السماحة في البيع والشراء

إِنَّ الحمدَ للهِ؛ نَحمَدُهُ ونَستعينُهُ ونَستهديه، ونعوذُ باللهِ من شُرورِ أنفسِنا وسيِّئاتِ أعمالِنا، مَن يَهدِهِ اللهُ فَهُوَ المُهتَدِي، ومَن يُضلِلْ فلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرشِدًا، وأَشهَدُ أن لا إِلـهَ إِلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأَشهَدُ أنَّ محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُهُ، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ أَجمعينَ، وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أمّا بعدُ، إخوةَ الإيمانِ..

فاتّقوا اللهَ تعالى، وراقبوه في سرِّكم وعلانيتِكم، واعلموا أنَّ من كمالِ الإيمانِ حُسنَ المعاملةِ، وصفاءَ القلبِ، وسماحةَ البيعِ والشراءِ، فإنَّ الإسلامَ دينُ عدلٍ وإحسانٍ، لا ظلمَ فيه ولا بَخسَ، ولا غِشَّ ولا طُغيانَ.

عبادَ اللهِ.. ما أروعَ أن نتأمّلَ مواقفَ نبيِّنا الكريمِ ﷺ في معاملاتهِ اليوميّةِ، لنرى كيف كان الإيمانُ يظهرُ في سلوكِه، والرّحمةُ تفيضُ من قلبِه، والسماحةُ تشرقُ في تعاملِه.

ومن روائعِ السِّيَرِ ومَشاهدِ النُّورِ التي تُجسِّدُ خُلُقَ النبيِّ ﷺ في معاملاته، وتكشفُ عن نبيٍّ عظيمٍ يتعاملُ بصفاءِ القلبِ، والرحممةِ بالخلقِ؛ ما رواهُ الصحابيُّ الجليلُ جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنه، حين قال:

خرجتُ مع رسولِ اللهِ ﷺ إلى غزوةِ ذاتِ الرِّقاعِ على جملٍ ضعيفٍ، وحينَ رجع رسولُ اللهِ ﷺ من الغزوةِ جعلتِ الرِّفاقُ تمضي، وجعلتُ أتخلَّفُ، حتى أدركني رسولُ اللهِ ﷺ، فقال: "ما لكَ يا جابرُ؟"

قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أبطأَ بي جَمَلِي هذا، قال ﷺ: «أنِخْه». فأنختُه، ثم قال: «أعطني هذه العصا». ففعلتُ، فأخذها رسولُ اللهِ ﷺ فنخسَهُ بها نَخَساتٍ، ثم قال: "اركَبْ". فركبتُ، فما زال بين يدي الإبلِ قدّامَها يسيرُ.

فقال لي: "كيف ترى بعيرَك؟"

قلتُ: بخيرٍ، قد أصابتْهُ بركتُك.

قال: "أفَتَبِيعُنِيه؟"

قال: فاستحييتُ، ولم يكنْ لي غيرُه، وأنا بحاجةٍ شديدةٍ إليه.

فقلتُ: بل أهبُهُ لك.

قال: "لا، ولكن بعْنيه"

قلتُ: فسُمْهُ لي.

قال ﷺ: "قد أخذتُهُ بدرهمٍ"

قلتُ: لا، إذاً تغبِنُني يا رسولَ اللهِ.

قال: "فبدرهمين"

قلتُ: لا.

قال: فلم يزلْ يرفعُ لي رسولُ اللهِ ﷺ حتى بلغ الأُوقيّةَ، والأُوقيّةُ بالوزنِ المعاصر ثلاثونَ جرامًا من الذهبِ.
قال جابرٌ: أفقدْ رضيتَ يا رسولَ اللهِ؟
قال: نعم.

قال: فبعتهُ رسولَ اللهِ ﷺ، على أنَّ لي ظهرَهُ حتى أبلغَ المدينةَ.

فلمّا وصلَ المدينةَ، أخذَ جابرٌ برأسِ الجملِ فأقبلَ به، حتى أناخَهُ على بابِ رسولِ اللهِ ﷺ، ثم جلسَ في المسجدِ قريبًا منه، ثم خرجَ رسولُ اللهِ ﷺ فرأى الجملَ فقال: "ما هذا؟"

قالوا: يا رسولَ اللهِ، هذا جملٌ جاء به جابرٌ.
فقال ﷺ لجابرٍ: "يا ابنَ أخي، خُذْ برأسِ جَمَلكَ، فهو لكَ"


ودعا بلالًا فقال: "اذهبْ بجابرٍ فأعطِهِ أُوقيّةً"،
قال: فذهبتُ معه، فأعطاني أُوقيّةً، وزادَني شيئًا يسيرًا.
قال جابرٌ عن المالِ: فواللهِ ما زالَ ينمِي عندي، ويُرى مكانُه من بيتِنا.

عبادَ اللهِ.. هذا إحسانُ النبيِّ ﷺ وسماحتُه في البيعِ والشراءِ، فإنَّه لما اشترى من جابرٍ جملَهُ، وَزَنَ له وزادَه، ولم يَبخَسْهُ، وأحسنَ في شرائِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ.

