الصلاة على الأموات

عبدالله بن محمد حفني
1446/07/21 - 2025/01/21 08:48AM

( ٱلْخُطْبَةُ ٱلأُولَى )
إِنَّ اَلْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيئَاتِ أعْمَالنَا، مَنْ يَهْدِهِ اَللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اَللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ آل عمران: ١٠٢
" الصَّلَاةُ عَلَى الأَمْوَاتِ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ " عِبَارَةٌ لَا تُخْطِئُ الآذَانَ.
"الصَّلَاةُ عَلَى الأَمْوَاتِ" هِيَ العِبَارَةُ المُتَكَرِّرَةُ؛ فَكُلَّمَا غَدَوْنَا إِلَى بَيْتِ اللَّهِ العَتِيقِ، فِي الغَدَاةِ وَفِي العَشِيِّ، لَامَسَتْ آذَانَنَا هَذِهِ العِبَارَةُ: "الصَّلَاةُ عَلَى الأَمْوَاتِ يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ" فَنَحْنُ أَمْوَاتٌ، أَبْنَاءُ أَمْوَاتٍ، آبَاءُ أَمْوَاتٍ، فَمَا نَحْنُ إِلَّا كَفُرُوعٍ لِجُذُورٍ ذَهَبَتْ وَمَاتَتْ، وَلَا حَيَاةَ لِفَرْعٍ مَاتَ جِذْرُهُ وَأَصْلُهُ.
المَوْتُ هُوَ الدَّاءُ الَّذِي لَا شِفَاءَ لَهُ.
المَوْتُ هُوَ اليَقِينُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ؛ فَسَمَّى اللَّهُ المَوْتَ يَقِينًا، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ الحجر: ٩٩
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، أَيُّهَا الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، تَأَمَّلُوا فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ۝12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ۝13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ۝14 ﴾ المؤمنون: ١٢ - ١٤
ثُمَّ مَاذَا بَعْدَ هَذِهِ الأَطْوَارِ مِنَ الخَلْقِ؟
مَاذَا بَعْدَ التُّرَابِ، وَالنُّطْفَةِ، وَالعَلَقَةِ، وَالمُضْغَةِ، وَالعِظَامِ، وَاللَّحْمِ؟
مَاذَا بَعْدَ الخَلْقِ، وَالإِيجَادِ، وَالطُّفُولَةِ، وَالشَّبَابِ، وَالكُهُولَةِ، وَالشَّيْخُوخَةِ؟
﴿ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ مَشْهَدٌ عَظِيمٌ مُؤَكَّدٌ بِــ"إِنَّ" وَبِاللَّامِ
﴿ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ اللَّهُ أَكْبَرُ.. اللَّهُ يُحَدِّثُنَا عَنْ أَطْوَارِ الخَلْقِ وَالإِيجَادِ، وَفِي غَمْضَةِ عَيْنٍ، وَلَمْحَةِ بَصَرٍ، يَنْتَقِلُ الحَدِيثُ عَنِ المَوْتِ وَنِهَايَةِ الحَيَاةِ، هَكَذَا، بِلَا مُقَدِّمَاتٍ
﴿ ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ ﴾ إِنَّنِي أُذَكِّرُ نَفْسِي وَإِخْوَانِي بِآيَةِ المَوْتِ العَجِيبَةِ، وَأَجِدُ فِي نَفْسِي رَهْبَةً وَخَوْفًا.
لَقَدْ وَقَفْتُ عَلَى هَذَا المِنْبَرِ قَرَابَةَ ثَلَاثِينَ عَامًا، فَلَمْ أَجِدْ حَدِيثًا تَخْشَاهُ النَّاسُ كَالحَدِيثِ عَنِ المَوْتِ؛ فَالجَمِيعُ يَسْتَسْلِمُ لِلْمَوْتِ، كُلُّنَا فِي لَحْظَةِ المَوْتِ تُطْوَى حَيَاتُنَا، وَيَنْتَهِي كُلُّ شَيْءٍ، فَلَا يَذْكُرُ العَبْدُ عِنْدَهَا إِلَّا مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ.
يَا كِرَامُ ..
