الكلمة مغنم أو مغرم (مشكولة)
صالح عبد الرحمن
خطبة عن الكلمة مغنمٌ أو مغرم (مشكولة) 17-12-1446هـ
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله رفيعِ الدرجات عظيمِ الشان له ما في السماوات وما في الأرض وقد أحاط علماً بما قد يكون وما كان، ذي الملك والملكوت والقوة والسلطان، أحمده سبحانه وأشكره وأثني عليه وأستغفره قد عمّت نعَمُه البرايا من نازِحٍ أو دان وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هي غاية الخلق وعزُ الإنسان وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعهم بإحسانٍ وسلم تسليماً كثيرا
وبعدُ فا تقوا الله أيها المسلمون وقوموا لله بما أمركم وكفوا عن المناهي وما حذركم واعملوا لدينكم وخذوا من دنياكم لآخرتكم.
(مثل الجنة الي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكفرين النار).
معاشر المؤمنين الكرام: (الكلمة!) الكلمةُ عنوانُ المرءِ ومقياسُه، تُتَرجِمُ عن مكنوناتِ قَلبِه، وتدَلُ على مستوى إيمانهِ وعقلِه.. الكلمة: عمارٌ أو دمار.. مغنمٌ أو مغرم.. سمٌّ أو بلسم.. ولئن كانت الكلمة خفيفةً على اللسان، سهلةٌ في النطقِ والبيان، إلا أنها سِلاحٌ ذو حدَّين.. تجمعُ وتُفرق.. تبني وتهدِم.. تُصلِحُ وتُفسِد.. ترفعُ وتخفِض.. عجيبةٌ هي الكلمة، فكم أفرحت، وكم أحزنت.. وكم شفت، وكم آلمت، وكم رفعت وأكرمت من أناسٍ، وكم وضعت وأذلت آخرين، وكم أشعلت من حروبٍ ونزاعات، وكم أطفأت من فتنٍ وصراعات..
عجيبةٌ هيَ الكلمة: ترتقي حتى تكونَ أفضلَ الأعمال.. ففي الحديث الصحيح: "ألا أنبئكم بخير أعمالكم.. وفي آخره قال: "ذكر الله".. وتَسفلُ الكلمةُ حتى تكون شرَّ الأعمال، ففي الحديث الصحيح: "قال كلمةً أوبقت دنياه وأخراه".. وفي الحديث المتفق عليه، قال ﷺ: "مَن كان يؤمِن بالله واليوم الآخرِ فليقل خيرًا أو ليصمُت"... ويقول لقمان الحكيم: إنَّ من الكلام ما هو أقسى من الحجر، وأحرُّ من الجمر، وآلم من وخز الإبر.. وإنَّ من الكلام ما هو ألينُ من الحرير، وأرق من نِسمة الأثير، وأعذبُ من النمير... إنها الكلمةُ: إما أن تَخْرُجَ طيبةً من فَمٍ طَيِّبٍ فلا تسأل عن روعتها ورفعتها وبركتها، وإما أن تخرج خبيثةً مِنْ فَمٍ خاطئٍ فلا تسأل عن شؤمها وقبحها وخستها.. فمتى قويَّ الإيمان، انْقادَ اللسانُ فلا يقولُ إلا خيراً وبراً واحساناً.. وإذا ضعُفُ الإيمانُ، انحرف اللسانَ، فلا يَكُفَّ عَن غيبةٍ أو نميمةٍ، أو سُخريةٍ أو شتيمة.. وَوالله ما نالَ إنسانٌ كرامَة، ولا حظيَ بين الناس بجميلِ مكانة، إلا وكان للسان النصيب الأوفى في ذلك.. فطوبي لكل لسانٍ طيب..