وفي موقفٍ نَبويٍّ آخَرَ يتجلّى فيه السَّماحةُ والإحسانُ، وذلك حينَ أَخَذَ رسولُ اللهِ ﷺ من رجلٍ جَمَلًا بأَجَلٍ، فجاءَهُ الرَّجلُ يَتَقاضاهُ، فطَلَبوا له مِثْلَ جَمَلِهِ، فلم يَجِدوا إلَّا سِنًّا فَوقَ سِنِّهِ، فقالَ ﷺ: "أَعْطُوهُ، فإنَّ خَيْرَكم أَحْسَنُكم قَضاءً".

فقالَ: أوفيتَنِي، أوفى اللهُ لكَ. فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً" متفق عليه

أيّها المؤمنون.. من حكمةِ اللهِ تعالى في خلقِه أن شرعَ البيعَ والشراءَ لحاجةِ الناسِ بعضِهم إلى بعضٍ؛ إذ لا تستقيمُ حياةُ البشرِ إلا بهما، ليأخذَ كلٌّ حاجتَهُ بحقٍّ وعدلٍ، دونَ ذُلٍّ ولا ظلمٍ ولا اعتداءٍ.

والناسُ في معاملاتهم على ثلاثةِ أقسامٍ:

قِسْمٌ يَبيعُ بالعَدْلِ، لا يَزيدُ ولا يُنقِصُ، وهذا قد أَنْصَفَ، وأَخَذَ بالحَقِّ والواجِبِ.

وقِسْمٌ يَبيعُ بالظُّلْمِ والجَورِ، والغِشِّ والبَخْسِ والكَذِبِ والاحْتِيالِ، وهذا قد وَقَعَ في الظُّلْمِ، وأصابَ الحَرامَ.

وقسمٌ ثالثٌ يبيعُ بالإحسانِ والسماحةِ، وهذا خُلُقُ الأنبياءِ وهديُ الصالحينَ.

والمُسَامَحَةُ في البَيْعِ والشِّرَاءِ إِحْسَانٌ وفَضْلٌ؛ دَعا النَّبِيُّ ﷺ بالرَّحْمَةِ لِلمُتَسَامِحِينَ، ومَن ذا الذي لا يُرِيدُ رَحْمَةَ اللهِ أَنْ تُصِيبَهُ، ودَعْوَةَ النَّبِيِّ ﷺ أَنْ تَنَالَهُ؟
قالَ ﷺ: "رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرى، وإذا اقْتَضى" رواه البخاري.

ومِنْ حُسْنِ التَّعامُلِ في البَيْعِ وَالشِّراءِ: أَلَّا يَبْخَسَ الإِنسانُ النّاسَ أَشْياءَهُمْ، وَلا يُنقِصَها أَوْ يَعيبَها، وَلا يَذُمَّها لِيُزَهِّدَ فيها، أَوْ يُخادِعَ في قِيمَتِها، أَوْ يَحْتالَ في الكَيْلِ وَالمِيزانِ؛ فَذلِكَ كُلُّهُ مِنْ صُوَرِ الظُّلْمِ وَالتَّغْرِيرِ، وَمُنافٍ لِخُلُقِ العَدالَةِ وَالإِحْسانِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ.

فَإِنْ لَمْ يُحْسِنِ الإِنْسانُ الإِحْسانَ ويُسامِحْ، فَلْيَبْتَعِدْ عنِ الظُّلْمِ والجَوْرِ والتَّطْفِيفِ، فقد توعَّدَ سبحانهُ وتعالى الذين إِذا اشْتَرَوْا مِنَ النّاسِ يُوفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ويَزِيدُونَ، وإِذا باعُوا النّاسَ يُنقِصُونَ ويَبْخَسُونَ، كما قال تعالى: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ:

{وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

عبادَ اللهِ.. ومن صورِ الإحسانِ والمسامحةِ إمهالُ المدينِ غيرِ القادرِ على السدادِ، وتأجيلُ موعدِ السدادِ حتى تتحسَّنَ ظروفُه، ويتحصَّلَ له ما يقضي به، وأفضلُ من ذلكَ إسقاطُ الدينِ كاملًا أو جزءًا منه، كما أرشدنا الباري سبحانهُ بقولهِ: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

وقالَ رسولُ اللهِ ﷺ: "مَن سرَّهُ أن يُنجيَهُ اللهُ من كربِ يومِ القيامةِ، فلينفِّسْ عن مُعسِرٍ، أو يضعْ عنه" رواه مسلم

وفي الحديثِ أنَّه ﷺ قال: "كَانَ رَجُلٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا، فَلَقِيَ اللهَ فَتَجَاوَزَ عَنْهُ" متفقٌ عليه

وقال رسولُ اللهِ ﷺ: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ لَهُ، أظَلَّهُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَومَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ" رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.


 

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكرُ لهُ على تَوفيقِهِ وامْتِنانِهِ، وأَشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تَعظيمًا لِشأنِهِ، وأَشهدُ أنَّ محمّدًا عبدُهُ ورسولُهُ الدّاعي إلى رِضوانِهِ، صلّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليهِ، وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ، والتّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين.

