاصة الضعفاء منهم ؛ كالمرأة والطفل والشيخ الكبير ، وهذا من الأمور المحرمة شرعاً ، يقول الله جلَّ وعلا : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } [النساء:10] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ الضَعِيفَين : اليَتِيم والمَرْأَة » [رواه النسائي وابن ماجه وأحمد وحسنه الألباني] . « اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّجُ حَقَّ » ، أي : أُضَيِّقُ على النَّاسِ في تَضييعِ حَقِّهم ، وأشَدِّدُ عليهم في ذلك ، وأحَذِّرُهم من الوُقوعِ في ظُلمِهم .. كما ينبغي على الناس التعاون فيما بينهم على منع المعتدي على أموال الضعفاء من الورثة ، وذلك بنصحه وتذكيره بحرمة هذا الفعل وخطورته ، فإن لم ينتهي عن فعله وظلمه ؛ فيتم إبلاغ الجهات المعنية بشأنه .. هذا وصلوا وسلموا عباد الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ ، وقال صلى الله عليه وسلم : " من صلى عليّ واحدة صلى الله عليه بها عشرا " ، اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك نبيَّنا محمد ، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين الأئمةِ المهديين ، وعَن الصحابةِ أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين . اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، وأذلَّ الشِّرك والمشركين ، ودمر أعداء الدين ، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وفق إمامنا وولي عهده لهداك ، واجعل عملهم في رضاك ، وأعنهم على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام ، اللهم احفظ جنودنا المرابطين على حدودنا ، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ( ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ) ، ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) ، عباد الله اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ( ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ) .

 

( خطبة الجمعة 3/7/1446هـ . جمع وتنسيق خطيب جامع العمار بمحافظة الرين / عبد الرحمن عبد الله الهويمل                          للتواصل جوال و واتساب /  0504750883  ) .

المرفقات

1735666637_التحذير من الظلم في تقسيم الميراث.docx

المشاهدات 2741 | التعليقات 0