الشتاء ربيع المؤمن

عبدالرحمن سليمان المصري
1447/07/05 - 2025/12/25 19:12PM

الشتاء ربيع المؤمن

الخطبة الأولى

 الحمد لله رب العالمين ، جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين والحساب ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا ، أما بعد:  أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى فهي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى ﴿ ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله ﴾

عباد الله: إن من آيات الله الكونية التي تشهد بربوبيته، وتدل على عظمته وألوهيته ، أن صرف الليل والنهار ، وقلب الفصول والأعوام ؛ لما في ذلك من مصالح عظيمة ، وحكم كبيرة، إذ لو كان الزمان كله فصلا واحدا ؛ لفاتت على الخلق مصالح الفصول الباقية ، ولحرموا منافع التفاوت والاختلاف فيها ، وإن التفكر في ذلك ؛ يزيد من الإيمان ، ويجعل العبد مذعنا للواحد الديان ، قال تعالى : ﴿ يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ النور : 44 . 

عباد الله:   إن من حكمة الله أن جعل في الدنيا ما يذكر بالآخرة ، ليتقي العباد أسباب الهلاك ، ويأخذوا بأسباب السلامة والنجاة ،  وإن شدة البرد الذي نجده في بعض الأوقات ؛ نفس من أنفاس النار والعياذ بالله ، قال صلى الله عليه وسلم :" اشتكت النار إلى ربها، فقالت: رب أكل بعضي بعضا، فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف، فأشد ما تجدون في الحر ، وأشد ما تجدون من الزمهرير" رواه البخاري.

عباد الله: لقد كان السلف الصالح يفرحون بدخول الشتاء ، إذ يجدونه معينا لهم على طاعة ربهم، ففيه من المزايا ما ليس في غيره ،  قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : الشتاء ربيع المؤمن طال ليله فقامه ، وقصر نهاره فصامه .أ.هـ. ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : الشتاء غنيمة العابدين أ.هـ. ،  ومن هذه الغنائم :

مضاعفة الأجور بإسباغ الوضوء للصلاة ، قال صلى الله عليه وسلم :" ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره،- أي بإتمام الوضوء مع وجود المشقة لشدة البرد - وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط " رواه مسلم .

ومن غنائم الشتاء : مضاعفة الأجور بالمحافظة على الصلوات جماعة في المساجد ، وكلما زادت المشقة في أداء العبادة كشدة البرد ؛ زاد الأجر - لكن دون أن يتعمد المسلم إيقاع المشقة على نفسه - فليبشر بالخير الكثير ، والثواب العظيم، للمحافظين على الصلاة في المساجد ، فالصلاة محك الأحوال ، وميزان الإيمان، بها يوزن إيمان الرجل، ويتحقق حاله ومقامه، ومقدار قربه من الله ، قال صلى الله عليه وسلم :" ‌بشر ‌المشائين ‌في ‌الظلم إلى المساجد ، بالنور التام يوم القيامة" رواه أبوداود.

عباد الله: ومن مزايا فصل الشتاء ؛ أن نهاره قصير بارد ، مما يعين على صيامه من غير مشقة ، قال صلى الله عليه وسلم: " الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة" رواه أحمد بسند حسن. أي أنها غنيمة حصلت بغير تعب ولا مشقة.

وكان عبيد بن عمير الليثي رحمه الله: وهو من التابعين ، إذا جاء الشتاء يقول: يا أهل القرآن، طال ليلكم فقوموا، وقصر نهاركم فصوموا .أ. هـ.

عباد الله : ومن ميادين العبادات في الشتاء قيام الليل ، وكان السلف يفرحون بقدوم الشتاء لاغتنام لياليه بالقيام ، فليالي الشتاء طويلة ، بحيث يمكن للمؤمن التهجد بعد أخذ حظه من النوم ، قال ابن مسعود رضي الله عنه  : مرحبا بالشتاء ، تنزل فيه البركة ، ويطول فيه الليل للقيام ، ويقصر فيه النهار للصيام .أ.هـ.

ولما نزل الموت بمعاذ بن جبل رضي الله عنه  بكى ، فقيل له ما يبكيك؟ قال: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر .أ.هـ

﴿ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون * فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ﴾

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.        

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ، وسلم تسليما كثيرا  ،       أما بعد :

عباد الله: فضل الله تعالى بعض الأزمنة على بعض ، ومما عظمه الله تعالى الأشهر الحرم ، وهي أربعة ؛ ثلاثة سرد وواحد فرد ، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب شهر مضر الذي بين جمادى وشعبان  ، قال تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير ﴾ البقرة : 216.  ، قال ابن عباس رضي الله عنهم ا   : جعلهن حراما ، وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم .أ. هـ ، الطبري

عباد الله : وليس هناك أي عمل صالح يخص شهر رجب على الخصوص ، بل هو مثل سائر أشهر السنة ، قال ابن حجر رحمه الله : لم يرد في فضل شهر رجب ولا في صيامه ، ولا في صيام شيء منه معين ، ولا في قيام ليلة مخصوصة فيه ،  حديث صحيح يصلح للحجة .أ. هـ .  

عباد الله: وتعظيم شهر رجب يكون بأداء الواجبات ، والمحافظة على نوافل العبادات ، والاشتغال بقراءة القرآن ، وذكر الله تعالى على كل الأحوال ، مع خدمة الوالدين ، وصلة الرحم ، والإحسان إلى الناس بالقول والفعل ، فطوبى لمن شغلوا أوقاتهم بالطاعات، وعمروا أيامهم بالقربات، يجدونها أعظم ما تكون أجرا وثوابا ، عند رب الأرض والسماوات ، ﴿يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد  ﴾آل عمران:30.

ثم الحذر من المعاصي والآثام ،  ومن البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان ، ومن التشبه بالكفار من أهل الكتاب ، كالاحتفاء بأعيادهم والمشي في ركابهم ، فالذنوب تطفئ نور الإيمان في قلب المؤمن ، وتنزله من منزلة المقربين الأبرار .

عباد الله: تزودوا ليوم القرار، فالأيام تمضي والأعمار في انحسار، واعلموا أنكم عن دنياكم راحلون، ولدورها وقصورها مغادرون ، وعن ملذاتها وشهواتها مسؤولون محاسبون ، وعن كل صغيرة وكبيرة مؤاخذون ؛ قال تعالى:﴿ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ﴾ .

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال تعالى: ﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما﴾

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين .

 

المرفقات

1766679086_الشتاء ربيع المؤمن خطبة2.docx

1766679086_الشتاء ربيع المؤمن خطبة2.pdf

المشاهدات 194 | التعليقات 0