التوكل وثمراته

أحمد بن علي الغامدي
1446/10/26 - 2025/04/24 07:42AM

الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَفَّقَ مَنْ شَاءَ بِفَضْلِهِ، وَمَنَعَ مَنْ شَاءَ بِعَدْلِهِ، لَا يُسْأَلُ عَنْ تَدْبِيرِهِ وَأَمْرِهِ، الْكَبِيرُ فِي عَلْيَائِهِ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا خَيْرُ أَنْبِيَائِهِ وَأَفْضَلُ رُسُلِهِ؛ فَصَلَوَاتُ رُبِّيَ عَلَيْهِ، وَعَلَى صَحَابَتِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]

   أَمَّا بَعْدُ: فحديثُنا في هذه الخُطبةِ عن عملٍ عظيمٍ من أعمالِ القلوبِ، هو من أعلى مقاماتِ التوحيدِ، ومن أفضلِ العباداتِ ،ولا يقومُ به على وجهِ الكمالِ إلّا خواصُّ المؤمنين، ذلكم هو التوكُّلُ على اللهِ تعالى. قال ابنُ القيِّمِ رحمه الله: "التوكلُ أصلٌ لجميعِ مقاماتِ الإيمانِ والإحسانِ، ولجميعِ أعمالِ الإسلامِ".

عبادَ اللهِ:حقيقةُ التوكلِ: هي صدقُ اعتمادِ القلبِ على اللهِ تعالى، في جلبِ المطلوبِ، وزوالِ المكروهِ، مع فعلِ الأسبابِ المأذونِ فيها. فلا بُدَّ في تحقيقِ التوكلِ من هذين الأمرين:

الأمرِ الأول: أن يكونَ الاعتمادُ على اللهِ اعتمادًا صادقًا حقيقيًّا في استجلابِ المصالحِ، ودفعِ المضارِّ من أمورِ الدنيا والآخرةِ. ولمّا سُئل الإمامُ أحمدُ عن تعريفِ التوكلِ، قال: هو قطعُ استشرافٍ والتفاتِ القلبِ إلى المخلوقينَ، والإياسُ من أن يجيئك منهم أيُّ شيءٍ.

قيل له: فما الحُجّةُ فيه؟ قال: قولُ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ لمّا أُلقيَ في النارِ، فعرَض له جبريلُ عليه السَّلامُ، فقال: ألكَ حاجةٌ؟ قال: أمّا إليكَ فلا.

الأمرِ الثاني في تحقيقِ التوكلِ: هو فعلُ الأسبابِ المأذونِ فيها، مع اعتقادِ أنّها مجرّدُ أسبابٍ، وأنّها لا أثرَ لها ولا تأثيرَ إلّا بمشيئةِ اللهِ تعالى، فإن شاء سبحانه أجرى أثر هذا السببِ، وإن شاء أبطلَ أثرَ هذا السببِ. ولمّا ذكرَ اللهُ ضرر السحرَ قال سبحانه وتعالى:﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ  وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾.وكذلك لمّا أُلقيَ إبراهيمُ في النارِ لم يحترقْ، لأنّ اللهَ لم يأذَنْ للنارِ بإحراقه.[ أبطل الأثر] ولذا، فإنّ من يجعلُ أكثرَ اعتمادِهِ على الأسبابِ، فإنّ لديهِ نقصًا في توكُّلِهِ على اللهِ، وهذا -مع الأسفِ الشديدِ- واقعُ بعضِ الناسِ اليومَ،لا سيّما مع تقدُّمِ كثيرٍ من علومِ المادّةِ، فأصبح كثيرٌ من الناسِ يعتمدُ على تلك الأسبابِ، التي جعلَها اللهُ تعالى فعلا أسبابًا حقيقية لحصولِ المطلوبِ أو زوالِ المكروهِ، ولكنهم يغفلُون عن الاعتمادِ على اللهِ تعالى والالتجاءِ إليه. ولهذا تجدُ أنّ بعضَ الناسِ، عندما يُصابُ بمرضٍ، يبذلُ الأسبابَ فقط طلبًا للشفاءِ، يذهبُ للمستشفياتِ، ويذهبُ للرقاةِ، ويركنُ بقلبِهِ إليهم، ويمتلئُ ثقةً بهم، ويغفُل عن طلبَ الشفاءِ ممّن بيدهِ الشفاء وحدَه، قال صلى الله عليه وسلم: "اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ، أَذْهِبِ الْبَاسَ، اِشْفِ أَنْتَ الشَّافِي، لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ، شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا". فالطبيبُ والدواءُ والراقي مجرّدُ أسبابٍ، ولا يشفونَ أحدًا، وإنّما الشافي هو اللهُ. فالمحذورُ الذي يقع فيه البعض :هو الاعتمادُ على الأسبابِ، والتعلُّقُ بها، والرُّكونُ إليها، لأنّه إذا اعتمدَ عليها اعتمادًا كليًّا، مع اعتقادِ أنّ السببَ ينفعُه من دونِ اللهِ، فقد وقع في الشركِ الأكبرِ، وإن اعتمدَ على السببِ مع اعتقادِهِ أنّ اللهَ هو النافعُ الضارُّ، فقد وقع في الشركِ الأصغرِ، وهذه مسألةٌ جليلةٌ ومهمّةٌ من مسائلِ أعمالِ القلوبِ.

