العلم أول الوحي .. ورسائل ثلاث للمعلم والأب والطالب
حامد الشثري
عنوان الخطبة : العلم والتعلم رسائل ثلاث 28/02/1447هـ
الحمد لله العليم الخبير، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم، والصلاة والسلام على النبي الأمي المعلم، أول من تعلم وعلم، فبلغ دين الله تاماً متمم
صلّت عليك جبالُ مكة كُلُهَا** ما بثَّ للرحمنِ حُزنًا باكيا
صلّى عليك الوحيُّ أنتَ حملتَهُ** غضًا طريًا للبريةِ صافيا
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد
وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نوراً تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم)
أيها المؤمنون: أمر عظيم هو أول أمر بدأ الله به، وفَضّلَ آدمَ على الملائكة به، أمر أقسم الله به، والله سبحانه عظيم لا يقسم إلا بعظيم، وبه بدأت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وأول ما نزل عليه من الوحي،
إنه العلم أيها المباركون .. إنه القراءة والكتابة، والعلم والتحصيل والدراسة، (اقرأ بسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان مالم يعلم)، (ن والقلم وما يسطرون)، (الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان)، (وعلم آدم الأسماء كلها)، .. وكل هذه الآيات تدل على عظيم منزلة العلم والتعليم، وأن الله أختص بِه بني آدمَ، وفضلهُم بِهِ على غيرِهم، فأخذ النبيُ صلى الله عليه وسلم الأمر بالعزم والقوة، فكان هو المتعلم والمعلم، (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك مالم تكن تعلم، وكان فضلُ الله عليك عظيماً) العلم والتعلم، فضل من الله ومنة، فمن ذا الذي ينكر فضلَ الله، ويجحدُ منتهُ وإحسانه،
أيها المؤمنون:
العلم هو سبب النهضة والحضارة والرفعة في الدنيا والآخرة
العلم يرفع بيتاً لا عماد له ** والجهل يهدم بيت العز والشرف
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في التعلم والعلم، فعلم العلم ونشره، وحث عليه ودرّسه، فكان أولَ معلمِ في أمةِ محمد صلى الله عليه وسلم، كان يجلس في المسجد لتعليم أصحابه، ويلتقي بهم في بيوتهم وطرقاتهم، كان يعلمهم في السفر وفي الحضر، والسلم والحرب، يعلم الكبير والصغير، والخادم والسيد، يُرشد ويوجه، وينصح ويُفقه.
عباد الله: ومن هنا ننطلقُ برسائلَ ثلاثٍ علها أن تكون نوراً وهدىً للمعلم والشريك والمتعلم
أولاها: إلى ورثة الأنبياء، ومنشئي النفوس العقول، ومخرّجي الأجيال، إلى صانعي المجتمعات، ومقدمي رجالها، إلى أصحاب الفضل، إلى الأب الثاني
إليك أيها المعلم:
يامن شرفك الله بهذا الشرف الجليل، أوصيك أن تجعلَ أولَ معلمِ وخيرَ معلمِ للبشريةِ هو قدوتكَ، فتفلح وتنجح بإذن الله تعالى
قف شامخاً عانق هناك الأنجما ** يكفيك فخراً أن تكون معلماً
إنك تغُبط على مكانتك في التعليم، كيف لا وأنت تنسخ من نفسك رجالاً لا رجلاً واحداً، لك أجورهم بقدر ما علموا وعملوا، هذه أعظم الأوقاف استثماراً أن تستثمر في رجالٍ من خلفهم رجال،
من خرّج القضاة والعلماء، والأمراء والوزراء، والمهندسين والأطباء، بل من خرج لنا المعلمين والمدراء، والموظفين والرؤساء، والتجار والوجهاء، وغيرُهم وغيرُهم وغيرُهم .. إنه أنت أيه المعلم
فكم لك من أجورِ نفعِهم وتعليمِهم وتوجيهِهِم للناس، وأنت على فرش نومك، أو متكأً على أريكتك، ويجري لك أجر نفعك وتعليمك، ولكن هذا لا يتأتى لك .. إلا بالإخلاص والخلاص، والصدق والاحتساب، والتفاني في التعليم، فإنما هي سُنياتٌ تنقضي، يذهبُ جُهدُها وتعبُها ونصبُها، ويبقى علمُها وأجرُها وذُخرُها وأثرُها، (إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم)
أما إذا لم يكنِ البناءُ محكماً، والتعليم راسخاً، والمدرسُ مخلصاً، وإنما هو أداء حِصة، وإتمام متطلبٍ على سبيل التخلص والخلاص منه، وكأنه حِملٌ ثقيلٌ على الظهر، فإن النتيجةً ستكونُ سلبيةً، مع أن الجهدَ واحد، والتعبُ والنصبُ واحدٌ، لكن الأولَ جنى حصيلةَ تعليمه أجراً وافراً، ودعاء صادقاً، وحباً خالصاً ..
