العقد العظيم بين المؤمنين -عقد الأخوة-

عبد الله بن علي الطريف
1446/10/25 - 2025/04/23 17:50PM

العقد العظيم بين المؤمنين عقد الأخوة    1446/10/27هـ

أما بعد: أيها الإخوة: لقد عقدَ اللهُ تعالى بين المؤمنين عقدًا عظيمًا في كتابه الكريم فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10] فبمجرد ما يؤمن أي شخص في الدنيا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، فإنه يكون أخًا للمؤمنين.. والمتأمل لنداءات الرحمنِ للمسلمين في القرآن المجيد يجد أنها تنعتهم بلفظ واحد يجمعهم هو الإيمان؛ فيناديهم تعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، بل أكد أن المؤمنين أمةٌ واحدة فقال: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون:52].. ولم يفرِّق في هذه الأخوة بين عربي وأعجمي، ولا أحمرَ وأسودَ، ولا إنسِيًا وجنيًا، فالكل واحد، وخطابهم واحد، وتكاليفهم واحدة: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) [مريم:93]. وقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟» قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ» رواه البيهقي وأحمد وصححه الألباني..

وبين النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ حقوق الأخوة الإيمانية آمرًا بها ومبينًا لمقتضياتها فَقَالَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. ونهي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ عن كلِ ما يحدثُ الكراهيةَ والبغضاءَ والفُرقةَ بين المسلمين فَقَالَ: «لَا تَحَسَّسُوا [لَا تَبْحَثُوا عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ] وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا [التَّنَافُس: الرَّغْبَةُ فِي الشَّيْءِ، وَفِي الِانْفِرَاد بِهِ] وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا [الْإِعْرَاضَ عن أَخِيكَ الْمُسْلِمِ، فَتُدْبِرَ عَنْهُ بِوَجْهِكَ] وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» وفي رواية «وَلَا تُهْجِرُوا» [أي لا تتكلموا بالْـهُجْرِ وهو الكلام القبيح] رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قال شيخنا محمد العثيمين رحمه الله معلقًا على الحديث: وفيه وجوب تنمية الأخوة الإيمانية؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «وَكُونوا عِبَادَ الله إِخْوَانًا» ومنها بيان حال المسلم مع أخيه، وأنه لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره؛ لأن هذا ينافي الأخوة الإيمانية.. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَبْتَاعَ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَلَا يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَذَرَ» رواه مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

أيها الإخوة: ولقد أمرَ ربُنا سبحانه بالاجتماع وحث عليه، ونهانا عن التفرق وحذَّرَ منه فقال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103] ومدح سبحانه التعاونَ وأمرَ به فقال: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة:2] ولا يتأتى التعاونُ على الخيرِ والإصلاح إلا بالاجتماعِ والتآلفِ بين القلوبِ، والمحبةِ بين الإخوان، ولن يكونوا إخوانًا حقًّا حتى يحققوا ذلك.. فالأخوةُ الإيمانيةُ والدعوةُ إلى الاجتماعِ والائتلافِ تقتضي دفعَ السيئةِ بالحسنة، واللينَ والرفقَ بالمسلمين حتى وإن جهلوا وعابوا وأساؤوا الظن..

أيها الإخوة: لا سبيل لانتشالِ أمتِنا من الفُرقَةِ التي تُقَطِّعُ أوصالَها، وتُفَتِتُ كيانَها وتُذْهِبُ ريحَها إلا بنبذِ الخلافات، والحثِ على المحبة والوفاق والأخوة.. وأعظمُ داءٍ يَفُتُ بعضدِ الأمةِ ويُذهِبُ ريحَها داءُ التفرق والتحزبِ وإعجابِ كلِ ذي رأي برأيه المفضي للتنازع، قال الله تعالى محذرًا منه: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران:105] وقال: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى:13] أي: ليحصل منكم الاتفاق على أصول الدين وفروعه، واحرصوا على ألا تُفَرِقَكم المسائل وتحزبَكم أحزابًا، وتكونون شيعًا يعادي بعضكم بعضًا مع اتفاقِكم على أصل دينكم.. وقال: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46] قال الشيخ السعدي: (وَلا تَنَازَعُوا) تنازُعًا يوجبُ تشتتَ القلوبِ وتفرقَها (فَتَفْشَلُوا) أي: تجبنوا (وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي: تنحلَّ عزائمُكم، وتتفرقُ قوتُكم، ويرفعُ ما وعدتم به من النصر على طاعة اللّه ورسوله.

