القدوات

الخُطْبَةُ الأُولَى

الحمدُ للهِ خلَقَ الإنسانَ، ولم يكنْ شيئًا مَذكورًا، أحسَن صورتَه فجعلَه سميعًا بصيرًا، وهداهُ السبيل: إمَّا شَاكرًا وإمَّا كَفُورًا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن تبعَهم بإحسان وسلَّم تسليماً مزيداً.

 أمَّا بعدُ: فاتقوا الله، فإنَّ التَّقوى خيرُ لباسٍ وأفضلُ زادٍ، لرضا ربِّ العبادِ؛ (وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).

في السنة الثامنة من الهجرة قدم سيف الله خالد بن الوليد -رضي الله تعالى عنه- إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، ليعلن إسلامه، ثم مد يده ليبايعَ النبَي -عليه الصلاة والسلام-، وكان خالد من أصحاب العقول الراجحة، فعاتبه النبي صلى الله عليه وسلم معاتبة لطيفة على إسلامه المتأخر  فقال له "أين كان عقلك يا خالد؟! فلم ترَ نورَ النبوة بين ظهرانيكم منذ عشرين سنة؟! فقال خالد كلمةً عظيمة تستحق الوقوف عنده قال: "كان أمامنا رجال كنا نرى أحلامهم كالجبال".  نعم إنها القدوات فبسببها تأخّر إسلامُ خالدٍ عشرين سنة وهو من هو في عقله. 

أيها المسلمون: في عصر انتشار التفاهات، وتصدير الساقطين والساقطات، ينبغي إشاعةُ الحديث عن القدوة ، فبالقدوةِ تُسْتَصْلَحُ البُيوتُ أو تَفْسُدُ، وبالقدوةِ تُبنى الأجيالُ أو تَضِيعُ.

 إنْ أَرَدْتُم التغييرَ النَّاعمَ، والتَّأْثِيْرَ السَّاحِرَ فاصْنَعُوا القُدُواتِ. خُذُوْهَا وَعُوهَا: إنْ غَرَسْتُم القُدُواتِ الصالحة، جَنَيْتُم جيلًا صالحًا طيِّبَ الأعراقِ. أَعْطِني قدوةً واحدةً، وَوَفِّرْ بعدَها أَلفَ خُطْبَةٍ، وألفَ مَقَالٍ.

هبني قدوة صالحة، أهبك جيلاً صالحًا، وهبني إمامًا يدعو إلى النار، أهبك أرتالاً من اللحوم البشرية كلها تستعد أن تُقذف في النار.  دخلت أمةٌ النارَ في قدوة، ودخلت أمةٌ الجنةَ في قدوة. ولكم في غلام الأخدود عبرة. القدوةُ الحسَنَةُ كالشجرةِ المثْمرةِ، إنْ حلَّ حلَّت معه البركةُ والثَّمَرَةُ، فَبِهِمْ تُزْرَعُ المفاهيمُ الحسَنَةُ، وتُعزَّز القِيَمُ الجَميلة. ولو تَأَمَّلنا دعوةَ الرُّسلِ وأتباعِهم، وكيفَ أثَّروا في مجتَمَعِهِم، لعرفتَ أنَّ سِرَّ ذلك هو تحليهم بأكمل الصفات. وهل تأثَّرَ جيلُ الصحابةِ وتَغيَّرَ إلا بِسِحْرِ الأسوةِ المحمَّديَّة الحسنة، وهل فُتحتْ الآفاق ودخلَ النَّاسُ في دينِ اللهِ أفواجًا إلا بتأثيرِ القُدْوةِ الطيبة؟! وإذا كانَ هذا هو أثرَ القدواتِ وتأثيرَهُم، فاعلموا أنَّ غياب القدواتِ هو مشروعٌ هادمٌ بامتياز.

 إذا تَسَاقطَ القدواتُ أو أُسْقِطُوا، فلا تَجْني من الأَجْيال، إلا أشباهَ الرِّجال. إذا غابَ القدواتُ فانتظرْ جيلًا تافهًا في تفكيرِهِ واهتماماتِه، ومَنْ يزرع الشَّوك فلا يتحيَّنْ خروجَ العنب.

 إذا فُقِدَت القدواتُ في بابِ العملِ فانتظرْ جيلًا كسولا. وإذا ترحَّلَ قدواتُ الأمانة، فارتقبْ حينَها جيلًا فاسدًا للحقوق مضيعًا. وأما إذا غابَ القدواتُ في العلم فسيتَّخذ النَّاسُ رؤوسًا جُهَّالًا.

 فغيابُ القدوةِ الصالحةِ نتيجته الحتميَّة: ظهور قدواتٍ فاسدة.  فالقدوات تظل شمسًا يُضاء بخيطها الوضاءِ.  وما أعظمَ مصيبة أمة تركت أولادها بلا قدوات صالحات، تتحكم فيهم القدواتُ السيئة، والوجوهُ الملمَّعة، وأشباهُ الرجال، وسفهاءُ الأحلام، وساقطو المروءات.