وأما الآخر المسكين .. فقد بنى، لكن البناء معوجاً، فسرعان ما سقط الجدار، وانهدم السد، فلم يغرقِ المعلمُ وحدهُ، بل أغرق أمتهُ ومجتمعه.
وإذا ما أصيب المجتمع في تعليمه، فأقم عليه مأتماً وعويلاً
نعم .. إذا لم يقمِ المعلمُ بدورهِ وواجباتهِ على حقيقتها، خسرنا رجالاتِ الوطنِ، وأهلَ الصفِ الثاني، وقادةَ الأمةِ ورجالاتِ الدولةِ، لأن تعليمهم كان ركيكاً، وثقافَتَهُم حضيضاً، وفهمهُم سقيماً
فالله الله أيها المعلمون، الله الله في أبناءكم، الله الله في أجيالكم، الله الله في دولتكم
الله الله في أمتكم .. فأنتم بُناتها .. أتقنوا البناء، وأحسنوا الانشاء، وقولوا للطلاب حسناً، وعلموا بأخلاقكم وفعالكم، قبل أقوالكم وكلامكم، فاللهُ قرن الرحمةَ بالتعليمِ فقال (الرحمن، علم القرآن) فالرحمةُ ملازمةُ للمعلمِ في كل وقتٍ وحينٍ، ولنا في الرحمةٍ المهداةٍ خيرَ دليلِ
إن المُعلمَ للشُّعُوبِ حياتُهَا ** ودليلُها وعطاؤُها المُتفاني
فإِذا سَألتَ عنِ الشعوبِ فلا تسل ** عن غيرِ هاديها فذاك الباني
أما الرسالة الأخرى فهي إلى شريك المعلم والمدرسة
إنه أنت أيها الأب، وأنتِ أيتها الأم:
جميلٌ هذا الاستنفارُ والحرصُ على شراء مستلزماتِ الدراسةِ وتوفيرِها، وتأمينِ متطلباتِ المدرسةِ وحاجياتِها، لكن يجب أن لا تنسينا أموراً أخرى:
أولها: أن ما يبذُلهُ الأبُ لشراءِ حاجياتِ ابناءِه إنما هي صدقةٌ، وهي من النفقةٍ التي يؤجرُ عليها، كما أنهُ يؤجرُ على تذليلِ سبيلِ العلمِ والتعلمِ لذريتهِ .. فهنيئاً له الأجر .. إذا احتسبه عند الله تعالى.
خيرُ ما ورَّث الرجالُ بَنِيهِمُ ** أدبٌ صالحٌ وحُسنُ ثناءِ
ثانيها: يجب أن على أولياء الأمور أن لا يغفلوا عن الجانب النفسي والاستعداد للمدرسة والعلم، بحثهم عليه وتذكيرهم بفضله، بتحفيزهم ورفع همتهم لينالوا العلم الذي يرفع جهلهم، ويعلي درجاتهم.
