الحلم والأناة
عبدالرحمن سليمان المصري
الحلم والأناة
الخطبة الأولى
الحَمدُ للهِ الَّذِي وَفَّقَ منْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِـمَكارِمِ الأَخلاقِ ، وهَداهُمْ لِـمَا فِيهِ سَعَادَتُهُم في الدُّنيا ويَومَ التَّلاقِ ، وأَشهدُ أن لا إِلهَ إِلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصحبهِ وسلَّمَ تَسليماً كَثيراً ، أمَّا بَعدُ :
أُوصِيكُمْ ونَفسِي بِتقوَى اللهِ تَعالى فهيَ وصِيَّةُ اللهِ للأَوَّلينَ والآخِرينَ ، قال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ النساء : 131.
عباد الله: إن رقي الأمم وتقدمها ، وسبيل عِزَّها ومَجدَها ، بالحفاظِ على القيم والآداب ومكارم الأخلاق، والأخذ بمعالي الفضائل وجميل الشمائل ، وقد أعتنى الإسلام بأمر الأخلاق عناية عظمى، وأولاها رعاية كبرى ، قال صلى الله عليه
وسلم : " إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ " رواه أحمد صحيح
وإن مما عَنِيَ بهِ الإسلامُ من محاسنِ الأخلاقِ وفضائلِ الآداب : الإتصافُ بالحِلْمِ ، وهو منْ أَرْقَى الآدابِ ، وأَنبلِ الأَخلاقِ ، وهو ضبطُ النفسِ عندَ الغضبِ ، وكَفِّهَا عنْ مُقابلةِ الإِساءةِ بِمِثلِها ، ابتغاءً للأجرِ والمَثوبةِ منَ اللهِ جلَّ وعلا .
وقد أَمرَ اللهُ بهِ ، وحَثَّ عليهِ رَسُولُه صلى الله عليه وسلم ؛ قال تعالى : ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾الأعراف: 199 ، وقال تعالى عن عباده المؤمنين: ﴿ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ﴾ الشوري: 37. وقال:﴿ وَإِذَا
خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ الفرقان: 63.، قال ابن كثير رحمه الله : أَيْ ، إِذَا سَفه عَلَيْهِمُ الْجُهَّالُ بِالسَّيِّئْ ، لَمْ يُقَابِلُوهُمْ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَعْفُونَ وَيَصْفَحُونَ، وَلَا يَقُولُونَ إِلَّا خَيْرًا .أ.هـ .
وقال صلى الله عليه وسلم لِلْأَشَجِّ أَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: " إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ ، وَالْأَنَاةُ " رواه مسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ ، دَعَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ مَا شَاءَ " رواه أبو داود وحسنه الألباني.
عباد الله: والحِلْمُ خُلُقُ الأنبياءِ ، وصفةٌ لِلمؤمنينَ والأَتقياءِ ، قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام : ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾ ، وبَشَّرتهُ المَلائِكةُ بِغُلامٍ مُتّصفٌ بِالحِلْمِ ﴿ فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ ﴾ .
ونوحٌ عليه السلام دعا قومه إلى عبادة الله ، فجعلوا أصابعهم في آذانهم استكباراً ، وقالوا ﴿ مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ ، فحَلَم عليهمْ أَلفَ سَنةٍ إِلَّا خَمسينَ عَاماً ، ثمَّ نَصرهُ اللهُ عَلَيهمْ .
ومُوسَى عليهِ السلامُ ، رماهُ قَومُهُ بِالجُنونِ ، وتَحدَوهُ بالسِّحرِ وتَآمَرُوا على قَتلِهِ ، فَحَلمَ عَلَيهمْ فَبرَّأَهُ اللهُ ممَّا قَالُوا، وكانَ عندَ اللهِ وَجِيهاً.
وأَمَّا نَبِّيُنا صلى الله عليه وسلم فقدْ بلغَ النِّهايةَ في الفَضائلِ والمكارمِ ، فقدْ صَبَرَ وتَحمَّلَ منَ الأَذَى مَا لمْ يَتَحمَّلُهُ سِواهُ ، رُغمَ قَساوةِ مَا لَاقاهُ ، ومَرَارةِ مَا عَانَاهُ ، منْ جَهلِ الجَاهِلينَ ، وتَطَاولِ المُنَافقينَ ، وأَذَى اليَهودِ والمُشركينَ ، فكانَ يُقابلُ
.ذَلكَ كُلَّهُ بِحِلْمٍ واسعٍ، وصَفْحٍ جَميلٍ، وصَبرٍ عَظيمٍ ، عزَّ نظيرهُ وقَلَّ مَثِيلهُ .
خَرجَ لِيُبلِّغَ دَعوةَ اللهِ تعالى في خارجِ مَكَّةَ ، فَسَخِرُوا مِنهُ ، وسَبُّوهُ ورَجَمُوهُ بِالحِجَارةِ ، حتَّى أَدْمَوا عَقِبهُ، فَنَادَاهُ مَلَكُ الجِبَالِ ، وقالَ: إنْ شِئتَ أَنْ أُطبِقَ عَلَيهمْ الأَخْشبينِ ، فقالَ :" بل أرجوا أن يُخرجَ اللهُ منْ أَصلابِهمْ منْ يعبدَ اللهَ وحدَهُ ، لا
يُشركْ بهِ شيئا " رواه البخاري .