عبادَ اللهِ: التوكلُ على اللهِ لا يقتصرُ فقط على المأكلِ والمشربِ والملبسِ والمسكنِ، بل يشملُ كلَّ مطالبِكَ، سواءٌ كانت في دينٍ أو في دنيا.فتتوكّلُ على اللهِ حتى في صلاحِ قلبِكَ، ودينِكَ، وولدِكَ، وزوجِكَ، وصلاحِ جميعِ أمورِكَ.

عبادَ اللهِ:إنّ لتحقيقِ التوكلِ على اللهِ ثمراتٍ جليلةً، منها:

ارتياحُ البالِ، واطمئنانُ النفسِ: فبالتوكلِ يأمنُ الإنسانُ من الانهياراتِ النفسيةِ والعصبيةِ، ولو تنبّه الأطباءُ النفسيون لأهميةِ التوكلِ، لجعلوه من أهمِّ علاجاتِهم.ولو كان هؤلاء المنتحرونَ توكلوا على اللهِ حقَّ توكلهِ، لما لجؤوا إلى الانتحارِ، ولأوكلوا أمرَهم إلى اللهِ، وأسلموا أنفسَهم إليه، راضينَ بقضائِهِ وقدرِهِ.

ومن ثمرات التوكل : بعثُ العزيمةِ على العملِ: فالتوكلُ على اللهِ يبعثُ في القلبِ الحماسَ، والعزيمةَ للعملِ، لأنّ فيه فتحًا لبابِ الأخذِ بالأسبابِ المشروعةِ،

وعندما يفهمُ المرءُ التوكلَ فهمًا صحيحًا، ينطلقُ للعملِ، ويأخذُ بالأسبابِ، وهذا فيه تشجيعٌ على أن يكون الناسُ منتجين.

ومن ثمرات التوكل : قوّةُ القلبِ، والاستغناءُ عن الخلقِ: قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى النَّاسِ، فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ".

ومن ثمرت التوكلِ: أنّ ما قصرت به الأسبابُ، يُكمّله صدقُ التوكلِ على اللهِ.

وهذه فائدةٌ جدُّ مهمّةٌ، فالنبيُّ ﷺ مع أنّه أعدَّ أسبابَ هجرتِهِ مع أبي بكرٍ الصديقِ من الراحلتين والزادِ، والذي أخذ مكانه في فراش النوم، والذي كان يدلهم على الطريق، والذي كان يأتي بالغنم ليخفي آثارهما،ومع ذلك وصل الكفار إليهما، ولو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرهما ، ولكن الله بلطفهِ وقدرتهِ عمّى عليهم مكانهما. فإذا حصل نقصٌ في الأسبابِ، فالتوكلُ يتمّمُ الأمرَ.

وقد قال سبحانه: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ وقال ابنُ القيمِ رحمه الله: "التوكلُ من أعظمِ الأسبابِ التي يَحصلُ بها المطلوبُ، ويُندفَع بها المكروهُ".

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَلِيَ لَكُمْ فَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده -تعالى- وأشكره وأستغفره، وأتوب إليه وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أمّا بعدُ: فمن ثمراتِ التوكلِ على الله: الكفايةُ، والحمايةُ، والرعايةُ، فاللهُ سبحانه وتعالى يكفي من توكّل عليه من كلِّ همٍّ وسوءٍ، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، أي: كافيهِ عزَّ وجلَّ في جميعِ أمورِهِ، يكفيه في جلبِ ما ينفعُه، ويكفيه في دفعِ ما يضره.

فلا يقلقْ من اعتمدَ على اللهِ، فسيأتيهِ الفرجُ، وسيأتيهِ التوفيقُ من عندِ اللهِ، فهو القائلُ سبحانه:﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾؟ الجواب: بلى، هو سبحانه كافٍ عبدَه، حافظٌ من التجأَ إليه، معينٌ من استعانَ به، ناصرٌ من استنصرَه.    فمن ( يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ ‌بالِغُ ‌أَمْرِهِ [أي: منفذٌ أمرَه ، لكن مع ملاحظة ختام الآية الكريمة] قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرا) أي وقتا وأجلا ينتهي إليه.

ومن أعظمِ ثمراتِ تحقيقِ كمالِ التوكلِ على اللهِ: أنّ صاحبه موعودٌ بأن يكون من الذين يدخلونَ الجنةَ بغير حسابٍ ولا عذابٍ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في وصفهم:

" هم الذين لا يسترقونَ، ولا يكتوونَ، ولا يتطيّرونَ، وعلى ربهم يتوكّلونَ".قال الإمامُ المجدّدُ محمدُ بن عبد الوهابِ رحمه الله في "كتاب التوحيد": كونُ الجامعِ لتلكَ الخصالِ هو قوةُ التوكلِ على اللهِ".

عباد الله : هذه بعض ثمار التوكل ذكرتها اختصارا ، وإلا فله ثمار كثيرة عظيمة في الدنيا والآخرة .

أسأل الله أن يصلح قلوبنا ويمن علينا بتحقيق أعلى مقامات التوحيد والإخلاص واليقين والتوكل وغيرها من أعمال القلوب الشرعية إنه سميع مجيب

المشاهدات 310 | التعليقات 0