الرفقاء مناسبة للتعميم
ملتقى الخطباء - فريق النشر
الخطبة الأولى:
فحديثي إليكم اليوم -معاشر الكرام- عن أقوام.. تزينوا بزينة الأخلاق، فكانوا من أروع الناس على الإطلاق..
عن أقوامٍ.. سمت أنفسُهم بالسماحة، وفاضت أرواحُهم بالرحمة، ولبسوا رداء التقوى، وتجملوا بجلباب القناعة، واغتسلوا من أدران الشحِّ والطمع، وأوساخ الأنانيَّة والجشع، فبارك الرحمن قليلَهم، وأصلحَ أفعالَهم، وأطاب قيلَهم..
إنَّهم هم «الرُّفقاء».. «الرُّفقاءُ» الذين جعلوا الرِّفق لهم رفيقاً.. ورأوا منه إكسيراً يضفي على الأمور جمالاً.. ويمنحُها بركةً وبرا.. وتوفيقاً وخيراً.. وما ذاك إلا أنَّهم علموا أنَّ “الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزعُ من شيءٍ إلا شانه” كما أخبر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-.
إنَّهم «الرُّفقاء».. أصحاب النفوس الرحيمة.. والأيادي الكريمة.. الذي يعينون ذا الحاجة.. ويغيثون ذا اللهفة.. ويُضمِّدون الجرح الغائر.. ويعينون ذا الحظِّ العاثر.. ويسعون إلى بذل المعروف وجَبْرِ الخاطر..
إنَّهم «الرُّفقاءُ» الذين علموا أنَّ الرِّفقَ صفةٌ من صفات الله، فخالط شغافَ قلوبِهم معناها.. وتعبدُّوا لله بمقتضاها..
جاء في الحديثِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ . قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ.
ولئن قرأت في سيرة محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- لتجدَّنها عاطرةً بالرفق، ناضحةً بالرحمة، مملؤة باللُّطف والعطف.. “فبما رحمةٍ من الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فظاً غليظ القلبِ لانفضوا من حولك”
يدخلُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إلى الصلاة.. يريدُ إطالتَها.. يبغي أنسَها وراحتَها ولذتها.. ينعمُ بطيبِ المناجاة.. يطلبُ نورَ ربِّه وهداه.. فإذا صُراخُ الصبيِّ يطرقُ المسامع.. ويقطعُ انسجام كلِّ مصلٍّ خاشع.. فإذا بالنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- يتجوَّز في الصلاة.. يخفِّفها..لما يعلمُ من شدَّة وَجدِ أمِّه عليه..
عبادَ الله.. ما أجملَ أن يكون الإنسانُ رفيقاً! رفيقاً بنفسه.. فلا يكلِّفها من الأعمال ما لا طاقةَ لها به.. جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: سئل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: أيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ قال: أدومها وإن قل، وقال: “اكلَفُوا من الأعمال ما تطيقون”.
بل يكون الإنسان رفيقاً حتى في تدينِه وعباداتِه.. قال -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ الدين يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَة، وشيءٍ من الدُّلجة”، وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إنَّ هذا الدِّين متينٌ؛ فأوغلوا فيه برفق”.
ويكون الإنسان -كذلك- رفيقاً.. بالناس جميعاً.. لا سيما من كانوا تحت ولايتِه.. ومحلَّ نظرِه وإدارتِه.. فالرفقاء.. تنالُهم بركةُ الدعاء.. الذي دعا به سيِّدُ الرُّفقاء -صلى الله عليه وسلم- حين دعا: “اللَّهم من ولي من أمرِ أمتي شيئاً فشقَّ عليهم فاشقُقْ عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئا فَرَفَق بهم فارُفُقْ به”.
بل لا يقتصرُ الرفقُ على بني آدم.. حتى يتجاوزَه إلى الدوابِّ والبهائم.. جاء في الحديث أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- دخل حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا فِيهِ جَمَلٌ، فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ الجملُ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، قَالَ: فَأَتَاهُ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ سَرَتَهُ سَرَاتَه إِلَى سَنَامِهِ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟ فَجَاءَ فَتًى مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: أَفَلَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَ اللهُ إِيَّاهَا؟ فَإِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ.. أي: تتعبه.