ثالثها: أنتم أعوان للمعلمين والمدرسة، ولا يُنال العلم إلا بالتعاهد والمتابعة، فكما تحرصون على طعامهم وشرابهم فأحرصوا على متابعة دراستهم وتعلمهم، فتفوقهم سبب لانتفاعهم به وانتفاع أمتهم بهم،
وأعلموا أيها الآباء أن تجاربكم في الحياة وخوضكم لغمارها دروس عظيمة فلا تحرموا أبناءكم منها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( فتعالى الله الملك الحق، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه، وقل رب زدني علما)
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني واياكم بما فيه من الآيات والمواعظ والذكر الحكيم، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم
الخطبة الثانية
الحمد لله الرحيم الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان، والصلاة والسلام على إمام المعلمين والمتعلمين، وقائد الأمة للرشاد معلم الثقلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى كل متعلم للدين والنهج القويم، وعلى الآل والصحب والتابعين وبعد..
أما الرسالة الثالثة فهي للمتعلمين لكم أيها الطلاب:
كفى بالعلم في الظلمات نوراً ** يبين في الحياة لنا أموراً
تزيد به العقول هدىً ورشداً ** وتستعلي النفوس به شعوراً
أي بُني، إن العلم نور، وهو ضياء وسناء، ورفعة في الدارين، علم الدين وعلم الدنيا
كلاهما متلازمان، فلا تقوم الأمة ولا يستقيم البناء بأحدهما دون الآخر
بالعلم يميز الانسان الحق من الباطل، فيعرف الهدى من الظلال، ويعرف ما يصلح وما لا يصلح
بالعلم يتوقى المرء الأخطار ويتجنب الأوزار ويبذل جهده في تحقيق رضى العزيز الغفار
بالعلم يصلح دين الناس، وتصلح دنياهم
بالعلم يدرك الانسان الانتفاع بما خلق الله في سماءه وأرضه، مما سخره لعباده، فيكتشف ويخترع ويبني ويشيد ويصنع، كل ذلك لا سبيل إليه إلا بالعلم والمعرفة، فبالعلم تسود الأمم، وبالعلم تسموا الأوطان، بالعلم تعلوا البلدان، بالعلم ترتفع المجتمعات، وتتميز، ولذا كان التعليم من الأساس في البلدان، فاجتهدوا وجدوا واحتسبوا
أأبناء المدارس إن نفسي ** تؤمل فيكم الأمل الكبيرا
فسيقاً للمدارس من رياض ** لنا قد أنبتت منكم زهورا
أيها الطلاب:
ومن النعم علينا في هذه البلاد أن كان التعليم سهل الوصول، يسير المبتغى، مذلل العقبات، فهذه الميزانيات العظيمة والدراسة المجانية والمناهج المطبوعة بأفضل جودة وأعلى دقة، إنما هي بفضل الله وحده، ونعمة أفاء الله بها على بلادنا، فمن شكرها حسن أخذها بحقها، والتعلم والتعليم، فكم من البلاد حولنا يتمنون معشار ما لديكم من الإمكانيات والتسهيلات
أيها الطلاب:
إن قيمة المرء فيما بين جنبيه من علم الدنيا أو الدين
وقيمة المرء ما كان يحسنه ** والجاهلون لأهل العلم أعداء
ولا علم لك أيها الطالب دون الخلق، فالأخلاق قبل التعلم، وما نال العلم مستحي ولا مستكبر
(أيا ولدي) دعوتك لو أجبتا ** إلى ما فيهِ حظّكَ لو عقِلتا
إلى علمٍ تكونُ به إمامًا ** مُطاعًا إن نهيتَ وإن أمرتا
ويكشفُ ما بعقلكَ من شكوكٍ ** ويهديك الطريق إذا ضللتا
وتلبس مِنه فوق الرأس تاجاً ** ويكسُوكَ الجمالَ إذا نطقتا
وكنزٌ لا تخاف عليه لصاً ** خفيفُ الحمل يوجدُ حيثُ كنتا
يزيد بكثرة الإنفاق منه ** وينقص كلما عنه ابتعدتا
ينالك نفعهُ ما دمت حيًا ** ويبقى ذِكرُهُ لكَ إن ذهبتا
فبادره وخذ بالجدِّ فيهِ ** فإن أعطاكه اللهُ ربحتا
فالله الله بنيَّ المبارك، اطلب العلم بإخلاص وتجرّد، واجعل نُصبَ عينيك قول حبيبك المصطفى ﷺ: "من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة"
فيا بنيَّ الأريب: عليك بعُلوِ الهمَّةِ، وقوةِ الإرادةِ، وسموِ النفسِ، فعلى قدرِ أهلِ العزمِ تأتي العزائمُ .. وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ ..
