العِــــــــــــــــزَّةُ
يوسف العوض
الْخُطْبَةُ الْأُولَى
الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَعَزَّ أَوْلِيَاءَهُ بِالْإِيمَانِ، وَأَذَلَّ أَعْدَاءَهُ بِالْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهُ عَلَى نِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَحَلَّ الْعِزَّةَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَنَزَعَهَا عَنِ الْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَعَزَّهُ رَبُّهُ وَنَصَرَهُ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا، صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَدَى بِسُنَّتِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: العِزَّةُ فِي الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ كِبْرًا وَلَا غُرُورًا، وَلَيْسَتْ تَجَبُّرًا عَلَى الْخَلْقِ، بَلْ هِيَ شُعُورٌ نَبِيلٌ يَسْكُنُ قَلْبَ الْمُؤْمِنِ، فَيَرْفَعُهُ عَنْ ذُلِّ الْمَعَاصِي، وَيُبْعِدُهُ عَنْ خُضُوعِ الْبَاطِلِ، وَيُثَبِّتُهُ عَلَى الْحَقِّ وَلَوْ خَالَفَهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ.
قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَٰكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ، فَالْعِزَّةُ عَطَاءٌ إِلٰهِيٌّ لِمَنْ ثَبَتَ عَلَى دِينِهِ، وَتَحَلَّى بِطَاعَةِ رَبِّهِ، وَصَدَقَ فِي إِيمَانِهِ ، لَا تُكْتَسَبُ بِالْمَالِ، وَلَا تُشْتَرَى بِالْجَاهِ، وَلَا تُنَالُ بِالْقُوَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، بَلْ تُنَالُ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَالِاسْتِمْسَاكِ بِدِينِهِ ، كَمْ مِنْ نَاسٍ ظَنُّوا أَنَّ الْعِزَّةَ فِي الْمَالِ وَالْمَنْصِبِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا!
قَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:«إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَمَهْمَا ابْتَغَيْنَا الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ».
إِذًا، الْعِزَّةُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَقِيمًا عَلَى دِينِكَ، وَأَنْ تَرْفُضَ كُلَّ مَا يُنَاقِضُ قِيَمَكَ وَعَقِيدَتَكَ، وَأَنْ تَقُولَ الْحَقَّ وَلَوْ كَانَ مُرًّا.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :«لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ».
قِيلَ: وَكَيْفَ يُذِلُّ نَفْسَهُ؟
قَالَ: «يَتَعَرَّضُ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ».
فَالْمُؤْمِنُ عَزِيزٌ بِرَبِّهِ، غَنِيٌّ بِإِيمَانِهِ، وَقَوِيٌّ بِتَوَكُّلِهِ عَلَى اللَّهِ ، إِذَا أَصَابَتْهُ الْمِحَنُ صَبَرَ، وَإِذَا أُعْطِيَ شَكَرَ، وَإِذَا ظُلِمَ عَفَا، فَتَكُونُ الْعِزَّةُ لَهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ مِنْ مَظَاهِرِ الْعِزَّةِ أَنْ يَرْفَعَ الْمُسْلِمُ رَأْسَهُ بِدِينِهِ، وَأَنْ يَفْخَرَ بِانْتِمَائِهِ لِلْإِسْلَامِ، وَلَا يَسْتَحِيَ مِنْ شَعَائِرِهِ، وَلَا يُجَامِلَ فِي دِينِهِ ، قَدْ يَسْتَهْزِئُ بِكَ أَقْوَامٌ لِتَدَيُّنِكَ، أَوْ يَسْخَرُوا مِنْ حِجَابِكِ أَيَّتُهَا الْمُسْلِمَةُ، وَلٰكِنْ تَذَكَّرُوا قَوْلَ رَبِّكُمْ:﴿فَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ، العِزَّةُ أَنْ تَتَرَفَّعَ عَنْ الْحَرَامِ، وَأَنْ تَسْتَغْنِيَ بِالْحَلَالِ، وَأَنْ تَكُونَ عَزِيزَ النَّفْسِ لَا تَسْأَلُ إِلَّا اللَّهَ قَالَ ﷺ: «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَا تَحَقَّقَتِ الْعِزَّةُ فِي الْقُلُوبِ، رَفَعَ اللَّهُ بِهَا الْأُمَمَ، وَنَصَرَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ، وَزَالَتْ عَنْهُمُ الذِّلَّةُ وَالْمَهَانَةُ ، أَمَّا إِذَا ضَاعَتِ الْعِزَّةُ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْوَهْنُ، وَتَتَفَرَّقُ الْكَلِمَةُ، وَتَضِيعُ الْكَرَامَةُ.
فَاسْتَمْسِكُوا -عِبَادَ اللَّهِ- بِحَبْلِ دِينِكُمْ، وَاعْتَزُّوا بِرَبِّكُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْعِزَّةَ كُلَّهَا لِلَّهِ، وَأَنَّهَا تُنَالُ بِالطَّاعَةِ، وَتُفْقَدُ بِالْمَعْصِيَةِ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَة
الحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلٰهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اعْلَمُوا أَنَّ الْعِزَّةَ وَالرِّفْعَةَ مِنَ الْمَنَحِ الْإِلٰهِيَّةِ الَّتِي يُعْطِيهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطَاعَهُ، وَيَنْزِعُهَا مِمَّنْ عَصَاهُ ، قَالَ تَعَالَى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ .
وَلَوْ نَظَرْنَا فِي سِيرَةِ النَّبِيِّ ﷺ لَوَجَدْنَا أَنَّهُ كَانَ أَعَزَّ النَّاسِ نَفْسًا وَأَكْمَلَهُمْ تَوَاضُعًا، مَا ذَلَّ لِبَاطِلٍ، وَلَا خَافَ مِنْ عَدُوٍّ، وَلَا سَاوَمَ عَلَى دِينِهِ، فَأَعَزَّهُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ وَرَفَعَ ذِكْرَهُ فِي السَّمَاءِ.
لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ دَعْوَةَ النَّبِيِّ ﷺ تَزْدَادُ وَأَنَّ أَتْبَاعَهُ يَكْثُرُونَ، جَاءُوا إِلَى عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالُوا:
يَا أَبَا طَالِبٍ، إِنَّ ابْنَ أَخِيكَ قَدْ سَبَّ آلِهَتَنَا، وَسَفَّهَ أَحْلَامَنَا، وَضَلَّلَ آبَاءَنَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُفَّهُ عَنَّا، وَإِمَّا أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ.
فَكَلَّمَ أَبُو طَالِبٍ النَّبِيَّ ﷺ، فَظَنَّ النَّبِيُّ أَنَّ عَمَّهُ سَيَتَخَلَّى عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ ﷺ:
وَاللَّهِ يَا عَمِّ، لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ دُونَهُ.
ثُمَّ بَكَى ﷺ، وَقَامَ.
فَنَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ وَقَالَ:
اِذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي، فَقُلْ مَا أَحْبَبْتَ، فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُكَ لِشَيْءٍ أَبَدًا.
فَتَأَسَّوْا -رَحِمَكُمُ اللَّهُ- بِنَبِيِّكُمْ، وَكُونُوا عِزَّةً لِهَذَا الدِّينِ، لَا عِبْئًا عَلَيْهِ، وَلَا سَبَبًا لِذُلِّهِ، وَتَذَكَّرُوا أَنَّ الْعِزَّةَ تَكْمُنُ فِي الثَّبَاتِ وَالِاسْتِقَامَةِ.
المرفقات
1762413610_العزة.docx