ومن أمارات الخيريَّة.. في مجتمعٍ ما.. أو بيتٍ ما.. أن يكون الرِّفقُ لهم خلقاً وسجيَّة.. جاء في الحديث عن عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “ إِذَا أَرَادَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأَهْلِ بَيْتٍ خَيْرًا أَدْخَلَ عَلَيْهِمُ الرِّفْقَ”.
والرفق سمةٌ مِن سمات أهل الجنة.. جعلني الله وإياكم من أهلِها.. جاء في الحديث عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: “ألا أخبركُم بمن يحرمُ على النار، وبمن تحرُم النارُ عليه؟ على كلِّ قريبٍ هيِّنٍ سهل”.
أيها المؤمنون: إنَّ الموفَّق هو من ترفَّق.. والمُسامَح هو من تسامح.. والمُكْرَم هو من بَرَّ وأكرم.. والراحمون يرحمُهم الرحمن.. ارحموا من في الأرض يرْحمْكُم من في السماء.. وكما تكونُ للناس يكونُ الله لك..
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: “من نفَّس عن مؤمنٍ كربة نفَّس الله عنه كربةً من كُرَب يوم القيامة، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عونِ العبد ما كان العبدُ في عونِ أخيه”.
أبو قتادة رضي الله عنه يطلبُ غريماً له.. فيتوارى ذلك الغريم.. لربما ضاقت به الحال.. ولم يجدْ ما يقضي به من المال.. ولربما أنهكته نفقةُ العيال.. ثمَّ يقدَّرُ أن يجدَه أبو قتادة.. فيبوحُ ذلك الرجلُ بعذرِه.. ويخبرُ عن عَوَزِه وعُسرِه.. فيستحلفه أبو قتادة: آلله؟ فيقول: آلله.. قال أبوقتادة؛ فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: “من سرَّه أن ينجيَه الله من كُرَب يوم القيامة؛ فلينفِّس عن مُعسرٍ، أو يضعْ عنه”.
بارك الله لي ولكم.....
الخطبة الثانية:
أزمةٌ تعصف بكثير من المستأجرين.. “في كلِّ عامٍ مرةً أو مرتين”.. وحينما يقتربُ حينُ السداد.. ويصلُ إليهم الإشعار.. بانتهاء عقد الإيجار.. يظلُّ الكثيرون في حيرةٍ تدهمهم.. وانزعاجٍ يُقلِقُهم.. لا سيما مع ارتفاع متزايدٍ في أسعار العقارات..
وفي ظلِّ هذه الظروف.. وانطلاقاً من معاني الإسلام العظيمة.. من الرَّحمة والرفق والتسامح.. ودفعِ المفاسد وجلب المصالح.. جاء التوجيهات الحكيمة.. من قيادة بلادنا الكريمة.. بما يحقِّق التوازن العقاريَّ، ويضبطُ القطاعَ السكنيَّ.. بما يحقِّق المصلحة للبائع والمشتري.. والمؤجِر والمستأجر على حدٍّ سواء.. من غير إضرارٍ بهما أو بأحدِهما.. امتثالاً للقاعدة الشرعية.. “لا ضررَ ولا ضِرار”.
ألا فوفَّق الله ولاة أمرنا لما فيه الصلاح.. وسدَّد خطوَهم لكلِّ خيرٍ وفلاح..
وثمَّة رسائل عجلى.. أبعثُ بها في ختام هذه الخطبة..
الرسالةُ الأولى: إليك يا من تسكن بيتاً.. ولو بيتاً قديماً متهالكاً.. وسواءً كنت له مستأجِراً أو مالِكا..
اذكرْ نعمةَ الله عليك.. واستشعر منةَ الله لديك.. (والله جعل لكم من بيوتِكم سكنا)، لئن وجدت البيت الذي يظلك.. والمسكنَ الذي يقلِّك.. يسترك عن الأنظار.. ويحميك من الأخطار.. فأنت في عيشٍ سارّ.. وخيرٍ مدرار..
