العدل والإنصاف مع المخالف 11/11/1446
أحمد بن ناصر الطيار
الحمد لله الْمُتَفَرِّدِ بالتَّوحيد, والْمُنْفَرِدِ بالتَّمْجيد, الذي لا تَبْلُغُه صفات العبيد, المبدئُ الْمُعيدُ الفَعَّالُ لما يريد, خلق الأشياء بقدرته, ودَبَّرها بمشيئته, وقَهَرها بجبروته, وذَلَّلَها بعزَّته, فَذَلَّ لِعَظَمته المتكبرون, واسْتكان لِعِزِّ ربوبيته الْمُتعاظمون.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, إقرارًا بِوِحدانيته, وإخلاصًا لربوبيته, وأنه العالمُ بما تُكِنُّه الضمائر, وتنطوي عليه السرائر, لا تَتَوارى عنه كلمة, ولا تَغِيْبُ عنه غائبة, وما تسقط من ورقة إلا يعلمها, ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه, ونَبِيُّهُ وأَمِيْنُه وصَفِيُّه, أرسله إلى خلقه بالنور الساطع, والسراج اللامع, فبلَّغ رسالةَ ربه, ونصَحَ لأمتِه وجاهدَ في الله حق جهاده, فصلوات الله عليه من قائدٍ إلى الحقّ المبين, وعلى أهلِ بَيْتِه الطيبين, وعلى أصحابِه الْمُنْتَخَبِيْن, وعلى أزواجِه أُمَّهاتِ المؤمنين, وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم عباد الله بتقوى الله, واحْذروا الدُّنْيا فإنها حُلْوةٌ خضرة, تَغُرُّ أهلَها, وتخدع سُكَّانها, فلْتكن الدارُ الآخرةُ هي الهمَّ الأكبر, والنصيبَ الأوفر.
معاشر المسلمين: فإنّ العدل والإنصاف مع من يُخالفنا من المسلمين، والثناء عليه بما فيه من الخير، مع عدم المداهنة والمجاملة في بيان الحقّ بعدل ورفق ورحمة من أعظم سمات الصادق المخلص سليمِ القلب, الباحث عن الحق.
قال ابن القيم رحمه الله: "فمن هداه الله سبحانه إلى الأخذ بالحق حيث كان, ومع من كان، ولو كان مع من يُبغضه ويعاديه، وردَّ الباطل مع من كان, ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى اللهُ لما اختُلف فيه من الحق". [الصواعق المرسلة 2/ 516]
ولما دلَّ الشيطان أبا هريرة رضي الله عنه إلى آية الكرسي؛ لتكون له حرزاً من الشيطان، وذلك مقابل فكِّه من الأسر، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((صدقك وهو كذوب)). رواه البخاري
فليس هناك أكذب من الشيطان, ومع ذلك, قبل منه النبيُّ صلى الله عليه وسلم كلامه هذا, وأخبر أنه صادقٌ فيه.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قاعدة عظيمة، جاء تقريرها والتأكيد عليها في الكتاب والسنة، وعمِل بها سلف الأمة من الصحابة وتابعيهم بإحسان، وهي أنه: "لا يجوز أن يُتَكلَّم في أحد إلا بعلم وعدل".
ومعنى بعلم: أي بعلم بالشرع، وعلم بحال ومقال من يتكلّم فيه.
ومعنى بعدل: أي: بإنصاف، بحيث يذكرُ ما فيه من الخير والمحاسنِ إن وُجدت، ولا يُهدرها بسبب خطأ وقع فيه.
وقلّ من تكلّم في غيره بعلم وعدل، والسلامة لا يعدلها شيء، فمن سكت وسلم خيرٌ ممن تكلّم وأثم.