أيها الأحبة الأكارم: المرء في هذه الحياة، إمّا أن يُزِيْنَهُ في الناسِ خُلُقٌ كريمٌ، وعقلٌ حكيم، وَمَنْطِقٌ سَلِيْم.. وَإما أن يَشِيْنُه في الناسِ خُلُقٌ لئيم، ومَعْشَرٌ سقيم، ولِسانٌ أثيم.. جاء في صحيح الإمامِ البخاري أنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:ِ "إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا؛ بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" فإذا كانت الكلمةُ يا كرام التي لا يُلقى لها بالٌ ترفعُ قائلَها درجاتٍ عاليةٍ في الجنة، أو تهوي به دركاتٍ سحيقةٍ في قعرٍ جهنم فما بالكم بالكلمةِ المقصُودةِ، المبنيةِ على أمورٍ وهميةٍ، وتخمينات ظنية.. أعاذنا الله وإياكم من ذلك، فحين سأل معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه: يا رسول الله! وإنّا لمؤاخَذون بما نتكلَّمُ به، فقال: "ثكِلتكَ أُمّكُ يا معاذ! وهل يَكُبُّ الناسَ في النَّارِ على وجوهِهِم إلاّ حصَائدُ ألسِنتهِم".. وفي أمثال العرب: مقتلُ الرجلِ بين فكيه.. وربَّ كلمةٍ قالت لصاحبها دعني..
وقد أكدَ القرآنُ أنّ كلام الانسانِ محفوظٌ عليه، {سَنَكتُبُ ما قَالوا}، فإن كان خيراً كوفئَ عليه، قال تعالى: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا}، وإن كانَ شراً عوقبَ عليه، قال تعالى: {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا}..
أيها المباركون: وللكلمة الطيبةِ في القرآن مثلٌ عجيب، فهي شجرةٌ مباركة، تؤتي أكلَها كلَّ حينٍ بإذن ربها..
(ألم ترا كيف ضرب الله مثلاً كلمةً طيبةً كشجرةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) وفي القرآن حثٌّ مُتكررٌ على الكلمة الطيبة، قال تعالى: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن}، وقال سبحانه: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال تعالى: {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسناً}.. {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا}..
ثم إذا تأملت، فالكلمةُ الطيبةُ سهلةٌ ميسورة.. لا تتطلبُ مجهوداً، ولا تُكلِفُ نُقوداً.. تَهدي العقول، وتُنير القلوب، وتزكي النفوس، وتسمو بالأرواح، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}..
بارك الله لي ولكم بالقرآن….
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدًا لاَ مُنْتَهَى لِحَدِّهِ، وَلا حِسَابَ لِعَدَدِهِ، وَلا انْقِطَاعَ لأمَدِهِ، {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ}، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، سبحانهُ وبحمده.. وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسولهُ ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته ومن والاه، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم لقياه..
معاشر المؤمنين الكرام: الكلمة مصدرها اللسان، واللسان ضَمانٌ للإنسان.. ففي صحيح البخاري، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمنْ لهُ الجَنَّة".. فاتقوا الله عباد الله: فعلى مُخْرَجاتِ اللسانِ وكلماته، أو الكتابة بالقلم أو نشر الرسائل عبر برامج التواصل الاجتماعي، هناك رَقَابَةٌ شديدة، وهناك حِفظٌ وكتابةٌ وتدوينٌ.. فلا يلفظ اللسانُ أو تكتب اليد كلمةً إلا وقد رُصِدَت: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}.. فهناك ملكان موكّلان، يُلازِمانِ المسلم في لَيْلِهِ ونَهارِه.. يُحصيانِ ويسجلان أَعْمَالِهِ وأقواله.. عَن اليمين مَلَكٌ يكتبُ الحسناتِ، وَعَنِ الشِّمالِ مَلَكٌ يَكْتُبُ السيئاتِ، قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيد * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، وقال تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}.. فَمَنْ اسْتَحْضَرَ هَذِهِ الحقيقة يا عبادَ الله: وأيقنَ أَنَّ أَعظَمَ ما يُعرضُ في مِيزانَ الآخرةِ غداً.. إنما هو حَصَائِدُ الألسنةِ، وثمراتُ الكلام، فسيكونُ للسانِه حَافِظاً، وَلَهُ مُراعياً ومراقباً.. يحجزه عَن الخَوْضِ فِيما لا ينفع، ويُطلِقُه في كُلِّ ما يرفعُ ويَنْفَع..
اللهم اجعل أعمالنا وكلامنا شاهداً لنا لا علينا، واجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.