العشر والتكبير

أحمد بن علي الغامدي
1446/11/24 - 2025/05/22 17:24PM

إِنَّ الْـحَمْدَ لِلَّـهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللـهِ مِنْ شُرُورِ أنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللـهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللـهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ  صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً

أمَّا بَعْدُ، فَاِعْلَمُوا – عباد الله- أَنَّ فِي أَيَّامِ اللهِ مَوَاسِمَ عَظِيمَةً، تُضَاعَفُ فِيهَا الْحَسَنَاتُ، وَتُكَفَّرُ فِيهَا السَّيِّئَاتُ، وَتُفْتَحُ فِيهَا أَبْوَابُ الْخَيْرَاتِ ، وَمِنْ أَعْظَمِ هَذِهِ الْمَوَاسِمِ: عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، فَقَدْ جَمَعَ اللهُ تَعَالَى فِيهَا مِنَ الْفَضَائِلِ مَا تَفَرَّقَ فِي غَيْرِهَا، وَنَوَّعَ فِيهَا مِنَ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ.

فَيَنْبَغِي لَنَا عِبَادَ اللهِ أَنْ نَغْتَنِمَ هَذِهِ الْأَيَّامَ الْمُبَارَكَةَ، فَنُخَصَّصَهَا بِمَزِيدٍ مِنَ الْعِنَايَةِ وَالْجِدِّ، وَنُجَاهِدَ أَنْفُسَنَا فِيهَا عَلَى الِاسْتِكْثَارِ مِنَ الطَّاعَاتِ بِأَنْوَاعِهَا ،فإنّ مِنْ أَعْظَمِ الْخِذْلَانِ، وَأَشَدِّ الْخُسْرَانِ؛ التَّكَاسُلَ عَنِ عمل الخيرات فِي الْمَوَاسِمِ الْفَاضِلَةِ. ولذلك فَإِنَّ الْكَيِّسَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَسْتَنْفِرُ نَفْسَهُ لَهَا، وَيَجِدُّ وَيَجْتَهِدُ فِيهَا، وَيَكُونُ لَدَيْهِ خُطَّةٌ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي سَيُنْجِزُهَا، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ وَقْتُهُ كُلُّهُ طَاعَةً؛ لِيَظْفَرَ بِفَضِيلَةِ الزَّمَانِ ،  قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ . وعند الإمام أحمد: «فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، وَالتَّكْبِيرِ، وَالتَّحْمِيدِ».

أَتَدْرِي مَا مَعْنَى الْحَدِيثِ – عَبْدَ اللهِ – ؟ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمُجَاهِدَ لَوْ خَرَجَ بِمَالِهِ فَقَطْ، أَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ فَقَطْ، أَوْ خَرَجَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ رَجَعَ بِأَحَدِهِمَا؛ فَإِنَّ الَّذِي يَعْمَلُ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ فِي بَيْتِهِ،  أَوْ يَتَعَبَّدُ اللهَ فِي مَسْجِدِهِ؛ يَكُونُ أَجْرُهُ أَعْظَمَ مِنْ أَجْرِ مَنْ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ وَرُوحَهُ كُلَّ يَوْمٍ لِأَنْ تُبْذَلَ وَتُزْهَقَ فِي سَبِيلِ اللهِ! وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ – رَحِمَهُ اللهُ – : "وَالتَّحْقِيقُ أَنْ يُقَالَ: مَجْمُوعُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ مِنْ مَجْمُوعِ عَشْرِ رَمَضَانَ، وَإِنْ كَانَ فِي عَشْرِ رَمَضَانَ لَيْلَةٌ [يَعْنِي: لَيْلَةَ الْقَدْرِ] لَا يُفَضِّلُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا". وَهَذَا الْقَوْلُ: هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي رَجَّحَهُ الشَّيْخُ ابْنُ عُثَيْمِين – رَحِمَهُ اللهُ –

عباد الله:مِنْ أعظم أنواعِ الذكرِ وأجلِّها في هذه الأيام الفاضلة: تكبيرُ الله تعالى.(اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ وَللهِ الحَمْدُ)، فالله تعالى أكبرُ من كل شيء في ذاتِه وفي أسمائِه وفي صفاتِه وفي أفعالِه ، وفي كلِ ما تحتملُه هذه الكلمةُ من معنى. وإنّ مما يدلُ على عِظَمِ منزلةِ التكبيرِ عندَ الله تعالى : أنّه جلَّ جلالُه: قَرَنَه بأمَّهَاتِ العِباداتِ الكبرى /، فَالصَّلَاةُ يُنَادَى لَهَا بِالتَّكْبِيرِ؛ وَتُقَامُ بِالتَّكْبِيرِ، وَتُفْتَتَحُ بِالتَّكْبِيرِ، وَيَنْتَقِلُ المُسْلِمُ بَيْنَ أَرْكَانِهَا بِالتَّكْبِيرِ.  فهذه الكلمةُ ( الله أكبر ) أكثرُ ما يقولُه المسلمُ ويسمَعُه ، فإنّ المسلمَ يكررُها في الصلواتِ الخمسِ أكثرَ من تسعين مرةً يوميا، فضلاً عن النوافل ، ويسمعُها في الأذان والإقامة خمسين مرةً يوميا. ويرددُها بعد أدبارِ الصلوات كثيرا.فهُوَ سُبْحَانَهُ أَكْبَرُ وَأَجَلُّ مِمَّا يَشْتَغِلُ بِهِ المُسْلِمُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَهْمَا كَانَت، فَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ كُلَّ شُغُلٍ، وَيُقْبِلَ في صلاته ودوما عَلَى الكَبِيرِ المُتَعَالِ.

