السَّمَاحَةُ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ 1447هـ
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى أيُّهَا النَّاسُ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
عِبَادَ اللهِ: السَّمَاحَةُ عَمَلٌ جَلِيلٌ، وَخُلُقٌ كَرِيمٌ، اِتَّصَفَ بِهِ صَاحِبُ الخُلُقِ العَظِيمِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَجَاءَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ بِالحَثِّ عَلَيْهِ فِي التَّعَامُلِ بَيْنَ النَّاسِ.
وَاللهُ جَلَّ وَعَلَا يُحِبُّ مَنْ يَتَّصِفُ بِهَذَا الخُلُقِ؛ يُحِبُّ مَنْ طَبْعُهُ التَّيْسِيْرُ عَلَى النَّاسِ، وَاللِّيْنُ مَعَهُمْ، وَالعَفْوُ وَالصَّفْحُ وَالتَّنَازُلُ عَنْ حُظُوظِ نَفْسِهِ أَوْ بَعْضِهَا، لَا يَتَعَدَّى عَلَى حَقٍ لِغَيْرِهِ، وَلَا يُمَاطِلُ أَوْ يَتَوَانَى فِي حَقٍ عَلَيْهِ.
وَصَاحِبُ هَذَا الخُلُقِ مَحْبُوبٌ كَذَلِكَ لِلعِبَادِ مُحْتَرَمٌ بَيْنَهُمْ.
وَالضِّدُّ مِنْ ذَلِكَ: الْأَلَدُّ الخَصِمُ؛ يُبْغِضُهُ اللهُ تَعَالَى، وَيُبْغِضُهُ العِبَادُ، وَيُجَانِبُونَ مُعَامَلَتَهُ، يَعْتَدِي عَلَى حُقُوقِ غَيْرِهِ، وَيَجْحَدُ وَيُمَاطِلُ فِي أَدَاءِ مَا عَلَيهِ، وَإِنْ كَانَ الحَقُّ لَهُ لَمْ يُحْسِنْ فِي أَخْذِهِ، بَلْ كَانَ صَعبًا مُعَسِّرًا، لَا يَجِدُ مَنْ يُعَامِلُهُ فُرْجَةً وَلَا تَنْفِيسًا.
عِبَادَ اللهِ: وَلِلسَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ صُوَرٌ كَثِيْرَةٌ، وَأَبْوَابٌ عَدِيدَةٌ، وَحَدِيثُ اليَومِ عَنْ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاحَةِ، جَاءَ الحَثُّ عَلَيهِ، وَالدُّعَاءُ بِالرَّحْمَةِ لِلْمُتَّصِفِ بِهِ؛ فِي قَولِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى). [رَوَاهُ البُخَارِيُّ].
وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ سَمْحَ البَيْعِ سَمْحَ الشِّرَاءِ، سَمْحَ القَضَاءِ) [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الألْبَانِيُّ]
وَتَزْدَادُ أَهَمِّيَّةُ الحَدِيثِ عَنِ السَّمَاحَةِ فِي التَّعَامُلَاتِ المَالِيَّةِ عِنْدَمَا يَفْشُو فِي النَّاسِ الجَشَعُ، وَتَكْثُرُ بَيْنَهُمُ المُشَاحَّةُ، وَتَشْتَدُّ الخُصُومَاتُ في البَيْعِ وَالشِّرَاء، وَالقَضَاءِ وَالاقْتِضَاءِ وَالشَّرَاكَةِ، وَالإِيْجَارِ لِلْعَقَارَاتِ وَغَيْرِهَا.
عِبَادَ اللهِ: وَلِلسَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ فِي المُعَامَلَات المَالِيَّةِ: صُوَرٌ كَثِيرَةٌ.
وَمِنْهَا: إِنْظَارُ المُعْسِرِ وَإِمْهَالُهُ إِلَى أَنْ يَجِدَ سَدَادًا، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة 280 ]
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ…) [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]
وَمِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: إِسْقَاطُ الدَّينِ عَنِ المُعْسِرِ وَإِبْرَاءُ ذِمَّتِهِ، أَوْ إِسْقَاطُ بَعْضِ الدَّينِ؛ وَقَدْ جَاءَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيهِ أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ تَقَاضَى دَيْنًا لَهُ عَلَى ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ فِي المَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: (يا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ، يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ، قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ: قُمْ فَاقْضِهِ)
واجْتَمَعَ حُذَيْفَةُ وَأَبُو مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: (رَجُلٌ لَقِيَ رَبَّهُ فَقَالَ مَا عَمِلْتَ؟ قَالَ مَا عَمِلْتُ مِنْ الْخَيْرِ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ رَجُلًا ذَا مَالٍ، فَكُنْتُ أُطَالِبُ بِهِ النَّاسَ، فَكُنْتُ أَقْبَلُ الْمَيْسُورَ وَأَتَجَاوَزُ عَنْ الْمَعْسُورِ، فَقَالَ تَجَاوَزُوا عَنْ عَبْدِي) قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ هَكَذَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ. [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]
أَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا جَمِيعًا.
