الحلم والأناة

عبدالرحمن سليمان المصري
1446/05/26 - 2024/11/28 19:54PM

الحلم والأناة

الخطبة الأولى

الحَمدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ منْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِـمَكارِمِ الأَخلاقِ ، وهَداهُمْ لِـمَا فِيهِ سَعَادَتُهُم في الدُّنيا ويَومَ التَّلاقِ ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ :

أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.

عباد الله: إن رقي الأمم وتقدمها ، وسبيل عِزَّها ومَجدَها ، بالحفاظِ على القيم والآداب ومكارم الأخلاق، والأخذ بمعالي الفضائل وجميل الشمائل ، وقد أعتنى الإسلام بأمر الأخلاق عناية عظمى، وأولاها رعاية كبرى ، قال صلى الله عليه

وسلم : " إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ " رواه أحمد صحيح

وإن مما عَنِيَ بهِ الإسلامُ من محاسنِ الأخلاقِ وفضائلِ الآداب : الإتصافُ بالحِلْمِ ، وهو منْ أَرْقَى الآدابِ ، وأَنبلِ الأَخلاقِ ، وهو ضبطُ النفسِ عندَ الغضبِ ، وكَفِّهَا عنْ مُقابلةِ الإِساءةِ بِمِثلِها ، ابتغاءً للأجرِ والمَثوبةِ منَ اللهِ جلَّ وعلا .

وقد أَمرَ اللهُ بهِ ، وحَثَّ عليهِ رَسُولُه  صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾الأعراف: 199 ، وقال تعالى عن عباده المؤمنين: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ الشوري: 37. وقال:﴿ وَإِذَا

خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ الفرقان: 63.، قال ابن كثير رحمه الله : أَيْ ، إِذَا سَفه عَلَيْهِمُ الْجُهَّالُ بِالسَّيِّئْ ، لَمْ يُقَابِلُوهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ، وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا خَيْرًا  .أ.هـ .

 وقال صلى الله عليه وسلم لِلْأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: " ‌إِنَّ ‌فِيكَ ‌خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ ، وَالْأَنَاةُ " رواه مسلم.

وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ ‌كَظَمَ ‌غَيْظًا ‌وَهُوَ ‌قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ " رواه أبو داود وحسنه الألباني.

عباد الله: والحِلْمُ خُلُقُ الأنبياءِ ، وصفةٌ لِلمؤمنينَ والأَتقياءِ ، قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام : ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ ، وبَشَّرتهُ المَلائِكةُ بِغُلامٍ مُتّصفٌ بِالحِلْمِ ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ .

ونوحٌ عليه السلام  دعا قومه إلى عبادة الله ، فجعلوا أصابعهم في آذانهم استكباراً ، وقالوا ﴿ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ ، فحَلَم عليهمْ أَلفَ سَنةٍ إِلَّا خَمسينَ عَاماً ، ثمَّ نَصرهُ اللهُ عَلَيهمْ .

ومُوسَى عليهِ السلامُ ، رماهُ قَومُهُ بِالجُنونِ ، وتَحدَوهُ بالسِّحرِ وتَآمَرُوا على قَتلِهِ ، فَحَلمَ عَلَيهمْ فَبرَّأَهُ اللهُ ممَّا قَالُوا، وكانَ عندَ اللهِ وَجِيهاً. 

وأَمَّا نَبِّيُنا صلى الله عليه وسلم فقدْ بلغَ النِّهايةَ في الفَضائلِ والمكارمِ ، فقدْ صَبَرَ وتَحمَّلَ منَ الأَذَى مَا لمْ يَتَحمَّلُهُ سِواهُ ، رُغمَ قَساوةِ مَا لَاقاهُ ، ومَرَارةِ مَا عَانَاهُ ، منْ جَهلِ الجَاهِلينَ ، وتَطَاولِ المُنَافقينَ ، وأَذَى اليَهودِ والمُشركينَ ، فكانَ يُقابلُ

 .ذَلكَ كُلَّهُ بِحِلْمٍ واسعٍ، وصَفْحٍ جَميلٍ، وصَبرٍ عَظيمٍ ، عزَّ نظيرهُ وقَلَّ مَثِيلهُ .


خَرجَ لِيُبلِّغَ دَعوةَ اللهِ تعالى في خارجِ مَكَّةَ ، فَسَخِرُوا مِنهُ ، وسَبُّوهُ ورَجَمُوهُ بِالحِجَارةِ ، حتَّى أَدْمَوا عَقِبهُ،  فَنَادَاهُ مَلَكُ الجِبَالِ ، وقالَ: إنْ شِئتَ أَنْ أُطبِقَ عَلَيهمْ الأَخْشبينِ ، فقالَ :" بل أرجوا أن يُخرجَ اللهُ منْ أَصلابِهمْ منْ يعبدَ اللهَ وحدَهُ ، لا

يُشركْ بهِ شيئا " رواه البخاري .

و حينما دخلَ مكَّةَ فَاتحاً مُنتصراً ، لمْ يَزدْ على أنْ قالَ لِأَهلِها وهُمْ الذين آذوه وأَخْرَجُوهُ مِنهَا:" لا تَثْرِيبَ عَلَيكمْ ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلقَاءِ " رواه البيهقي.