إِنَّ هَيْبَةَ المَوْتِ عَظِيمَةٌ، وَمُصَابَ المَوْتِ أَلِيمٌ؛ فَالعُظَمَاءُ، وَالأُمَرَاءُ، وَالأَطِبَّاءُ، وَالأَقْوِيَاءُ، وَالضُّعَفَاءُ، لَا يَخْشَوْنَ أَمْرًا أَعْظَمَ مِنَ المَوْتِ.
وَهَذِهِ الدَّارُ لَا تُبْقِي عَلَى أَحَدٍ *** وَلَا يَدُومُ عَلَى حَالٍ لَهَا شَانُ
أَيْنَ المُلُوكُ ذَوُو التِّيجَانِ مِنْ يَمَنٍ *** وَأَيْنَ مِنْهُمْ أَكَالِيلٌ وَتِيجَانُ
وَأَيْنَ مَا شَادَهُ شَدَّادُ فِي إِرَمٍ *** وَأَيْنَ مَا سَاسَهُ فِي الفُرْسِ سَاسَانُ
وَأَيْنَ مَا حَازَهُ قَارُونُ مِنْ ذَهَبٍ *** وَأَيْنَ عَادٌ وَشَدَّادٌ وَقَحْطَانُ
أَتَى عَلَى الكُلِّ أَمْرٌ لَا مَرَدَّ لَهُ *** حَتَّى قَضَوْا فَكَأَنَّ القَوْمَ مَا كَانُوا
يَا كِرَامُ.. كَمْ خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الخَلْقِ؟
كَمْ أَوْجَدَ مِنَ البَشَرِ عَلَى هَذِهِ البَسِيطَةِ؟
كَمْ عَرَفْنَا مِنَ العُظَمَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ؟
كَمْ مِنَ الشِّيبِ وَالشَّبَابِ كَانُوا مَعَنَا ؟
وَاللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، أَيْنَ ذَهَبُوا؟ كَيْفَ ذَهَبُوا؟
فِي لَمْحَةِ بَصَرٍ، وَغَمْضَةِ عَيْنٍ، زَالُوا عَنْ دَارِ الزَّوَالِ وَالفَنَاءِ.
تَنَامُ وَلَمْ تَنَمْ عَنْكَ المَنَايَا *** تَنَبَّهْ لِلْمَنِيَّةِ يَا نُؤُومُ
جَاءَ جِبْرِيلُ - عليه السلام - إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ فِي مَوْعِظَةٍ بَلِيغَةٍ عَظِيمَةٍ: «يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ» رواه الطبراني في "الأوسط"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (627)
وَاللَّهِ إِنَّ لِلْعُمُرِ أَيَّامًا، وَإِنَّ لِلْحَيَاةِ نِهَايَةً، وَلَا نَدْرِي وَاللَّهِ مَتَى يَنْقَضِي العُمُرُ وَمَتَى تَبْلُغُ الحَيَاةُ نِهَايَتَهَا؟ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ۖ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ﴾ لقمان: ٣٤
لَكِنَّ الجَمِيعَ يَعْلَمُ أَنَّنَا قَرِيبًا سَنَعِيشُ أَعْظَمَ لَحْظَةٍ فِي حَيَاتِنَا، إِي وَاللَّهِ قَرِيبًا سَنَعِيشُ أَصْدَقَ لَحْظَةٍ فِي حَيَاتِنَا، قَرِيبًا نَعِيشُ لَحْظَةً لَمْ نَعِشْهَا مِنْ قَبْلُ، لَحْظَةً لَا مَنَاصَ مِنْهَا، لَحْظَةً لَا كَذِبَ فِيهَا وَلَا مُجَامَلَاتٍ.
قَرِيبًا نَعِيشُ لَحْظَةَ الفِرَاقِ وَالوَدَاعِ، لَحْظَةً يَذْهَبُ فِيهَا طَعْمُ الحَيَاةِ وَالمَلَذَّاتِ وَيَنْظُرُ المَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ، فَوَلِيدُ اليَوْمِ فَقِيدُ الغَدِ.
فَالمَوْتُ لَيْسَ لَهُ سِنٌّ مَعْلُومٌ، وَلَا زَمَنٌ مَعْلُومٌ، وَلَا مَرَضٌ مَعْلُومٌ، زَمَنُ المَوْتِ هُوَ الأَجَلُ المَعْلُومُ عِندَ اللهِ، الأَجَلُ الَّذِي غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنَّا ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ الأعراف: ٣٤
﴿أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ۝205 ثُمَّ جَاءَهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ ۝206 مَا أَغْنَىٰ عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ۝207 ﴾ الشعراء: ٢٠٥ – ٢٠٧
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا..

(الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ)
الحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ:
كَانَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ يُنَادِي كُلَّ لَيْلَةٍ: "الرَّحِيلُ، الرَّحِيلُ" فَلَمَّا تُوُفِّيَ فَقَدَ صَوْتَهُ أَمِيرُ الْمَدِينَةِ، فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ مَاتَ، فَقَالَ:
مَا زَالَ يَلْهَجُ بِالرَّحِيلِ وَذِكْرِهِ *** حَتَّى أَناخَ بِبَابِهِ الجَمَّالُ
فَأَصَابَهُ مُتَيَّقِظًا مُتَشَمِّرًا *** ذَا أُهْبَةٍ لَمْ تُلْهِهِ الآمَالُ
﴿ فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ الواقعة: ٨٣ اللَّهُ أَكْبَرُ .. هُنَا انْتَهَى العُمْرُ، هُنَا ذَهَبَتِ الحَيَاةُ ، هُنَا نُغَادِرُ البُيُوتَ، نُغَادِرُ المَسَاجِدَ، نُغَادِرُ اللَّهْوَ وَاللَّعِبَ.
﴿ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ سَأَتْرُكُ هَذَا المِنْبَرَ، وَالْبَيْتَ، وَالْأُسْرَةَ، وَالأَبْنَاءَ، وَالْخِلَّانَ.
﴿ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ انْتَهَتْ فُرْصَتُنَا فِي الحَيَاةِ.
﴿ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ ذَهَبَتْ فُرْصَةُ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ وَصَالِحِ الأَعْمَالِ.
﴿ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ انْتَهَتْ أَيَّامُ حَيَاتِنَا وَضَرَبَاتُ أَنْفَاسِنَا.
﴿ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ ﴾ تَرَكْنَا الْأَهْلَ وَالْمَالَ، وَالْمَوَاعِيدَ وَالْأَعْمَالَ.
يَا اللَّهُ.. كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَتُوبَ، أُرِيدُ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا، أُرِيدُ أَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ، وَأَطْلُبَ الْعِلْمَ، وَأُجَالسَ العُلَمَاءَ، هَلْ ذَهَبَتِ الفُرْصَةُ؟
هَلْ انْتَهَتْ أَيَّامُ حَيَاتِي؟
هَلْ اِنْقَطَعَتْ أَعْمَالِي؟
هَلْ ذَهَبَتْ أَمَانِيَّ وَأَحْلَامِي؟
هَلْ حَانَ الرَّحِيلُ إِلَى المَقَابِرِ؟
قَالَ بِلَالُ بْنُ سَعِيدٍ - رحمه الله - : يُقَالُ لِأَحَدِنا تُرِيدُ أَنْ تَمُوتَ؟ فَيَقُولُ: لَا، فُيُقَالُ لَهُ: لِمَ؟ فَيَقُولُ: حَتَّى أَتُوبَ وَأَعْمَلَ صَالِحًا، فُيُقَالُ لَهُ: اعْمَلْ، فَيَقُولُ: "سَوْفَ أَعْمَلُ، فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ وَلَا يُحِبُّ أَنْ يَعْمَلَ " .
اللَّهُمَّ ارْحَمْ فِي الدُّنْيَا غُرْبَتَنَا، وَارْحَمْ فِي الْقَبْرِ وَحْشَتَنَا، وَارْحَمْ مَوْقِفَنَا غَدًا بَيْنَ يَدَيْكَ .
اللَّهُمَّ اخْتِمْ لَنَا بِخَيْرٍ، وَاجْعَلْ عَوَاقِبَ أُمُورِنَا إِلَى خَيْرٍ، وَتَوَفَّنَا وَأَنْتَ رَاضٍ عَنَّا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَآمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا وَدُورِنَا.
رَبَّنَا آتِنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ.

المرفقات

1737438523_28- الصلاة على الأموات.docx

1737438523_28- الصلاة على الأموات.pdf

المشاهدات 241 | التعليقات 0