بعدما ذكرَ اللهُ -تعالى- الأنبياءَ في سورةِ الأنعامِ، قالَ -سُبحانَه-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) فماذا نفهمُ من أمرِ اللهِ -تعالى- لنبيهِ بالاقتداءِ بالأنبياءِ من قبلِه؟ وماذا نفهم من أمرِ اللهِ -تعالى- للناس أن يقتدوا بنبيِّهم -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)؟! ولمعرفةِ النَّبيِّ -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- بحاجةِ النَّاسِ إلى القُدوةِ في كلِّ زمان، أوصى عندَ موتِه بالاقتداءِ بالقُدوتين: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي ؛ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ"، فالقُدواتُ هم الذينَ يصنعونَ الرُّسوخَ في الأجيالِ. ولذلكَ كانَ أفضلُ الأجيالِ، هو جيلُ الصَّحابةِ الأبطالِ؛ لماذا؟ لأنَّ قدوتَهم رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، ثُمَّ جيلُ التَّابعينَ؛ لأنَّ قدوتَهم  الصَّحابةُ الأخيارُ، ثُمَّ تابعِ التَّابعينَ، وهكذا في كلِّ زمانٍ يَكثرُ الصَّلاحُ، بكثرةِ أهلِّ القُدوةِ والفَلاحِ.

 ولمَّا كانَ قُدوةُ المسلمينَ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ- كان يُنافسُ الصَّحابةَ على العملِ، حتى قالوا -رضيَ اللهُ عنهم-:   لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ ***      لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلِّلُ

فعملوا وأبهروا ونجحوا!  نعم اليومَ نحتاجُ إلى القدوةِ التي يراها الأجيالُ؛ فيتعلموا منه الأفعالَ قبلَ الأقوال.

 كيف يفلح شباب أحاطت بهم القدواتُ السيئة، ولُمّع لهم التافهين والتافهات ..

حينما تريد أن تصنع جيلاً وهذا الجيل لا يجد أمامه إلا التافهين والتافهات ليهتف لهم، فمن العبث أن تنتظر بعد ذلك جيلًا همه الإصلاحُ ومعالي الأمور والهمةُ العالية والتقدم العلمي والحضاري.

أيُّها الأب: أتدري أنَّ كلامَكَ لأهلِكَ في بيتِكَ عن رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليهِ وسلمَ-، وتعبيرِكَ عن حبِّكَ الخالصِ له، وأنَّه القدوةُ التي يجبُ الاقتداءَ به في كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، يضيعُ هباءً منثوراً عندما تخالفُ سنته في أقوالك وأفعالك وأحوالك؟!  قل ما شئتَ لأبنائكَ عن فضلِ الصَّلاةِ وأهميتِها، ولكن عليك أن تعلم أنهم إذا لم يروكَ مُهتماً بها، حريصاً على أدائها، طارت نصائحك في الهواء،  وحدِّثهُم عن فضيلةِ الصِّدقِ وأنَّه منجاةٌ، ولكن احذرْ أن يسجلوا عليك كذبةً ؛ فإن ذلك سيجعلك متناقضاً لا يرون فيك قدوة، ولا قناعة، ولا مثالاً يحتذى! مِنْ حَقِّ الأَجيالِ علينا أنْ يَرَوْا فِيْنَا مَا نُسَرُّ أنْ نراهُ فيِهم.  فيا كُلَّ والدٍ وأَبٍ، ويا كُلَّ مُعلِّمٍ وَمُرَبٍّ أنتم صورة حيَّة، فانظروا ماذا ترسمونَ، واختاروا اللون الذي تُحبُّون.  إذا رأى الولدُ من والدِه غضَّ الطرْفِ، وَعِفَّةَ اللسان، ودوامَ الذِّكْرِ والاستغفارِ، والخُلُقَ الحَسَنَ في التعاملِ والمعاملةِ، فهذه صورةٌ محفوظةٌ في الوجدانِ ستؤتي أُكُلَها ولو بعدَ حين .  إذا مَرِضَ الأَبُ فَرَفَعَ يَديه يَتَطَلَّبُ الشفاءَ، فهذه رسالةٌ تربويةٌ صامتةٌ في الالتجاءِ إلى الله. تَعلقُكَ بالمسجدِ، وَمَشْيُكَ إليه خمس مرات، يَغْرِسُ فيهم أهميةَ العبادة، والحرصَ على صلاةِ الجماعة... وقل مثل ذلك في أفعال البر والخير.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ لقدكَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، وأُصلي وأسلمُ على خاتم الأنبياءِ والمرسلينَ، أما بَعدُ: 

كيف نَبني قدواتِنا؟ وكيف نمتثلُ القدوةَ في أنفسنا وفي غيرنا؟

 إن اللَّبِنَةَ الأُولى في بناءِ القُدْوةِ الحسَنَةِ هي تعظيمُ الله، ومراقبتُه، والإخلاصُ له، ليكونَ العمل بعدها صالحًا ومقبولًا. أَخْبرني مَنْ قُدْوتُكَ أُخْبِرْكَ مَنْ أنت، فَرَبْطُ النَّاسِ بخيرِ القدواتِ -صلى الله عليه وسلم- وصحابتِه الذين تربَّوا عليه مُؤْذِنٌ بِتَخْرِيجِ قدواتٍ صالحينَ معتدلين.

