السياسة الشرعية في نهج النبي ﷺ
د مراد باخريصة
السياسة الشرعية في نهج النبي ﷺ
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد…
أيّها المسلمون: إن من أعظم ما تحتاجه الأمة اليوم -في زمن الاضطراب والتشويش، وزمن كثرة المتحدثين بغير علم، وزمن الفتن السياسية والفكرية-أن ترجع إلى النبي ﷺ، لا في عبادته فقط، ولا في أخلاقه فقط، بل أيضًا في سياسته الشرعية، أي في طريقته في إدارة أمور الأمة، وتنظيم شؤونها، ورعاية مصالحها، ودفع المفاسد عنها، وإقامة العدل بينها.
لقد قدّم لنا النبي ﷺ نموذجًا فريدًا يجمع بين الهداية الربانية والحكمة البشرية، نموذجًا يجعل القائد رحيمًا لكن قويًّا، حكيمًا لكنه حاسم، مربيًا للقلوب وصانعًا للدول، إمامًا في المسجد وقائدًا في الميدان، حاكمًا يحقق المصالح، ومشرّعًا ينظم العلاقات، ومصلحًا يحفظ الأمن والاستقرار.
إن النبي ﷺ لم يكن منزوعًا من الواقع، ولا معتزلًا عنه، بل كان — كما قال العلماء — يمارس مختلف الأدوار: فهو بشر له خصوصياته، وهو أب وزوج، وهو داعية ومُعلِّم، وهو مفتي، وهو قاضٍ، وهو إمام وحاكم.
وبحسب هذه الوظائف تتنوع أفعاله ﷺ؛ فمنها ما هو تشريع عام لكل الأمة، ومنها ما هو إدارة وسياسة بحسب المصلحة، ومنها ما هو تصرف بشري لا يُقصد به التشريع.
وهنا — أيها المؤمنون — تكمن الحاجة الماسّة لفهم السياسة الشرعية، لا تلك التي تقوم على الأهواء، ولا التي تستورد من الشرق أو الغرب، بل التي تقوم على فقه المصالح والمفاسد، وفقه المآلات، وفقه الواقع، واستحضار روح الشريعة في كل موقف.
إن من أعظم ما يلفت النظر أن النبي ﷺ كان يوازن بين النص والمصلحة؛ فيلتزم النص عندما يكون ثابتًا واضحًا، ويتصرف بالمصلحة عندما يكون الباب مفتوحًا للاجتهاد.
فحينما يبعث ﷺ الأمراء والسرايا، أو يضع المعاهدات، أو يقيم العقوبات التعزيرية، أو يخاطب القبائل، أو يعقد التحالفات، أو يختار مكان المعركة، أو يقبل المشورة… كان يفعل ذلك باعتباره إمامًا مسؤولًا عن الأمة، لا باعتباره مجرد مبلّغ للوحي، فالقول شيء، والإدارة شيء، والسياسة الشرعية شيء ثالث يجمع بينهما.
وقد علّمنا ﷺ أن الحاكم الصالح هو الذي يرعى مصالح الناس، ويحفظ أمنهم، ويحكم بالعدل، ويستمع للمشورة، ويقف عند حدود الله، ويبتعد عن الظلم والهوى.
لقد تجلت السياسة الشرعية في مواقف عديدة، منها: صلح الحديبية فقد كان ظاهر الاتفاق فيه الظلم للمسلمين، حتى قال عمر: "ألسنا على الحق؟". ولكن النبي ﷺ رأى ما لم يره غيره؛ رأى مآلات الأمور، وأن المصلحة الكبرى في السلم المؤقت، فكان الصلح بداية لفتح مكة، وهكذا السياسة الشرعية: تُقَيِّم العواقب، لا الظواهر.
وكذلك موقفه ﷺ في توزيع الغنائم فقد يخصُّ أقوامًا بالنصيب الأكبر ليثبِّت قلوبهم، كما فعل مع المؤلفة قلوبهم يوم حنين، بينما يحرم منه من هم على درجة أعلى من الإيمان، لأن القلوب تختلف، والمصلحة تختلف.
وفي غزوة بدر، وفي أحد، وفي الخندق… كان يقبل المشورة، وهذا من السياسة الشرعية؛ فالقائد لا يستأثر بالرأي، ولا يستبد به، مهما كانت مكانته.