قد هيؤوك لأمرٍ لو علمت به .. فاربأ بنفسك أن تردي مع الهمل ..
ومن تكُنِ العلياءُ همَّةَ نفسهِ .. فكلُّ الذي يلقاهُ فيها هيِّنُ ..
ومن كانت له نفسٌ تواقةٌ .. طارت به نحو المعالي .. ومن لم تكن له بدايةٌ شاقةٌ .. فلن تكون له نهايةٌ مُشرقة،
ومن يتهيب صعود الجبال، يعش أبد الدهر بين الحفر..
فكُن رجُلاً إن أتوا بعدهُ .. يقولونَ مرَّ وهذا الأثر ..
وتيقن بني المبارك: أنك لست بأقلَ من غيرك، ولا أدنى ممن سواك .. وأنك من صُنع أفكاركَ، وأنك ثمرةٌ لقناعاتك وإيمانك .. فغير قناعاتِك تتغيرُ حياتُك .. غير قناعتِك لتحلو حياتَك، وتعظُمَ مُنجزاتُك .. وهيا لتكون، ما ينبغي لك أن تكون .. {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}..
اللهم وفقنا لصالح القول والعلم، وأهدنا لصواب وجنبنا الزلل، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ورزقاً طيباً وعملاً متقبلا
هذا وصلوا وسلموا على خير البرية وأزكى البشرية، فللصلاة عليه منزلة ومزية، ومن صلى عليه صلاة صلى الله عليه بها عشراً فاللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك محمد ما صلى عليه المصلون وسلم عليه المسلمون، وما غفل عن ذكره الغافلون، اللهم صل عليه وعلى آل بيته وعترته، اللهم وعلى زوجاته أمهات المؤمنين، وصحابته الغر الميامين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا جواد يا كريم، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وأجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم أحفظ بلدنا وأكفنا شر عدونا وأحم حدودنا وأنصر جنودنا ووفق ولي أمرنا وولي عهده لما فيه صلاح البلاد والعباد، إنك سميع قريب مجيب الدعوات
اللهم أغفر ذنوبنا واستر عيوبنا وأصلح أحوالنا
اللهم فرج همومنا ونفس كروبنا وأقض ديوننا وأشف مرضانا وعاف مبتلانا وأغفر لموتانا وموتى المسلمين
اللهم أغفر لنا ذنوبنا كلها دقها وجلها أولها وآخرها علانيتها وسرها، اللهم أغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا، اللهم أجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، أصلح قلوبنا وأعمالنا وقنا شر أنفسنا وشر الشيطان وشركه، اللهم إنا نعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر، ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم إنا نعوذ بك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن
اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ونسألك شكر نعمتك، وحسن عبادتك، ونسألك قلباً سليما، ولسانا صادقاً، ونسألك من خير ما تعلم، ونعوذ بك من شر ما تعلم، ونستغفرك لما تعلم، إنك أنت علام الغيوب.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين
المرفقات
1755807623_خطبة العلم والتعلم رسائل ثلاث 28 - 02 - 1447هـ.pdf
1755807636_خطبة العلم والتعلم رسائل ثلاث 28 - 02 - 1447هـ.docx