إن ملايين من البشر في هذا العالم.. لا يجدون الشُّقة التي تسكنُها.. والغرفة التي تقطُنها.. بل يبيتون مشرَّدين في العراء.. يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. تمتلئ بهم الملاجئ.. وتعجُّ بهم المخيمات.. ولا يجدون من متطلبات العيش أدنى المقوِّمات..
قال -صلى الله عليه وسلم-: “مَنْ أَصْبَحَ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا”
الرسالة الثانية: إليك أيُّها المؤجِّر..
إن المكاسِبَ في هذه الحياة لا تقتصر على حوالةٍ بنكيَّةٍ تُودَع في رصيدك.. بل من أجلِّ ما تكتسبُه في هذه الحياة.. دعواتٌ صادقةٌ إلى السماء ترقى.. وقلوبٌ تنبضُ بحبِّك طهراً وصدقاً.. وذكرٌ طيِّبُ يُنشرُ ويبقى..
إنَّ هذه أشياء لا تُشترى بالمال.. ولكنها هبةُ ذي الجلال.. فصنيعةُ يدك من كريم الأفعال وطيِّبِ الخصال..
إن السعادةَ -أيها المبارك- تكمنُ في العطاء أكثرَ من الأخذ..
إنَّه لا أحدَ ينازِعُك في حقِّك المشروع.. لكن تذكر فضلَ الله عليك.. إذ جعل حاجة الناس إليك.. ولم تكن حاجتُك إليهم..
تذكَّر أنَّ هذا المستأجِر هو أخوك.. هو أخوك المسلمُ.. الذي يستحِقُّ منك العطفَ والرحمة.. (إنما المؤمنون إخوةً) (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم).
تذكَّر قول النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “لا يؤمِنُ أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه”.
تذكَّر قولَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: “رَحِمَ اللهُ عَبْدًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى، سَمْحًا إِذَا قَضَى”.
الناسُ بالناس ما دام الوفاءُ بهم *** والعسرُ واليسرُ أوقاتٌ وساعاتُ
وأكرم الناس ما بين الورى رجلٌ *** تُقضى على يدهِ للناس حاجاتُ
لا تقطعنَّ يدَ المعروفِ عن أحدٍ *** إن كنتَ تقدِرُ؛ فالأيام تاراتُ
واشكر صنيعة فضل الله إذ *** جُعلت إليك؛ لا لك عند الناس حاجاتُ
قد مات قومٌ وما ماتت فضائلُهم *** وعاش قومٌ وهم في الناسِ أموات
الرسالةُ الثالثة: إليك أيُّها المستأجِر..
إنَّه لا يليق بمسلم أبداً أن يضع نفسه موضع الإذلال.. أو يتعرَّض مكثراً بالطلَّب والسؤال.. حتى يجد الناسُ منه الإثقال والإملال..
بل الواجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يُنزل حاجتَه أولاً في ساحِ ذا الجلال.. ثم يسعى جاهداً في التماس الرزق الحلال.. ويتبِعُ ذلك بإحسان التصرف في المال.. فلا يبعثرُه مالَه في طلب ما لا حاجةَ له من النفقات الكمالية التي يُمكن الاستغناء عنها..
كما أنَّ عليه أن يَقْدُرَ نفسَه قدرها.. فلا يتشبُع بما لم يعط.. ولا يتكلف ما لا يقدِر.. بل يسعى إلى استئجار السكن المناسبِ لقدراته.. وفي الحيِّ الملائمِ لإمكاناته..
أيُّها المستأجرُ الكريم: كُن حريصاً على الوفاء.. ملتمساً حسن الأداء.. مكثرا الدعاء والالتجاء.. وثِق من الله بالغِنى والفضل والعطاء..
“اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عمَّن سواك”.
المرفقات
1759992906_الرفقاء .docx
1759992906_الرفقاء.pdf