ومع ذلك كله فالاختلاف بين أهل الحق سائغ وواقع ما دام في حدود الشريعة وضوابطها، وهو بهذا ممدوحٌ، ومصدرٌ من مصادرِ الإثراءِ الفكري، ووسيلةٌ للوصول إلى القرارِ الصائب، وما مَبْدَأُ الشورى الذي قرره الإسلامُ إلا تشريعًا لهذا الاختلافِ الحميد (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران:159] وكان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ يستشير أصحابه ويستمع إلى آرائهم واختلافِ وجهات نظرهم.. وما لَامَ أحدًا على رَأْيٍ أبداه، أو مَوقِفٍ تبناه، وما تعصب أحدٌ من أصحابِهِ ولا تَحَزَّبَ، بل كان الحقُ غايتَهم والمصلحةُ رائدَهم.. وقد يُقِرُّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ كُلًا من المختلفين على رأيه الخاص، ولا يبدي اعتراضًا أو ترجيحًا لأحدهما.. اللهم يا مقلب القلوب اجمع قلوبَنا على طاعتك وألف ذات بيننا، ورزقنا قلوبًا سليمة واسلل سخيمتها، وجعلنا صالحين مصلحين.. وصلى الله وسلم.. 

الخطبة الثانية:

أيها الإخوة: اتقوا الله حق التقوى، واعلموا أن الخلاف سائغٌ إذا لم يفض للنزاع والفرقةِ والنيلِ من الآخر.. قال الإمام الشافعي: "ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة" وقال: "ما ناظرت أحدًا إلا قلت اللهم أَجْر الحقَ على قلبِه ولسانِهِ فإن كان الحق معي اتبعني، وإذا كان الحق معه اتبعته".. وقال الإمام أحمد بن حنبل: "لم يعبر الجسرَ إلى خراسان مثلُ إسحاقَ، وإن كان يخالفنا في أشياءٍ فإن النَّاس لم يزل يخالف بعضهم بعضا".. وسأل رحمه الله بعض الطلبة من أين أقبلتم؟ قالوا: جئنا من عند أبي كُريب، وكان أبو كُريب ينالُ من الإمام أحمد، وينتقده في مسائل؛ فقال نِعم الرجل الصالح! خذوا عنه وتلقوا عنه العلم، قالوا: إنه ينال منك ويتكلم فيك.! قال أيُّ شيء حيلتي فيه، إنه رجلٌ قد ابتُلي بي.

وقال الإمام الذهبي، وهو يترجم لأبي محمد بن حزم صاحب الْمُحلى وشيخ الظاهرية رحمهما الله: ولي ميلٌ لأبي محمد بن حزم؛ لمحبته للحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثيرٍ مما يقول في الرجال والعلل، وفي المسائل البشعة في الفروع والأصول، وأقطع- لاحظ قوله: وأقطع- بخطئه في غير ما مسألة، ولكني لا أكفره ولا أضلله، وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه.

وبعد: فإنه من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن أنّ الحق لا يغار عليه إلا أنت، ولا يحبه إلا أنت، ولا يدافع عنه إلا أنت، ولا يتبناه إلا أنت، ولا يُخْلِصُ له إلا أنت..

ولا بد من إحياءِ روحِ التسامح في الأمة، وبثِ روحِ الأخوة والمودة بين المسلمين في أنحاء العالم، واجتنابِ التباغضِ، وتمثلِ أدبِ الاختلافِ، واجتنابِ سلبياتِه.. والتأكيد على أن للاختلاف أسبابًا موضوعيةً مشروعةً ووجيهةً يجبُ ألا تكونَ سببًا للفرقةِ والتباغضِ..

المشاهدات 298 | التعليقات 0