وَأَنْ يُبَارِكَ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ، وَيَنْفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيْمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ مِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: حُسْنُ التَّعَامُلِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ، وَالتَّسَامُحُ وَالتَّرَاضِي وَتَجَنُّبُ النِّزَاعِ، وَحُبُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مَعَ الصِّدْقِ وَالوُضُوحِ.
وَمِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ: الإِقَالَةُ.
بِأَنْ يَشْتَرِى شَخْصٌ شَيئًا ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى شِرَائِهِ، أَوْ يَبِيْعُ شَيْئًا ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَى بَيْعِهِ؛ أَوْ يَسْـتَأْجِرُ أَوْ يُؤَجِّرُ ثُمَّ يَنْدَمُ؛ فَيَطْلُبُ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ المُسَامَحَةَ وَفَسْخَ العَقْدِ؛ فَمِنَ الإِحْسَانِ وَالسَّمَاحَةِ أَنْ يَقْبَلَ الطَّرَفُ الآخَرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنَ الإِحْسَانِ وَلَيْسَ عَلَى سَبِيْلِ الإِلْزَامِ.
عِبَادَ اللهِ: وَمِنْ صُوَرِ السَّمَاحَةِ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ:
السَّمَاحَةُ فِي إِيجَارِ العَقَارَاتِ.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا البَابِ فِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَى السَّمَاحَةِ وَاليُسْرِ، فِي أَمَسِّ الحَاجَةِ إِلَى نَبْذِ الشُّحِّ وَالجَشَعِ الَّذِي أَلْحَقَ بِالمُسْتَأْجِرِينَ المَشَقَّةَ الشَّدِيدَةَ، وَالضَّرَرَ العَظِيمَ، وَالهُمُومَ الكَثِيرَةَ؛ فَهُمْ فِي هَمٍّ مِنْ مَصَارِيفِ الأُسْرَةِ، وَمِنْ فَوَاتِيرِ الكَهْرَبَاءِ وَغَيْرِهَا؛ وَفِي هَمٍّ مِنَ الإِيجَارِ الَّذِي أَرْهَقَهُمْ، وَالَّذِي يُزَادُ مِنْ أَصْحَابِ العَقَارِ عَلَيهِمْ؛ فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعُوا، وَإِمَّا أَنْ يُخْلُوا السَّكَنَ وَيَخْرُجُوا.
أَلاَ فَاتَّقُوا اللهَ - رَحِمَكُمُ اللهُ - فِي إِخْوَانِكُمْ.
تَرَاحَمُوا بَيْنَكُمْ، اُرْفُقُوا بِالفُقَرَاءِ، وَأَشْفِقُوا عَلَى المُحْتَاجِينَ. يَسِّرُوا عَلَى مُعْسِرِ، وَنَفِّسُوا عَلَى مَكْرُوبٍ وَفَرِّجُوا عَنْهُ؛ وَأَبْشِرُوا بِالعَطَاءِ الجَزِيلِ مِنَ الكَرِيمِ جَلَّ وَعَلَا؛ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ...)
لنُجَاهِدَ أَنْفُسَنَا - وَفَّقَكُمُ اللهُ - عَلَى السَّمَاحَةِ فِي أُمُورِنَا كُلِّهَا، وَلْنُحِبَّ لإِخْوَانِنَا مَا نُحِبُّ لأُنْفُسِنَا.
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ - عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، اللَّهُمَّ خُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتجدون هذه الخطبة وغيرها على قناة التليجرام (احرص على ما ينفعك)
https://t.me/benefits11111/2895
المرفقات
1759912013_السَّمَاحَةُ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ 1447.pdf
1759913449_السَّمَاحَةُ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ 1447.pdf
1759913460_السَّمَاحَةُ فِي المُعَامَلَاتِ المَالِيَّةِ 1447.doc