عباد الله :وَفي الحَجِّ شُرِعَ التَّكْبِيرُ فِي مَوَاضِعَ عِدَّةٍ: عندَ بدءِ كلِ شوطٍ من أشواطِ الطَّوَافِ، وعلى الصَّفَا وَعَلَى المَرْوَةِ وعند رَمْيِ الجِمَارِ، وَعِنْدَ نحرِ وذَبْحِ الهديِّ، قال جل وعلا:  (كذلك سَخَّرَهَا[ أي: الأنعام] لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ).وقد قال أنسُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه واصفا حالَ الصحابةِ رضي الله عنهم في أيام الحج(( مِنَّا المُلبِي وَمِنَّا المُكَبِّرُ)).

عباد الله : وَالجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى ذِرْوَةُ سَنَامِ الإِسْلَامِ، وَهُوَ من أَفْضَلِ الأَعْمَالِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، وقد شُرِعَ فِيهِ التكَّبِيرُ ،لَا سِيَّمَا عِنْدَ مُلَاقَاةِ العَدُوِّ، وَلَهُ تَأْثِيرٌ عَجِيبٌ فِي ثَبَاتِ القُلُوبِ وَقُوَّتِهَا وَجَسَارَتِهَا، وَلَهُ تَأْثِيرٌ أَعْجَبُ فِي زَعْزَعَةِ الأَعْدَاءِ،وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَدِينَةٍ تُفْتَتَحُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ بِلَا قِتَالٍ، وَإِنَّمَا بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ؛ رواه الإمامُ مسْلِمٌ في الصحيح

 عباد الله : ولِجَلالِ التكبير :شُرِعَ لنا أنْ نقولَهَ –أيضا- عِنْدَ رُكُوبِ الدَّابةِ وعندَ النوم ، وعندَ رؤيةِ الأهلّة ، وفي غيرِ ذلك من الأحوال . وَلَوْ قِيلَ: إِنَّ أَكْثَرَ جُمْلَةٍ يُرَدِّدُهَا المُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا هِيَ التَّكْبِيرُ لَمَا كَانَ ذَلِكَ بَعِيدًا.

 عباد الله : بارك الله لي...

 

الحَمدُ للهِ أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تَسْلِيماً .

أما بعد: فياعَبْدَ اللهِ، سَابِقْ فِي هَذِهِ الْعَشْرِ بِكُلِّ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ؛

فَاحْرِصْ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْجَمَاعَةِ، وَاجْتَهِدْ فِي صِيَامِ تِسْعِ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنْهَا؛ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ.

وَاجْعَلْ لَكَ وِرْدًا جَلِيلًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَزِدْ فِي بِرِّ وَالِدَيْكَ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَفِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْجِيرَانِ وَالضُّعَفَاءِ، وَاحْرِصْ عَلَى صَلَاةِ الضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَأَكْثِرْ مِنَ الدُّعَاءِ لِنَفْسِكَ وَأَهْلِكَ وَبَلَدِكَ وَللْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَافْعَلْ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَمَا تَدْرِي أَيُّ عَمَلٍ مِنْ تِلْكَ الْأَعْمَالِ يَجْعَلُكَ مِمَّنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ!

ثُمَّ اعْلَمُوا ـ عِبَادَ اللهِ ـ أَنَّ هَذِهِ الْعَشْرَ، قَلِيلَةُ الْعَدَدِ، كَثِيرَةُ الْبَرَكَةِ، لَا مَثِيلَ لَهَا فِي الْعَامِ.

وَلِتَكُونَ مِنَ الْفَائِزِينَ فِيهَا: فَأَنْتَ مُحْتَاجٌ إِلَى تَوْفِيقٍ مِنَ اللهِ، تَسْتَجْلِبُهُ بِالِانْطِرَاحِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِلْحَاحِ فِي سُؤَالِهِ الْعَوْنَ وَالْمَدَدَ، أَنْ يُعِينَكَ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ.

فَاللَّهُمَّ أَعِنَّا وَأَهْلِينَـا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.

 

المشاهدات 238 | التعليقات 0