و حينما دخلَ مكَّةَ فَاتحاً مُنتصراً ، لمْ يَزدْ على أنْ قالَ لِأَهلِها وهُمْ الذين آذوه وأَخْرَجُوهُ مِنهَا:" لا تَثْرِيبَ عَلَيكمْ ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ الطُّلقَاءِ " رواه البيهقي.
ورَآهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً ، حَتَّى أَثَّرَ في عُنُقِهِ صلى الله عليه وسلم ، وقال يَا مُحَمَّدُ ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " رواه البخاري.
عباد الله : الحِلْمُ دَليلٌ على رَبَاطةِ الجَأْشِ، وشَجَاعةِ النَّفسِ ، ودماثةِ الخُلُقِ، ولا يعني الضعفَ والهوانَ ، كما يتصوره كثيرٌ من الناس ، قال صلى الله عليه وسلم : " لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ " رواه البخاري.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : درجةُ الحِلْمِ والصَّبرِ على الأَذَى ، والعَفُو عنْ الظُّلمِ ، أَفضلُ أَخلاقِ أَهْلِ الدُّنيا والآخِرةِ ، يَبلغُ الرَّجلُ بِها مَا لَا يَبلُغْهُ بِالصِّيامِ والقِيَامِ .أ. هـ .
وقالَ عَليُّ بنُ أَبِي طَالبٍ رضي الله عنه: لَيسَ الخَيرُ أنْ يَكثُرَ مَالُكَ وَوَلَدُكَ ، ولَكنَّ الخَيرَ أَنْ يَكْثُرَ عِلْمُكَ ، وَيَعْظُمَ حِلْمُكَ . أ. هـ .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إِحسانِهِ ، والشُّكرُ لهُ على تَوفِيقهِ وامتِنانهِ ، وأَشْهدُ أنْ لَا إِلهَ إِلا اللهُ وحْدهُ لا شَريكَ لهُ ، وأَشْهدُ أنَّ مُحمداً عبدهُ ورَسولُهُ ، صَلّى اللهُ عَليهِ وعَلى آلهِ وصَحبهِ ، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً ، أمَّا بعدُ :
عباد الله : الحِلْمُ سَيِّدُ الأَخْلَاقِ ، ودَلِيلُ كَمَالِ العَقْلِ وامْتِلاكِ النَّفسِ ، والمُـتَّصفُ بهِ عَظيمُ الشَأنِ ، مَحمودُ العاقبةِ ، مَرضِيُّ الفِعلِ ، وكَفَى بِالحلمِ فَضلاً وشَرفاً ؛ أَنَّهُ صِفةٌ منْ صِفاتِ النُّبوةِ ، قال صلى الله عليه وسلم : "السَّمْتُ الحَسَنُ ،
وَالتُّؤَدَةُ ، وَالِاقْتِصَادُ ، جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ " رواه أحمد بسند حسن .
وإِنَّ قِلَّةَ الحِلْمِ وكَثْرَةَ الغَضبِ ؛ آفتانِ عَظيمتانِ ، إذا انْتَشرتَا في مُجتمعٍ مَا ؛ قَوَّضَتَا بُنْيَانَهُ ، وهَدمَتَا أَرْكَانَهُ ، وأَدَّى ذَلِكَ إلى تَقْطِيعِ الأَوَاصِرِ والرَّوابِطِ ، وإِشَاعةِ أَجْواءَ التَّبَاغُضِ والتَّدابُرِ والتَّحاسُدِ ، قال صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ
يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لَا يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ " رواه مسلم.
وكثيرٌ منْ مَشاكلِ النَّاسِ اليومَ ، كَالمُشكلاتِ الزَّوجيةِ والأُسريةِ ، والمشكلاتُ التي تقعْ في العملِ والوظيفة ، والمشاكل بين الجيران ، أو بين الشركاء ، وبين سائقي السيارات ، وحتى بين المصلين في المساجد ، لوجدت أن من أسبابِ ذلك
؛ الاستجابةُ لداعي الغضب ، ومسايرة النفس على هواها في حب الانتقام ، فما أحوج المسلم إلى الاتصاف بهذه الصفة في جميع أحواله ، فيكون حليما مع من يتعامل معه .
وقد لا يكون الإنسان مجبولًا على الحلم فيحتاج إلى مجاهدة نفسه للتخلق به ، وكتم غيضه ، قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَا الْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، ومَنْ يَتَحَرَّى الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ " رواه الطبراني وحسنه الألباني.
عباد الله : وليعلمِ المؤمنُ أنَّ الجزاءَ من جنسْ العملِ ، فمنْ يَصفحْ عن الخَلقِ يَصفحِ اللهُ عنهُ ، قال ابن القيم رحمه الله : يُعاملُ اللهُ العبدَ في ذُنوبِهِ ؛ بِمثلِ مَا يُعاملُ بهِ العبدُ النَّاسَ في ذُنوبهِمْ ، والجَزاءُ منْ جِنسِ العملِ ، فمنْ عَفَى؛ عَفَى اللهُ
عنهُ ، ومَنْ سَامحَ أَخاهُ في إِسَاءَتهِ إِليهِ ؛ سَامَحهُ اللهُ في إِساءَتهِ ، ومنْ أَغَضَى وتَجَاوزَ ؛ تَجَاوَزَ اللهُ عَنهُ ، ومنْ اسْتَقْصَى ؛ اسْتَقْصَى اللهُ عَليهِ . أ.هـ. باختصار.
قال تعالى: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ آل عمران 133-134.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .
.
المرفقات
1732812835_الحلم والأناة خطبة جمعة.docx
1732812836_الحلم والأناة خطبة جمعة.pdf