الشائعات (موافقة للتعميم + مشكولة)

صالح عبد الرحمن
1447/01/14 - 2025/07/09 10:07AM

خطبة عن الشائعات (موافقة للتعميم + مشكولة) 16-1-1447 هــ

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، نحمده -سبحانه- تقدَّس ذاتًا وصفاتٍ وجَمالًا، وعزَّ عظمةً وعلُوًّا وجَلالًا.

لكَ الحمدُ حمدًا طيِّبًا ومباركًا *** لكَ الحمدُ مولانا عليكَ المعوَّلُ

لكَ الحمدُ أعلى الحمدِ والشكرِ والثنا *** أعزُّ وأزكى ما يكونُ وأفضلُ

وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعل العاقبة للمتقين، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله، خير من عظم الله أقوالًا وفعَّالًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقب الليل والنهار، وسلَّم تسليمًا مباركًا إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إن رمتُم من التمكين والعِز والنصر ازدلافًا، فعليكم بتقوى الله قولًا وعملًا واعترافًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

أيها المسلمون: عَقْلٌ راجِحٌ وقَلْبٌ تَقِي، ولِسانٌ صادِقٌ وفُؤَادٌ نَقِي، حافِظٌ لِجوارِحِهِ، مُمْسِكٌ للسانِه.. لا يَمْشِيْ بالنَّمِيْمَةِ والغيبة، ولا يَطْعَنُ في الأَعراض. ولا يَفْحَشُ في القَولِ، ولا يَسْتَهِيْنُ بالحُرُمات.

ما تَخَلَّقَ بِها امْرُؤٌ إِلا عَلا. وما اسْتَمْسَكَ بِها مُسْتَمْسِكٌ إِلا شَرُف. 

مُسْتَمسِكٌ بِقِيَمِه.. لَهُ من مَعِيْنِ الوَحِيِ أَكْرَمَ مَوْرِدٍ، ولَهُ مِنْ مَنْهَلِ السُّنَةِ خَيْرَ ارْتِواءَ.   مُتَخَلِّقٌ بأَخلاقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم مُتَّبِعٌ لأَمْرِه، مُهْتَدٍ بِشَرِيْعَتِهِ مُنْتَهٍ عَن نَهْيِه.  فالقَوْلُ ما قَالَ الرَّسُولُ، والشَّرِيْعَةُ ما شَرَع.

قَالَ أَبُو مُوسَى رضي الله عنه: قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ أَيُّ المُسْلِمِيْنَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُوْنُ مِن لِسانِهِ وَيَدِهِ». متفق عليه

حِفظُ اللِّسانِ وصِيانَةُ المَنْطِق.. رَزَانَةٌ وعَقْلٌ ودِيانَة.  وما نَدِمَ نادِمٌ على أَمْرٍ اقْتَرَفَه.. مِثْلُ نَدَمِ مَنْ أَطْلَقَ للسانِهِ ولِقَلَمِهِ ولِبَنانِهِ العِنَان. يَتَفَوَّهُ بِلِسانِهِ لا يَتَبَيَّن. ويَكْتُبُ بِقَلَمِهِ وبِبَنانِهِ لا يَتَوَرَّع.  وفي الحَدِيْثِ: (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ) رواه البخاري ومسلم.

وفي عَثْرَةٍ من العَثَراتِ المُهْلِكَة.. التي يَتَجَاسَرُ عليها كَثِيْرٌ مِن النَّاسِ غيبةٌ ونميمة، توغر الصدور، وتشحن النفوس، وتذهب الألفة والمودة، وتزرع الضغينة بين المسلمين، وهي كبيرة من كبائر الذنوب (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) وقال سبحانه (ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) وفي الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرج به، مر على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت ما هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) وفي حديث حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(لا يدخل الجنة نمام).

وفي عَثْرَةٍ من العَثَراتِ المُهْلِكَة.. التي يَتَجَاسَرُ عليها كَثِيْرٌ مِن النَّاسِ ولا يَتَبَيَّنُونَ فِيها.  الخَوْضُ في الشَّائِعاتِ والاسٍتِهانَةُ بِها.  تَجاسُرٌ على إِشاعَةِ كُلِّ ما يُقْرأَ، وإِذاعَةِ كُلِّ ما يُسْمَع، ونَشْرِ كُلِّ ما يُقال.. دُونَ تَحَقُّقٍ ولا تَثَبُّتٍ ولا تَمْحِيْص. وفي الحدِيْثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كفى بالمرءِ كذباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِع» رواه مسلم.