إخوة الإيمان: إنّ شيوع الإنصاف بين المسلمين لهو من أعظم أسباب صفاء قلوبهم على بعض, ومودة بعضهم لبعض، وله أثر عظيم في تقاربهم وترابطهم وتعاضدهم، وإذا اختل الإنصاف اختلفت القلوب واختلّت المودّة، ودبّ الخلاف, ونشأت الفُرقة, وتفاقم فيهم وباء التفرّق، وامتلأت القلوب بالغل والحقد والحسد والغيرة المذمومة، وقد صدق المتنبي حين قال:
ولم تَزَلْ قلَّةُ الإنْصافِ قاطِعةً ... بيْنَ الرِّجالِ ولَوْ كانُوا ذَوي رحمِ
وإنّ من أعظم أسباب قلة الإنصاف: غلبةَ حظوظ النفس, وهذا يؤدّي إلى الانتصارِ لها أعظم من الانتصارِ للحق، وهذه مصيبةٌ عظيمة, وعقوبةٌ على مَن غلّب حظوظ نفسه.
وهناك أربعةُ أمراض تحرّض على الانتصار للنفس، وهي الحقد، والكبر، وحبّ العلو، والحسد، فمن تلوّث بها أو ببعضها انتصر لنفسه ولابدّ، ومن طهّر قلبه منها لوجه الله أعانه على الانتصار للحق.
المرض الأول: الحقد، وامْتلاء قلب المسلم بالغلّ والحقد على أخيه المسلم من أخطر الأمراض وأفتكها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غلّ لخيار المؤمنين".
المرض الثاني: الكبر، قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
المرض الثالث: حبّ العلوّ، وهو مرضٌ خطير، يجعل قلب صاحبه مليئًا بالحسد وحبّ الدنيا والرياسة، فيبذل لأجل المنصب شرفه ودينه، ويجحد الحق ويُبغض من جاء به إذا لم يكن على هواه، أو نازعه منصبه وجاهه.
المرض الرابع: الحسد, وهو داءٌ عضالٌ يصعب شفاؤه, والْمُبتلى به لا يُمكن إرضاؤه, والخيرُ كلُّ الخير في فراقه.
وحسد الإنسان لمن فُضّل عليه بعلم, أو مال, أو جاهٍ, أو منصب: من أبشع الطباع, وأبغض الصفات, وهو خلق إبليس, وهو الذي كان السبب في سعْي إخوة يوسف في التخلص منه.
نسأل الله أن نلقاه ولم نظلم أحدًا من عباده بقول أو فعل، إنه سميع قريب مجيب.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: معاشر المؤمنين: إنّ هذه الأمراض الخطيرة, متى حلّت كلّها أو بعضها في قلْبٍ أفْسده، وسرَى الفسادُ إلى الجوارح، وأعظمها فسادًا اللسان، فترى صاحبه بذيء الكلام, طعّانًا, مغتابًا، يهمزُ ويحتقر ويُسقط من يُبغضه أو يُخالفه, فلا يلتمس للمجتهد عذرًا, ولا يعرف للكبير قدرًا.
ومن لا يَرحم لا يُرحم, ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر.
ولا غَرْو إنْ كان مَن أُصيب بهذه الأمراض أو بعضها من أهل العلم وحملته أنْ تُنزَع منه بركة العلم وثمراته وآثاره, قال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}.
فلا يُنْعِم الله عليه بلذّة العبادة, ولا يُقِرّ عينه بحلاوة الطاعة, ولا يهَبُه الله دقّة الاسْتنباط، وحدّة الفَهم، ونور الحكمة، والبرَكة والقبول، ولو كان كثير العلم والمطالعة, ولا يكون له قبولٌ ولا تأثير.
اللهم طهر قلوبنا من الغل والحقد والحسد والكبر وسوء الظن, واجعلنا هداة مهتدين، إنك على كل شيء قدير.
عباد الله: أكثروا من الصلاة والسلام على نبي الهدى, وإمام الورى, فقد أمركم بذلك جل وعلا فقال: (إن الله وملائكته يصلون على النبي.. يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما).
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, وعنا معهم بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, وخُصَّ منهم الحاضرين والحاضرات, اللهم فرِّج همومهم, واقض ديونهم, وأنزل عليهم رحمتك ورضوانك يا رب العالمين.
عباد الله: إنَّ اللَّه يأْمُرُ بالْعدْل والْإحْسانِ وإيتاءِ ذي الْقُرْبى ويَنْهى عن الْفحْشاءِ والمنْكرِ والبغْيِ يعِظُكُم لَعلَّكُم تذكَّرُون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
المرفقات
1746686622_العدل والإنصاف مع المخالف.pdf