 ورَآهُ أَعْرَابِيٌّ ‌فَجَبَذَهُ ‌بِرِدَائِهِ ‌جَبْذَةً ‌شَدِيدَةً ، حَتَّى أَثَّرَ في عُنُقِهِ صلى الله عليه وسلم ، وقال يَا مُحَمَّدُ ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " رواه البخاري.

عباد الله : الحِلْمُ دَليلٌ على رَبَاطةِ الجَأْشِ، وشَجَاعةِ النَّفسِ ، ودماثةِ الخُلُقِ، ولا يعني الضعفَ والهوانَ ، كما يتصوره كثيرٌ من الناس ، قال صلى الله عليه وسلم : " ‌لَيْسَ ‌الشَّدِيدُ ‌بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " رواه البخاري.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : درجةُ الحِلْمِ والصَّبرِ على الأَذَى ، والعَفُو عنْ الظُّلمِ ، أَفضلُ أَخلاقِ أَهْلِ الدُّنيا والآخِرةِ ، يَبلغُ الرَّجلُ بِها مَا لَا يَبلُغْهُ بِالصِّيامِ والقِيَامِ .أ. هـ .

وقالَ عَليُّ بنُ أَبِي طَالبٍ رضي الله عنه: لَيسَ الخَيرُ أنْ يَكثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ ، ولَكنَّ الخَيرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ ، وَيَعْظُمَ حِلْمُكَ . أ. هـ .

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.         

 

 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً  ،       أمَّا بعدُ :

 

عباد الله : الحِلْمُ سَيِّدُ الأَخْلَاقِ ، ودَلِيلُ كَمَالِ العَقْلِ وامْتِلاكِ النَّفسِ ، والمُـتَّصفُ بهِ عَظيمُ الشَأنِ ، مَحمودُ العاقبةِ ، مَرضِيُّ الفِعلِ ، وكَفَى بِالحلمِ فَضلاً وشَرفاً ؛ أَنَّهُ صِفةٌ منْ صِفاتِ النُّبوةِ ، قال صلى الله عليه وسلم : "السَّمْتُ الحَسَنُ ،

وَالتُّؤَدَةُ ، وَالِاقْتِصَادُ ‌، جُزْءٌ ‌مِنْ ‌أَرْبَعَةٍ ‌وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " رواه أحمد بسند حسن .

وإِنَّ قِلَّةَ الحِلْمِ وكَثْرَةَ الغَضبِ ؛ آفتانِ عَظيمتانِ ، إذا انْتَشرتَا في مُجتمعٍ مَا ؛ قَوَّضَتَا بُنْيَانَهُ ، وهَدمَتَا أَرْكَانَهُ ، وأَدَّى ذَلِكَ إلى تَقْطِيعِ الأَوَاصِرِ والرَّوابِطِ ، وإِشَاعةِ أَجْواءَ التَّبَاغُضِ والتَّدابُرِ والتَّحاسُدِ ، قال صلى الله عليه وسلم :" ‌إِنَّ ‌اللهَ ‌رَفِيقٌ

‌يُحِبُّ ‌الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ " رواه مسلم.

وكثيرٌ منْ مَشاكلِ النَّاسِ اليومَ ، كَالمُشكلاتِ الزَّوجيةِ والأُسريةِ ، والمشكلاتُ التي تقعْ في العملِ والوظيفة ، والمشاكل بين الجيران ، أو بين الشركاء ، وبين سائقي السيارات ، وحتى بين المصلين في المساجد ، لوجدت أن من أسبابِ ذلك

؛ الاستجابةُ لداعي الغضب ، ومسايرة النفس على هواها في حب الانتقام ، فما أحوج المسلم إلى الاتصاف بهذه الصفة في جميع أحواله ، فيكون حليما مع من يتعامل معه .

وقد لا يكون الإنسان مجبولًا على الحلم فيحتاج إلى مجاهدة نفسه للتخلق به ، وكتم غيضه ، قال صلى الله عليه وسلم:" ‌إِنَّمَا ‌الْعِلْمُ ‌بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " رواه الطبراني وحسنه الألباني.

عباد الله : وليعلمِ المؤمنُ أنَّ الجزاءَ من جنسْ العملِ ، فمنْ يَصفحْ عن الخَلقِ يَصفحِ اللهُ عنهُ ، قال ابن القيم رحمه الله : يُعاملُ اللهُ  العبدَ في ذُنوبِهِ ؛ بِمثلِ مَا يُعاملُ بهِ العبدُ النَّاسَ في ذُنوبهِمْ ، والجَزاءُ منْ جِنسِ العملِ ، فمنْ عَفَى؛ عَفَى اللهُ

عنهُ ،  ومَنْ سَامحَ أَخاهُ في إِسَاءَتهِ إِليهِ  ؛ سَامَحهُ اللهُ في إِساءَتهِ ،  ومنْ أَغَضَى وتَجَاوزَ ؛  تَجَاوَزَ اللهُ عَنهُ ،  ومنْ اسْتَقْصَى  ؛  اسْتَقْصَى اللهُ عَليهِ . أ.هـ. باختصار.

قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ آل عمران 133-134.


هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

.

المرفقات

1732812835_الحلم والأناة خطبة جمعة.docx

1732812836_الحلم والأناة خطبة جمعة.pdf

المشاهدات 744 | التعليقات 0