التشويق للحج، والتحذير من التفريط فيه.
عادل بن عبد العزيز الجهني
الحمدُ لله الذي أكمل لنا الدِّين، وأوضح لنا السبيل، بنى دينه على أركان عظام، وأتم الخير للأنام.
وأشهد أن لا إله إلا الله، الحكيمُ في شرعه، العليمُ بأحوال خلقه.
وأصلي وأسلم على خير من حج إلى بيته الحرام، فطاف وسعى، ووقف بعرفة والمشعر الحرام.
صلى اللهُ عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان ليوم المعاد أما بعد
فأوصيكم ونفسي عباد الله بتقوى الله التي هي وصيته للأولين والآخرين، وهي أول وصاياه لعباده في أول آية في سورة الحج تنويهاً بعظمة الحج وتذكيراً للملازمة بين الحج والتقو ، فهو من صفات المتقين ، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}
أيها المسلمون
لقد فرض الله على عباده فرائض ونوّعها بمقتضى حكمته، فمنها ما هو البدني كالصلاة والصوم, ومنها ما هو مالي كالزكاة والصدقات، ومنها ما جمع بين المال والبدن لتجتمع للعباد فيه البركات، وتزداد به الأجور والحسنات، ويظفروا منه بالخيرات، ومن أعظم هذه العبادة عبادة الحج التي ينفق فيها العبدُ المالَ قربة لله، ويسافر ببدنه من بلده إلى مكة يتقرب إلى ربه مولاه، متنقّلاً بين هذه المشاعر، قد ترك وطنَه وولده أياماً معدودات ليفوز بالرحمات ويؤدي الفرض الذي أوجبه الله عليه .
والحجُّ –ياعباد الله– عبادة جليلة قد جاءت في فضلها النصوص الكثيرة، فمن أعظم فضائله أنّه سبب لمغفرة الذنوب والخطايا، حتى قال بعض أهل العلم أنه يغفر جميع الذنوب والخطايا الصغائر والكبائر بلا استثناء، وهو ظاهر حديث أبي هريرة حيث قالَ : سَمِعْتُ رسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقولُ: "منْ حجَّ فَلَم يرْفُثْ ،وَلَم يفْسُقْ، رجَع كَيَومِ ولَدتْهُ أُمُّهُ "متفقٌ عَلَيْهِ.
فانظروا كيف الحج سببًا لمحو جميع الذنوب والخطايا، وجاء في صحيح مسلم أن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنه لمّا أسلم وبسط النّبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم ليُبايعه قالَ: فقبضتُ يدي ، قالَ: ما لكَ يا عَمْرُو؟ قالَ: قلت: أردتُ أنْ اشترط، قالَ: تشترطُ بماذا؟ قلت: أنْ يُغْفَرَ لِي، قالَ: أما عَلِمْتَ أنَّ الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟ وأنَّ الهِجْرَةَ تَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَها؟ وأنَّ الحَجَّ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ؟)
فلا إله إلا الله كم يفوت هذا الثواب على من فرّط في عبادة الحج.
ومن فضائله أنّ الحاجَّ في ثوابٍ من حين خروجه من بيته وتنقلاته في شعائر حجه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مُلَبٍّ يلبِّي إلَّا لبَّى ما عن يمينِهِ وشمالِهِ من حَجَرٍ أو شجَرٍ أو مدرٍ حتَّى تنقطعَ الأرضُ من هاهنا وَهاهنا" رواه الترمذي وبن ماجة.
والحج من أفضل الأعمال والقربات عند الله ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه
أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سُئِلَ: أيُّ العَمَلِ أفْضَلُ؟ فَقالَ: إيمَانٌ باللَّهِ ورَسولِهِ. قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّهِ قيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ " رواه البخاري.
ومن فضائله أنّه يعدل الجهاد في سبيل الله، وينوب عنه لمن لا يقدر عليه ومن لا يُكلّف به ، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهادَ أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال : "لا ، ولَكُنَّ أفضل الجهاد حج مبرور" رواه البخاري
وفي رواية : قلت : يا رسول الله، ألا نغزو ونجاهد معكم؟ فقال : " لا ، ولَكُنَّ أحسن الجهاد وأجمله الحج ، حجٌ مبرور" فقالت عائشة : فلا أدعُ الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري.
ومن أعظم فضائل الحج المبرور -وهو الذي قد كمُل وتم ، وأداه صاحبه على السنة- أنّ الله لا يرضى لصاحبه ثواباً إلا الجنة، فأي مطلبٍ أعظم من الجنّة عند المؤمنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِما بيْنَهُمَا، والحَجُّ المَبْرُورُ ليسَ له جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةُ". متفق عليه
والإكثار من الحج والعمرة ينفيان الفقر عن العبد ويطهرانه من الذنوب ، يقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "تابِعوا بيْن الحَجِّ والعُمْرةِ؛ فإنَّ مُتابَعةً بيْنهما تَنْفي الفَقرَ والذُّنوبَ، كما يَنْفي الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ". رواه الترمذي وابن ماجه .
والحاجُّ وافدٌ على الله، ومن وفد على الله أكرمه الله ، فعن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغازي في سبيل الله ، والحاج والمعتمر ، وفد الله ، دعاهم فأجابوه ، وسألوه فأعطاهم " رواه ابن ماجه وفي رواية :
" الحجاج والعمار وفد الله، إن دعوه أجابهم، وإن استغفروه غفر لهم " رواه ابن ماجه .
ولعظم فريضة الحج جعله الله دائماً مستمراً حتى بعد ظهور الفتن العظام، ففي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: "ليُحَجْنّ هذا البيت، وليُعتمرَنّ بعد خروج يأجوج ومأجوج" ذكره الألباني في صحيح الجامع .
