الكرمُ والإسرافُ

محمد محمد
1446/10/19 - 2025/04/17 12:03PM

الكرمُ والإسرافُ-20-10-1446ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري

الحمدُ للَّهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مبارَكًا فيهِ مبارَكًا عليْهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ-صلى اللهُ وَسَلَّمَ وبَارَكَ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ-.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَـمُوتُنَّ إلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، أَمَّا بَعْدُ: فيا إخواني الكرامُ:

كَانَ لِلعَربِ معَ الكَرمِ شَأنٌ عَظِيمٌ، فهم يَتَنَافَسُونَ فِيهِ، ولا يَسُودُ-يَصيرُ شيخًا-عليهم إلا الكَريمُ، حتَى قَالَ الشَّاعِرُ:

كُلُّ السِّيادَةِ في السَّخَاءِ وَلَن تَرى*

                 ذَا البُخلِ يُدعَى في العَشيرَةِ سَيِّدا

ولِذَلِكَ لَمَّا "سَأَلَ النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلِيهِ وَسَلَمَ-بَنِي سَلِمَةَ: مَنْ سَيِّدُكُم؟ قَالُوا: جَدُّ بنُ قَيسٍ على أنَّا نُبخِّلُه-نَصِفُهُ بِصِفَةِ البُخْلِ-، فَقَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ البُخلِ-أَيُّ عَيبٍ أَقبَحُ مِنَ البُخلِ-؟! بَل سَيِّدُكُم عَمرُو بنُ الجَمُوحِ"، وَكَانَ كَرِيـمًا-رضي اللهُ عنهُ-، وهَل سادَ من سادَ، وملكَ البلادَ والعبادَ، إلا بالكرمِ والشَّجاعةِ؟!

لَوْلا الـمَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ*

                            الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتَّالُ

بَل كَانَ العَربُ يَرونَ أَن الشِّعرَ إنـَّمَا يُكتَبُ فِي مَدحِ كَريمٍ، أَو وَصفِ حَبيبٍ، حَتَى قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْغَزِّيُّ:

قَالُوا هَجَرتَ الشِّعْرَ قُلتُ ضَرُورَةٌ*

                       بَابُ الدَّوَاعِي وَالبَوَاعِثِ مُغلَقُ

خَلَتِ الدِّيَارُ فَلَا كَرِيمٌ يُرتَجَى*

                           مِنْهُ النَّوَالُ وَلَا مَلِيحٌ يُعشَقُ

وَهَكَذا كَانَ الكَرَمُ، الذي تَبَاهَى العَربُ من أَجلِه، وسُطِّرتُ الأشعارُ في أَهلِه، وضُربَ بِهِ الأَمثَالُ، وَتَـمَادَحَ فِيهِ الرِّجالُ، وَخَلَّدَ التَّاريخُ مِن أَجلِهِ حَاتِـمًا الطَّائيَّ، وكَعْبًا الإيَاديَّ، وَهَرِمًا الذُّبيَانِيَّ.

ثُمَّ جَاءَ الإسلامُ لِيُتَمِمَ مَكَارِمَ الأَخلاقِ، فَقَالَ الرسولُ-عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ"، فأَصبَحَ الكَرمُ عِبَادَةً جَلِيلَةً للهِ، فِيهِ الأَجرُ والإيـمَانُ وَالفَضِيلَةُ، إذا خَلا مِنَ الرِّياءِ والـسُمْعَةِ، والـمُباهاةِ والإسرَافِ، وَاحتَسَبَ الـمُسْلِمُ الأَجرَ في إكرَامِ الأَضيَافِ، وَالعَجَبُ كُلُّ العَجَبِ، عِندمَا يَكونُ هَذا الخُلُقُ الكَرِيمُ، لا يُرادُ بِهِ وَجهُ اللهِ العَظيمِ.

 يا أهلَ الإيـمانِ: إن اللهَ-سُبحانَهُ-كريمٌ يـُحبُّ الكُرماءَ، ويُعوِّضُهم في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ من واسعِ العَطاءِ، يقولُ ابنُ القَّيمُ-رحمَه اللهُ: "ومَن وَافَقَ اللهَ في صِفَةٍ مِن صِفاتِهِ، قَادتْهُ تلكَ الصِّفَةُ إليه...، وأدْخَلَتْهُ على رَبِّـهِ، وأدْنتْهُ مِنهُ وقَرَّبَتْهُ مِن رَحمتِهِ، وصَـيَّرَته مَحْبَوبًا له، فإنه-سُبحانَه-رَحيمٌ يـُحِبُّ الرُّحَماءَ، كَريمٌ يـُحِبُّ الكُرَماءَ".

فَالكَريمُ فِي الإسلامِ هُوَ مَن يُنفقُ لا لِيَجمعَ النَّاسَ حَولَهُ، وَلا لِيَتفَاخَرَ الشُّعراءُ بِكَرمِهِ، وَلا لِيَغضَبَ إذَا تَنَكَّرَ لَهُ إخوانُه، لأَنَّهُ مَا أَعطَى إلا للهِ-تَعَالى-وَشِعَارُهُ: (إِنـَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلا شُكُورًا)، كانَ طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزُّهْرِيَّ-رضي اللهُ عنهما-، أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ، فقالتْ له زوجتُهُ: "مَا رَأَيْتُ قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك-أصدقائِك-، قَالَ: مَهْ، وَلِمَ ذَلِكَ؟ قَالَتْ: أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْتَ-اغتنيتَ- لَزِمُوكَ، وَإِذَا أَعْسَرْتَ-افتقرتَ-تَرَكُوكَ، فَقَالَ: هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ، يَأْتُونَنَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ"، قال هذا الكلامَ لأنه يُريدُ مَا عِندَ اللهِ لا ما عندَ النَّاسِ.