واللبنة الثانية في بناء القدوةُ الحسنةُ ألَّا يُناقض قولُك فِعلك فهذا أس نجاحها، فقد ذَكَرَ الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغداد، أنَّ الإمامَ الشافعيَّ طُلِبَ منه أنْ يُوصيَ مُعلِمَ أَوْلادِ الخليفةِ هارونَ الرَّشِيدِ، فقال له الشَّافعيُّ: "لِيَكُنْ أولُّ مَا تبدأُ بهِ مِنْ إِصلاحِ أَولادِ أَميرِ المؤمنينَ إِصلاحَ نَفْسِكَ، فإنَّ أَعِنَّتَهُمْ معقودةٌ بيدِكَ، فالحَسَنُ عندَهُم ما تَسْتَحْسِنُهُ، والقَبيحُ عِنْدَهُم مَا تَركْتَهُ".

وأولًا وقبل كل شيء عليك بالدعاء، فهو مفتاح كل خير بأن يجعلك الله قدوةً حسنة، فعبادُ الرحمنِ الذين أَثنى عليهم الرَّحمنُ، كانَ مِنْ دعائِهِم (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) لأن للمقتدى به أجر عظيم إن كان في الخير. ووجودُ القُدواتِ بينَ النَّاسِ لهُ أثرٌ مُبينٌ، في معرفةِ الناس للحقِّ واليقينِ، فها هو الإمامُ أحمدُ -رحمَه اللهُ- في فتنة خلق القرآن كَانَ بإمكانِه أن يَأخذَ بالرخصةِ ويَقولُ ما يراد منه بأن القرآن مخلوق ؛ لكنَّه كانَ إماماً يَقتدي به النَّاسُ، وينظرونَ إلى ثَباتِه؛ ولذلكَ أَوصاهُ صاحبُه محمدُ بنُ نوحٍ قَائلاً: "أنتَ رَجلٌ يُقتدى به، وقد مدَّ الخلقُ أَعناقَهم إليكَ؛ فاتقِ اللهَ، واثبت لأمرِ اللهِ". فثبت فثبّت الله به السنة فأصبح إمامها، فالقُدواتُ موجودونَ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ، يَقتدي بهم النَّاسُ في الثَّباتِ والإيمانِ، فإذا لم تجدْ أو لم تعلمْ منهم أحداً، فافتحِ القرآنَ، واقرأ في مواقفِ أولياءِ الرَّحمنِ، فها هو شَابٌّ يُلقى في النَّارِ، فيقولُ: "حسبنا الله ونعمَ الوكيل"؛ فيُقالُ: (قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)!

 وها هو شابٌّ تتعرَّضُ له امرأةٌ ذاتُ جمالٍ ومالٍ وحَسبٍ؛ فيقولُ: (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، فيمكن ويفلح وتكونُ العاقبةُ له. وها هو رجلٌ يُحاصرُ بينَ البحرِ والجيشِ، ويُقالُ له: (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) فيَقولُ: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ)! وها هو رجلٌ في غارٍ، والأعداءُ يبحثونَ عنه ليقتلوه، فيقولُ لصاحبه: (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)! وهكذا سترى القُدواتِ أمامَكَ على مرِّ القرون، في القرآن الكريم

عباد الله تُشوّه القدوة الحقيقة في قلوب أولادنا، ثم نعتب عليهم إذا علقوا صور الضائعين والضائعات، وتغنوا بأسمائهم في النوادي والملتقيات، إذا سقطت القدوات الحقيقية فسيكون كل كافر لا يؤمن بالله ملهمًا حقيقيًا لأجيال الأمة، ويكون التافهون والساقطون هم قواد المرحلة الجديدة. إن أول طريق للإصلاح هو إشاعة القدوات الصالحة ونشر مآثرها وحث الناس على سلوك سبيلها.

اللهم يا حي يا قيوم ياذا الجلال والإكرام أبرم لهذه الأمة أمر رشيدًا، يُعزُّ فيه أهل الطاعة، ويُهدى فيه أهل المعصية، ويُؤمر فيه بالمعروف ويُنهى فيه عن المنكر.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...

المرفقات

1757560950_القدوات.docx

1757560950_القدوات.pdf

المشاهدات 721 | التعليقات 0