العدل.. ميزان الكون وسر السلام

الشيخ محمد الوجيه
1447/03/19 - 2025/09/11 13:47PM

 

الخطبة الأولى

الحمد لله رب العالمين، القائل في كتابه الكريم: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 22-23].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العدل في حكمه، القائل: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110].

وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، نبي الرحمة والسلام والعدل، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد:

فيا أيها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.

لقد قامت السماوات والأرض على أساسٍ عظيم، هو أساس العدل. فما خُلق شيء إلا بالحق، وما استقام نظام إلا بالقسط. إن العدل ليس مجرد قانون يُكتب، بل هو الميزان الذي به تستقيم أمورنا، وتستقر مجتمعاتنا، وتتحقق أسمى غاياتنا، وهي السلام. فليس السلام مجرد غياب للصراع، بل هو حالة وجودية من الأمن، والرخاء، والوئام، لا تُبنى إلا على دعائم العدل الراسخة.

إن الله سبحانه وتعالى قد جعل العدل أمرًا إلهيًا، لا يقتصر على الحكام والقضاة، بل يشمل كل فرد في حياته. تأملوا معي قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]. هذه الآية الكريمة، جعلت العدل أمرًا عامًا، يشمل كل من كان له ولاية أو مسؤولية.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أمرنا الله بالعدل حتى مع من نُبغضهم ونُعَاديهم، فقال عز وجل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]. إنها آيةٌ تُجفف منابع الحقد في القلوب، وتُرسخ مبدأ أن الحق فوق العواطف والأحقاد. فإذا غاب العدل، حلَّ الظلم، والظلم هو الشرارة التي توقد نار الصراع والفساد.

أيها المسلمون، إن الله جل جلاله هو السلام، كما وصف نفسه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ}. هذا الاسم العظيم يحمل معاني عميقة، فهو سبحانه وتعالى الذي سلم من كل عيب ونقص، وهو الذي يُسلِّم عباده من الآفات، وهو الذي يهب السلام والأمان في قلوبهم وفي حياتهم. فإذا كان الله هو السلام، فإن طريق السلام يبدأ منه وإليه، ولا يمكن أن يتحقق إلا باتباع أوامره، وعلى رأسها إقامة العدل. فالسلام الحقيقي ليس مجرد هدنة مؤقتة، بل هو حالة دائمة من الأمن والأمان، لا يمكن أن يمنحها إلا من اسمه السلام. فكيف نطلب السلام من غير الله، ونحن لا نتبع أوامره، ولا نقيم ميزانه في الأرض؟ إن السلام الذي ينشده العالم، هو سلام يقوم على العدل الذي أمر به الله.

إن العدل هو طريقنا نحو السلام والأمان، فكل مجتمع يغيب فيه العدل، لا يمكن أن ينعم بسلام حقيقي. فالظلم، وإن كان على المدى القصير قد يحقق مكاسب، إلا أنه على المدى الطويل يؤدي إلى خراب الدنيا.

أيها المسلمون، إن مبدأ العدل ضرورة حتمية لتحقيق السلام العالمي. فما نراه اليوم من صراعات وحروب بين الأمم، هو في جوهره نتاجٌ للظلم وغياب العدالة. فكم من حق سُلِب، وكم من ثروة نُهِبت، وكم من مظلوم أُخضع، باسم القوة والمصالح. إن العدل العالمي هو الميزان الذي يضبط العلاقات بين الشعوب، ويمنع الحروب، ويحقق الازدهار للجميع. فلو قامت العلاقات بين الأمم على العدل، وزالت مظاهر الظلم كا يدعو الإسلام، لعمَّ السلام والأمان، ولتوقفت عجلة الحروب التي تنهك البشرية. إن العالم لن ينعم بسلام مستدام، ما لم يسد فيه العدل، ويزول فيه الظلم.

أسأل الله أن يرزقنا العدل في القول والعمل، وأن يجعلنا من المقسطين الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المصطفى، وآله وصحبه ومن اتبع الهدى، أما بعد:

فيا أيها المسلمون، إن العدل ليس فقط ميزانًا للقضاء، بل هو خُلقٌ يسري في شرايين المجتمع. لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بالعدل في أدق التفاصيل، فقال: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم". إن الأسرة التي لا يسودها العدل، لا يمكن أن تكون مصدرًا للسلام في المجتمع.

أيها المؤمنون، إن العلاقة بين العدل والسلام هي علاقة سبب ونتيجة. فالعدل يمنع الظلم، والظلم هو أساس كل صراع. الظلم يولد الكراهية، والكراهية تولد العنف، والعنف يورث الدمار. بينما العدل يرسخ الثقة، والثقة تولد التعاون، والتعاون يورث الرخاء والسلام.

إن الله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالعدل، وجعله من أسمائه الحسنى، فهو العدل. وهذا يعني أن الكون كله قائم على أساسه. فالظلم ليس له وجود أصيل في هذا الكون، بل هو انحراف عن الفطرة السوية، ووضع للشيء في غير موضعه.

وفي الختام، فإن تحقيق السلام في الأرض يبدأ من سلامة القلب. فالسلام الحقيقي لا يتحقق إلا بتطبيق أوامر الله، ومن أهمها إقامة العدل.

فلنحرص على أن نكون من أهل العدل في كل أمورنا، في بيوتنا، وفي معاملاتنا، وفي أقوالنا، حتى ننعم بالأمن والسلامة.

اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.

اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، الذين يطبقون العدل في كل أمورهم، واجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

المشاهدات 228 | التعليقات 0