يقولُ اللهُ تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ﴾.

إنَّ الذنوبَ والمعاصيَ من أعظمِ أسبابِ البلاءِ والغلاءِ، فالذنوبُ تُغلِقُ أبوابَ الرِّزقِ، وتَجلِبُ الشقاءَ، وتُزيلُ البركةَ من الأموالِ والأقواتِ.

وقد قالَ النبيُّ ﷺ: "يا معشرَ المهاجرين، خصالٌ خمسٌ إذا ابتُليتم بهنَّ –وأعوذُ باللهِ أن تُدرِكوهن–، وذكرَ منها: ولم يُنقِصوا المكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنينِ وشدَّةِ المؤنةِ وجورِ السلطانِ عليهم" رواه الحاكمُ والبيهقيُّ وصحَّحه الألبانيُّ.

ولقد طغى حُبُّ المالِ في قلوبِ بعضِ النّاسِ، فصاروا يطلُبونَهُ بأيِّ طريقٍ كان؛ حلالًا أو حرامًا، لا يبالونَ مِن أينَ اكتسبوه، ولا فيما أنفقوه! فإذا استولى حُبُّ المالِ على القلوبِ، غابتِ الرَّحمةُ، وضَعُفَ الوَرَعُ، واشتدَّ الغلاءُ، وضاعتِ البَرَكةُ.

والمُغالاةُ في أَسْعارِ المساكِنِ والمُنتَجاتِ التي يَحْتاجُ إِلَيْها الناسُ ويُضْطَرُّونَ إِلَيْها، جَشَعٌ وسُوءُ خُلُقٍ، ومَظْهَرٌ مِن مَظاهِرِ الأنانيةِ والطَّمَعِ، نَهى عنه النبيُّ ﷺ بقَوْلِه: "لا ضَرَرَ ولا ضِرارَ" رواه احمد وابن ماجه، لأنَّ في ذلك أَكْلًا لأموالِ الناسِ بالباطلِ، وإيذاءً لهم في معايشِهم، ومُنافاةً لِمَعاني الرَّحمةِ والتَّراحُمِ التي جاء بها الإسلامُ.

ومن الأسبابِ الظاهرةِ في الغلاءِ: ما يفعله بعضُ التُّجّارِ من احتكارٍ للسِّلعِ وإخفائِها انتظارًا لارتفاعِ أسعارِها، فيُشقّونَ على الناسِ، ويُضيّقونَ على الفقراءِ، وقد نهى النبيُّ ﷺ عن ذلك فقال: "لا يَحتكرُ إلا خاطئٌ" رواه مسلمٌ. أي: عاصٍ آثمٌ.

ومن سُبُلِ مُحارَبَةِ الغَلاءِ: الاستِغناءُ عنِ السِّلعةِ بغيرِها، وتَرْكُ المُحتكِرِ وهَجرُهُ، جاءَ الناسُ إلى عمرَ بنِ الخطّابِ رضيَ اللهُ عنه يَشكونَ غلاءَ اللحمِ، فقالوا: سَعِّرْهُ لنا، فقالَ: أرخصوه أنتم!، قالوا: وكيف نُرخصُه؟ قال: اتركوه لهم!، فدلَّهُم على أنَّ تركَ السلعةِ المرتفعةِ يُرخصُها.

إنَّ المسلمَ يُحبُّ لأخيهِ ما يُحبُّ لنفسِه، والتاجرُ المسلمُ يتحلّى بالرِّفقِ بالمسلمينَ والرَّحمةِ بهم، خرجَ النبيُّ ﷺ إلى المُصلّى فرأى الناسَ يتبايعون، فقال: "إنَّ التُّجّارَ يُبعثونَ يومَ القيامةِ فُجّارًا، إلّا منِ اتّقى اللهَ وبَرَّ وصَدَقَ" رواه الترمذيُّ وابنُ ماجه.

أيُّها المؤمنونَ، إنَّ المؤمنَ الحصيفَ المُشفِقَ على نفسِه، يسعى جاهدًا أن يلقى ربَّهُ بريءَ الذِّمّةِ، غيرَ مُتورِّطٍ بحقٍّ، ولا مَظلَمةٍ، ولا مالٍ، لأنَّهُ يُوقنُ أنَّ الحسابَ عظيمٌ، والموقفَ جليلٌ بينَ يدي ربِّ الأرضِ والسماءِ، {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الغَلاءِ، وَالوَبَاءِ، وَالرِّبَا، وَالزِّنَا، وَالزَّلَازِلِ، وَالْمِحَنِ، وَسُوءِ الفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ.

اللَّهُمَّ إِنّا أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا.

اللَّهُمَّ اكْفِنِا بِحَلالِكَ عَنْ حَرامِكَ، وَأَغْنِنا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ.

اللَّهُمَّ إِنّا أَسْأَلُكَ الهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.

المرفقات

1760092167_السماحة في البيع والشراء.docx

1760092174_السماحة في البيع والشراء - للجوال.pdf

المشاهدات 331 | التعليقات 0