وإذا قبض اللهُ أرواحَ المؤمنين في آخر الزمان ولم يبق على الأرض إلا شرار الخلق الذين تدركهم الساعة وهم أحياء توقف الحج لفساد ذلك الزمان ، وخلو الأرض من الخير وأهله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تقوم الساعة حتى لا يُحجّ البيت " وهو في صحيح الجامع أيضاً ، وماهذا الإستمرار إلا لكرامة الحج وعظيم منزلته عند الله تعالى .
الحج يا عباد الله
عبادةٌ شريفةٌ عظيمةٌ فيها يتذكر العبد أنبياءَ الله ورسله عليهم الصلاة والسلام ، ومقاماتهم العليّة، يتذكّر أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت، ويؤدّيان المشاعر في تلك البطاح العظيمة، ولذا أبقى اللهُ لنا مقامَ إبراهيم ليكون شاهدًا للعالمين على فضل العبادة، وأثر طاعة الرحمن .
ويتذكر الأنبياءَ الكرام الذين حجّوا إلى بيت الله الحرام كموسى وعيسى وغيرهم ويتذكر محمداً صلى الله عليه وسلم ومعه الصحب الكرام رضوان الله عليهم وهم يطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، ويقفون على صعيد عرفات، ويبيتون في المزدلفة، ويرمون الجمار، وينحرون الهدي، ويحلقون رؤوسهم في عبادات جليلة متنوعة، فالحاجُّ يقتفي أثرهم، ويسلك سبلهم لينتظم مع هذه القافلة الشريفة من العباد .
في الحجِّ اجتماعُ المسلمين من بقاع الأرض في مكان واحد تلتقي أرواحهم ، وتتقارب أجسادهم معلنة أنهم أمة واحدة، ربهم واحد، ودينهم واحد، ونبيهم واحد، وقبلتهم واحدة، وشعائرهم واحدة قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ}
في الحجِّ يتجرد الحُجّاجُّ من رسوم أهل الدنيا، فيلبسون الإحرام، ويفارقون الأهل والأوطان، يتذكر المرءُ ساعة انتقاله من الدنيا، وقدومه على ربه ليوقن إنّ الزاد الحقيقي هو زاد التقوى, قال اللهُ تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}
فعظموا عباد الله هذه العبادة، وعظّموا هذه الشعيرة، فإنّ تعظيمها من تعظيم شعائر الله، {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم…..
الخطبة الثانية
أيها المسلمون /
ومع أنّ الله رحمة الله ظاهرة في عبادة الحج، فقد فرضه مرة واحدة في العمر إلا أنّ التساهل في أداء هذا الركن ظاهر عند جمع ليس بالقليل من المسلمين، فتجدُ أحدهم بلغ الثلاثين والأربعين بل ربما الخمسين من عمره ولم يؤدِّ بعدُ فريضة الحج، ويحتجُّ بقلة ذات اليد، وعدم القدرة والاستطاعة ولو كان الحال كما ذكر فقد أعذره الله، ولكنّ المتأمل في حال الكثير يجده بالمقابل يصرف على أمور الدنيا ما يمكن الاستغناء عنه من الكماليات.
بل بعضهم يُرتّبُ أمور إجازته كل عام للسفر والسياحة هنا وهناك غير مكترث أو مهتم لأمر الحج الذي قد وجب عليه مع أنّ المال بيده، ولكنّه قدّم أمر دنياه على أمر الله ومثل هذا على خطر عظيم .
فالحجُّ -ياعباد الله- فرضٌ واجبٌ كفرض الصلاة والصيام والزكاة، فهو أحد مبان الإسلام الخمس العظيمة، فعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ " رواه البخاري.
فلا يجوز للمسلم القادر الذي توفرت فيه شروط تأخيره، فضلًا عن أن يُفرّط في أدائه، ويتساهل فيه، وكأنّ الله لم يوجب الحج عليه، وكأنّه نافلة من النوافل إن شاء فعله أو شاء تركه، أو أنّه يجوز له تأخيره، وفعله متى ما شاء الله، وهذا من الجهل الكبير بشرع الله الذي لا يُعذر به أحد، فإنّ في كتاب الله التشديد على التساهل في فريضة الحج، فتأمّل صيغة فرضيته وماذا رتب الله سبحانه وتعالى على من يرفع رأساً بأمر الله في هذا الفرض، يقول سبحان : {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال الإمام الشوكاني - رحمه الله - في تفسيره :(عبّر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه)، وقال الأمين الشنقيطي (أيْ: ومَن لَمْ يَحُجَّ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ البالِغِ في الزَّجْرِ عَنْ تَرْكِ الحَجِّ مَعَ الِاسْتِطاعَةِ) وقيل غير ذلك، والمقصود التحذير من التساهل في عبادة الحج للمستطيع.
وممّا يدلّ على خطورة التفريط بعبادة الحاج ما جاء عن الخليفة الراشد عمر الفاروق رضي الله عنه: "من أطاق الحج فلم يحج فما عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً "وقال رضي الله عنه: "لقد هممت أن أبعث إلى الولاة في الأمصار أن ينظروا من كان له جِدة فلم يحج، فليضربوا عليهم الجزية فما هم بمسلمين ما هم بمسلمين"
فليتق اللهَ عبدٌ قد جعل في يده المال، وأمدّه بالصحة والتمكين من هذه العباده ثم هو يفرط في أداء هذا الفرض العظيم.
هذا وصلوا على خير حج واعتمر ، وعظّم أمر ربه وامتثل ، فقد أمرك الله بذلك في كتابه.....