ولذلك كانَ أكثرُ النَّاسِ كَرَمًا أكثرَهم إِيـمانًا، وكَانَ عَطاءُ الرسولِ-عليه الصَّلاةٌ والسَّلامُ-للهِ-تعالى-، ترغيبًا في دينِه، وتأليفًا لقلوبِ النَّاسِ إليه، فَقَد أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ-رضي اللهُ عنهُ يوم كانَ مشركًا-مِئَةً مِنْ النَّعَمِ، ثُمَّ مِئَةً، ثُمَّ مِئَةً، قَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ-صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ-مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَسلَمَ صَفوانُ وحَسُنَ إسلامُهُ، وهذهِ نتيجةُ الكرمِ إذا كانَ خَالِصًا لوجهِ اللهِ-تعالى-.

أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ...

الخطبة الثانية

الحمدُ للهِ كما يحبُ ربُنا ويرضى، أَمَّا بَعْدُ:

عِندَما نَقرأُ الأرقَامَ في دِراسةِ المَسحِ المَيداني التي أجرتهَا الهيأةُ العَامةُ للأمنِ الغِذائيِّ، والتي تَقولُ: إنَّ نِسبةَ الفَقدِ والهَدرِ في الغِذاءِ بَلَغتْ 33 %، بتَكلُفةٍ سَنويَّةٍ تُقدَرُ بِنحو 40 مليار ريالٍ، نَجِدُ أننا أَمامَ طَعامٍ يُهدَرُ، ونِعَمٍ لا تُشكَرُ، فَالمُبَاهاةُ بِصَرفِ الأموالِ الطَّائلةِ في الـمَطَاعمِ والبيوتِ والولائمِ، وتَصويرِها للرِّياءِ والسُّمعةِ والفخرِ والتباهي، لَيستْ للهِ، لأنَّ اللهَ هو القائلُ-سبحانَه-: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، فما ظَنُّكم بشعورِ إخوانٍ لنا يـموتُونَ من الجُوعِ والحِصارِ، وإحساسِ آلافٍ من الـمسلمينَ دونَ مَأوى ولا دَارٍ، ومَاذا يقولُ الـملايينُ الذينَ لا يَجدونَ حَتَى قِيمةَ الإيجارِ.

فَيَا مَنْ أَنعمَ اللهُ عَليهِ: كُلْ أَنتَ وَأَهلكَ مَا يَكفيكُم دُونَ إسرافٍ، وأَكرمْ بِالمَعروفِ مَنْ جَاءَكَ من الأضيافِ، ثُمَّ اصرفْ ما فَاضَ على الفُقراءِ والمساكينِ، والأيتامِ والأراملِ والمُحتاجينَ، شاكرًا لنعمةِ ربِّ العالمينَ، وإياكَ أن تكونَ أنتَ وغيرُك سَببًا لِتَبديلِ أمنِنا خَوفًا، ورِزقِنا جُوعًا، قالَ-سُبحانَهُ-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِـمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، فكمْ سـَمِعْنا من الأجدادِ، قِصصَ الجوعِ والخوفِ التي عَاشُوها في البلادِ، ونخافُ واللهِ على الأَحْفَادِ؛ أنْ يكفروا نعمةَ اللهِ عليهم، فيَعِيشوا مع أبنائِهم الجوعَ والخوفَ الذي عاشَهُ الأجدادُ.

اللَّهمَّ لكَ الحمدُ، وإِليكَ الـمُشتكى، وأَنتَ الـمُستَعانُ، وبِكَ الـمُستغاثُ، وعليكَ التُكْلان، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بكَ.

اللَّهمَّ إنِّا نسألُكَ بأنَّ لَكَ الحمدُ، وأَنَّا نَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ، لا إلَهَ إلَّا أنتَ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، المنَّانُ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ياذا الجلالِ والإِكرامِ، يا حيُّ يا قيُّومُ.

اللَّهُمَّ أصلحْ وُلاةَ أُمورِنا وأُمورِ المسلمينِ وبطانتَهم، ووفقهمْ لرضاكَ، ونَصرِ دِينِكَ، وإعلاءِ كَلمتِكَ.

اللَّهُمَّ انصرْ جنودَنا الـمُرابطينَ، ورُدَّهُم سالـمينَ غانـمينَ.

اللَّهُمَّ الطفْ بنا وبالـمِسلمينَ على كُلِّ حالٍ، وبَلِّغْنا وإياهُم من الخيرِ والفرجِ والنصرِ منتهى الآمالِ.

اللَّهُمَّ أحسنْتَ خَلْقَنا فَحَسِّنْ أخلاقَنا.

اللَّهُمَّ إنَّا نسألك لنا ولوالدِينا وأهلِنا والـمُسلمينَ من كلِّ خيرٍ، ونعوذُ ونعيذُهم بك من كلِّ شرٍ، ونسْأَلُكَ لنا ولهم العفوَ والْعَافِيَةَ، والهُدى والسَّدادَ، والبركةَ والتوفيقَ، وَصَلَاحَ الدِّينِ والدُنيا والآخرةِ.

اللَّهُمَّ يا شافي اِشْفِنا وأهلَنا والـمسلمينَ والـمسالِمين.

اللَّهُمَّ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا).

اللَّهُمَّ صلِ وسلمْ وباركْ على نبيِنا محمدٍ، والحمدُ للهِ ربِ العالـمينَ.

المرفقات

1744880710_الكرمُ والإسرافُ-20-10-1446ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.docx

1744880710_الكرمُ والإسرافُ-20-10-1446ه-مستفادة من خطبة الشيخ هلال الهاجري.pdf

المشاهدات 376 | التعليقات 0