إن السياسة الشرعية ليست عنفًا… ولا ضعفًا فبعض الناس — للأسف — يظن أن السياسة الشرعية هي الشدة دائمًا، وبعضهم يظن أنها اللين دائمًا. والحقيقة أن النبي ﷺ كان شديدًا حيث يجب، ولطيفًا حيث يجب، حليمًا مع التائب، حازمًا مع المعتدي، رحيمًا بالناس، صارمًا في الحدود، لينًا في المعاملات، قويًا في الحق، متواضعًا في غير ذلك، هذه هي السياسة الشرعية وهي: وضعُ الشيء في موضعه.
وكم نحتاج اليوم -في زمن الشعارات والاندفاعات -أن نستعيد هذه الروح النبوية المتوازنة، فواقعنا اليوم مليء بالأزمات، اضطرابات سياسية، وصراعات حزبية، واستقطابات إعلامية، وظلم، وفساد، وجهل، وفوضى، وغياب للعدل، ودول تسقط ودول تنهار بسبب سوء التدبير وما هذا إلا لغياب السياسة الشرعية التي تقوم على: تحقيق المصالح العامة لا مصالح الأفراد، ولا المصالح الحزبية، وتقديم الأمن والاستقرار، فلا دين بلا أمن، ولا مجتمع بلا استقرار.
وكذلك احترام القيادات العادلة، ونصحها بالحكمة لا بثقافة الهدم والتمرد والتشويه، ونشر العدل، ومحاربة الفساد، وإقامة الحقوق، هذه ليست شعارات، بل هي واجبات شرعية.
فالشورى، والمشاركة، وسماع الرأي الآخر، والابتعاد عن الفتن السياسية التي تستهلك الأمة التي قال عنها ﷺ: «إنها ستكونُ فتَنٌ، القاعدُ فيها خيرٌ من القائمِ، والقائمُ فيها خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من السَّاعي…».
وفي عالم اليوم -الذي يُدار بالمكر والسياسة والاقتصاد والإعلام -لا بد أن نستلهم نموذج النبي ﷺ، فالمؤمن لا ينخدع، ولا يكون أداة في يد أحد، ولا يتبع كل صائح، بل يكون واعيًا، بصيرًا، يزن الأمور بميزان الشرع والعقل.
فيا عباد الله، إن السياسة الشرعية ليست محصورة في الحكام فقط، بل هي منهج في البيت، والمدرسة، والعمل والمجتمع، والعلاقات، والقرارات اليومية
فالأب حين يعدل بين أولاده يمارس سياسة شرعية، والمعلم حين ينصف طلابه يمارس سياسة شرعية، والتاجر حين لا يغش يمارس سياسة شرعية، والمسؤول حين يحفظ الأمانة يمارس سياسة شرعية، وكل من ولي أمرًا من أمور الناس فحكمه حكم الإمام فيهم…
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58].
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أيها المسلمون، إن الأمة لا تنهض بالشعارات، ولا بالصراخ، ولا بالاندفاعات، بل تنهض عندما تضع السياسة الشرعية منهجًا لها، سياسة تقوم على العلم، والحكمة، والنزاهة، والرحمة، والمصلحة، والعدل، والقوة في الحق، والشورى الصادقة.
إن النبي ﷺ أقام دولة عظيمة بدأت من غار صغير، لكنها بُنيت على قيادة راشدة، ورؤية واضحة، وتوازن بين القوة والرحمة، وبين النص والاجتهاد، وبين الثبات والمرونة.
وهنا رسالة إلى كل مسلم اليوم: كن رزينًا في زمن الفتن، ولا تكن أداةً في يد الإعلام، ولا تُسهم في إشعال أي فوضى أو فتنة، ولا تتكلم فيما لا علم لك به، ولا تُدخل نفسك في صراعات مقيتة بلا حاجة، واحفظ لسانك، واحفظ قلبك، واحفظ أمتك، واعرف الحق بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلَموا — رحمكم الله — أن أعظم مقياس للسياسة الشرعية هو قول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ فالسياسة الشرعية رحمةٌ لا فوضى، عدلٌ لا ظلم، هدايةٌ لا ضياع.
اللهم ارزقنا فقه نبيك ﷺ، وحكمته، ورحمته، وعدله.
اللهم ادفع عنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.