لَغْوٌ وغَوْلٌ وخَوْضٌ مَع الخَائِضِيْن.. لا يَنْحَطُّ إِلى وَحَلِهِ.. إِلا مَنْ لَمْ يَنْهَضْ بِهِ عَقْلٌ، ولَمْ يَرْتَقِ بِهِ دِيْن. وفي القُرآنِ.. تحذيرٌ لكل من يطلق لسانه بلا روية {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}.

شَائِعاتٌ.. تُتَلَقَّى بِالأَلْسُنِ، وتُمَرِرُ بالرَّسائِلِ وبِوَسائِلِ التَواصُلِ وبالأَقلام. فَتَرُوجُ الشَّائِعَةُ في النَّاسِ وتَنْتَشِر. وتُذاعُ فيهم وتسَرِي.

تَنْبَثِقُ الشَّائِعَةُ مِنْ فَردٍ أَو مِنْ فِئَةٍ أَو مِنْ مُنَظَّمَة.. لِتُرَوِّجَ لِفِكْرَةٍ مَقْصُودَةٍ، أَو مَعْلُومَةٍ مَغْلُوطَةٍ أَو خَبَرٍ مَكذوب.  لِيُحَقِّقَ صاحِبَها مَطْلَباً خَفِياً، يُمْضِيْ فيهِ مَشْرُوعَه.

ومُرَوِّجُو الشَّائِعاتِ ونُقَّالُها.. سُعاةُ إِثْمٍ. وحَمَّالُو وِشَايَة. يَنْقُلُونَ مِنَ الأَخْبَارِ مَا لا يَثْبُتْ، ويُشِيْعُونَ مِنَ الحدِيْثِ ما لا يصِحّ، ويَنْشُرُونَ مِنَ الأُمورِ ما لا يُحْمَد. فَمَا وَقَعَ البَصَرُ مِنْهُم على خَبَرٍ إِلا أَذاعُوه. وما سَمِعَتْ آذانُهُمْ بِفِرْيَةٍ إِلا أَرْسَلُوها.

لا يَكُفُّوْنَ ولا يَتَرَيَّثُون، ولا يَتَثَبَّتُونَ ولا يتَبَيَّنُون.  فَكَمْ تَزاحَمَ أَقْوامٌ على نَقْلِ شَائِعَةٍ وَتَسَارَعُوا.. فَلَمَّا تَجَلَّتْ شَمسُ الحقِيْقَةِ وشَعْشَعَ ضِياؤُها. أَدْرَكوا أَنَّهُم حَمَلُوا إِثْماً وقالُوا زُوْراً، وأَشاعُوا فِرْيَةً ونَشَروا فُجُوراً.  فَأَحْرَقَ لَهِيْبُ النَّدَمِ قُلُوبَهُم.  وأَنَّى للنَدَمِ بَعْدَ فَواتِ الأَوانِ أَنْ يُغْنِي عَنِ المُفْتَرِي شَيئاً. وكَفى بالقُرآنِ مُرَبِياً لِمَنْ عَقَل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}

وحِيْنَ يَكُونُ للمرءِ نَفْسٌ تَوَّاقَةُ للخَوْضِ في كُلِّ ما يُنْشَرُ، وفي نَقْلِ كُلِّ ما يُقال.. فَقَدْ سَلَكَتْ بِه طَرِيْقاً يَكرَهُهُ اللهُ.

عَنِ المُغِيْرةِ بنِ شُعبةَ رضي الله عنه قالَ سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُول: (إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قيلَ وَقالَ، وإضَاعَةَ المَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ) متفق عليه.

قَالَ بنُ كَثِيْرٍ رحمه الله: (قيلَ وَقالَ، أَيْ: الذي يُكْثِرُ مِنَ الحَدِيْثِ عَمَّا يَقُوْلُ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّت، وَلا تَدَبُّرٍ، ولا تَبَيُّن).

{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} لا تَقُلْ ما لَيْسَ لَك بهِ عِلْم. لا تَنْقُلْ مِن الأَخبارِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ علم، لا تُشِعْ مِن الأُمورِ والتُّهَمِ ما ليْسَ لَكَ بِه عِلْم. بَلْ كُنْ وَقَّافاً، مُحْجِماً عَن الخوضِ خَوَّفاً.  لا تَظُنَّنَّ أَنَّ الأَمْرَ هَزْلٌ. {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.

بارك الله لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:


الحمدُ للهِ، جَلَّ اللهُ في علاه، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وحده لا شريك له، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمداً عبده ورسوله، صلى اللهُ وسلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وسلم تسليماً كثيرا.

أَمَّا بَعْدُ: أيها المسلمون: ما زالَ الإِسْلامُ يَحِمِيْ حِمَى الأَمَةِ ويَحْفَظُ جَنابَها. مَا زَالَ يَسْتأَصِلُ بُذُورِ الفُرْقَةِ والشَّحْناءِ والشَّتات. ويَنْتَزِعُ أَسْبابَ الانْحِرافِ والاضْطِرابِ والخَراب. 

ولَمَّا كانَتْ الشَّائِعَةُ المُغْرِضَةُ مِنْ أَخْطَرِ القَواصِم.. كانَ التَحْذِيْرُ مِنْ تَناقُلِها من أَوجَبِ الواجِبات.  وكانَ التَنْفِيْرُ من الإِصْغاءِ إِليها من أَبْلَغِ التَحْذِيْرات. 

وَالمُؤْمِنُ.. لَهُ ورَعٌ يَحْمِيْهِ مِنْ قَولِ الباطِلِ وَمِنْ سَماعِه.  فَلا يَقُولُ إِلا بِعْلْمٍ، ولا يَقْبَلُ الخَبَرَ إِلا بِبَيِّنَة ومن مصادره الموثوقة الرسمية {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ}

وأَخْطَرُ الشَّائِعاتِ.. ما كانَ فِرْيةً يُفْتَرَى بِها عَلى مُسْلِم.  وأَعَظَمُ الشَّائِعاتِ.. ما كانَ عَلى مُسْتَضْعَفٍ.. لا يَملك قُدْرَةً يَدْفَعُ بِها عَن نَفسِه.  وأَهْلكُ الشَّائِعاتِ.. مَا كانَ لأَجْلِ الصَّدِّ عَنْ سَبِيْل اللهِ، ولأَجْلِ التَنفِيْرِ مِمَّنْ يُبَلِّغُونَ شَرِيْعَةَ اللهِ، ولأَجْلِ التَشْوِيْهِ على من ينشرون التَوْحيْدِ والسنة.

وكما تَنْخِرُ الشَّائِعَةُ في سَوارِي الأُمَةِ فَتَكْسِرُ مَتانَتَها، فإِنَّها تَفْتِكُ بالقَرابَةِ والصَداقَةِ والعائِلَةِ والمدينةِ والحيّ.  تَشِيْعُ الشَّائِعَةُ فيهم فَتَعْمَلُ عَمَلَها.. فُرْقَةٌ، أَو عداوةٌ، أَو إرجافٌ، أَو تَشْوِيْهٌ، أَو إِفْساد.

وعلى قَدْرِ ضَرَرِ الشَّائِعَةِ يَعظُمُ وِزْرُها..

ومما يجدر التذكير به، وقد ذكرنا به في خطبٍ سابقةٍ ولا زلنا نذكر به لعظيمِ خطره، مَنْ لا يَتَوَرَّعُ عَنْ إِرسالِ المقاطِعِ المحرَّمَةِ.. ونَشْرِ الرَّسائِلِ المخلةِ عبر وسائل التواصل الاجتماعي بِما فيها من مُنْكَراتٍ مَسْموعَةٍ أَو مُشاهدَةٍ أَو مَقْرُوءَة.

يُرسِلُها.. فَيَتَناقَلُها مَنْ بَعدَه. فَتَشِيْعُ في النَّاسِ.. فَيَتحملُ وزرها من أنشأها ومن نشرها ومن أعاد توجيهها، من الأَوزارِ مثل أَوزارهم.

ويا خيبة الأمل أن يوضع الإنسان في قبر، وتبقى سيئاتُه تجري إلى يوم القيامة، نعوذ بالله من ذلك.

اللهم احفظ علينا ديننا..

 

 

المشاهدات 173 | التعليقات 0