اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن
عبد الله بن علي الطريف
اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن 1447/1/9هـ
الحمدُ للهِ على نعمائِه.. والشكرُ له على توفيقِه وعطائِه.. وأشهدُ ألا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له المتفردُ بكبريائِه.. وأشهد أن محمداً عبدُ الله، ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]
أَمَا بَعْدُ أيها الإخوة: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: كُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ-، فَكُنْتُ أَسْمَعُهُ كَثِيرًا يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ، وَالعَجْزِ وَالكَسَلِ، وَالبُخْلِ وَالجُبْنِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ» رواه البخاري.. هذا ما حدَّثَ بِهِ خادمُ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- وهو مِنْ أقربِ الناسِ إليه، لمرافقتِهِ إياه بمعظمِ أحوالِهِ، ووصفَ أنسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- استعاذةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ- من هذه الآفات بأنها كثيرة.. والملاحظ أن كلَ آفتين منها قرينتان: فَالهَمُّ وَالحَزَنُ قرينان، وهما الألمُ الواردُ على القلبِ، فإن كانَ على فواتِ ما مضَى أَثَّرَ الحَزَن، وإن كان مصدرُهُ خوفَ الآتي أثَّرَ الهمَّ.. وَالعَجْزُ وَالكَسَلُ قرينان، فإِنَّ تَخَلُّفَ مصلحةِ العبدِ وبُعْدَها عنه إن كان من عدمِ القدرةِ فهو عجزٌ، وإن كان من عدمِ الإرادةِ فهو كسل.. وَالبُخْلُ وَالجُبْنُ قرينان، فإن الإحسانَ يُفْرِحُ القلبَ ويشرحُ الصدرَ ويجلبُ النِعمَ ويدفعُ النقمَ، وتركُه يُوجبُ الضَّيمَ والضيقَ ويمنعُ وصولَ النعمِ إليه، فالجبنُ تركُ الإحسانِ بالبدنِ، والبخلُ تركُ الإحسانِ بالمالِ، وَغَلَبَةُ الدَّيْنِ، وَقَهْرُ الرِّجَالِ قرينان، فإنَّ القهر والغلبة الحاصلة للعبد إمَّا بحقٍّ، وإمَّا بباطل., فضِلعُ الدين غلبةٌ سببُها من الدين، وهي غلبة بحقٍّ.. وغلبةُ الرجال قهرٌ بباطل من غيره.
أيها الإخوة: والحَزنُ: انخلاعٌ عن السرور، وملازمةُ الكآبة لتأَسفٍ على فائتٍ، أو توجعٍ لممتنعٍ. وهو من منازل العوامِ لأن فيه نسيانُ مِنَّةِ الله تعالى، والبقاءُ في رِقِ الطَّبعِ..
والحزن: من عوارض الطريق إلى الله، وليس من مقامات الإيمان.. ولهذا لم يأْمرْ اللهُ به في موضعٍ من كتابِه قط.. ولا أَثنى عليه.. ولا رَتبَ عليه جَزاءً ولا ثَوابًا، بل نهى عنه تعالى في مواضعَ من كتابِهِ كقوله: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139]، وقال تعالى: (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) [النحل:127] ، وقال تعالى: (فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 26]، وقال: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا) [التوبة:40]، فالحَزَنُ: هو بليةٌ من البلايَا التي نسأَلُ اللهَ دفعَها وكشفَها، ولهذا يقولُ أهلُ الجنةِ: (الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن) [فاطر:34]، فَحَمِدُوه على أنْ أَذْهَبَ عنهم تلك البليةَ ونَجَّاهم منها.
أيها الإخوة: والحَزَنُ: مرضٌ من أمراضِ القلبِ يمنعُه من نهوضِهِ وسيرِهِ وتشميرِهِ، والثوابُ عليه ثوابُ المصائبِ التي يُبتلى العبدُ بها بغيرِ اختيارِه، كالمرضِ والألمِ ونحوهما، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ، وَلَا نَصَبٍ، وَلَا سَقَمٍ، وَلَا حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ، إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» رواه مسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.. عليه فالحَزَنَ مِنْ الْمَصَائِبِ.. والْمَصَائِبُ لَا تَسْتَقِلُّ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، وَلَا تَغْفِرُ الذُّنُوبُ جَمِيعُهَا.. وما دامَ أَنَّ الحَزَنَ مِنْ الْمَصَائِبِ وهو مُكفرٌ للذنوبِ فلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَقَامٌ يَنْبَغِي طَلَبُهُ وَاسْتِيطَانُهُ.
وليس الحزنُ عبادةً مأْمورًا بتحصِيلِها وطلَبِها، ففرقٌ بين ما يُثابُ عليه العبدُ من المأمورات، وما يثابُ عليه من البليات.
أيها الإخوة: وإذا ورد المكروُهُ على النفس، فإن كانت النفسُ صغيرةً اشتغلت بالتفكير في المكروه وكيف حصل لها، وهذا التفكير يورثها الحزن لحصول هذا المكروه، وهذا لا يجدي شيئًا..
لكن إذا كانت النفسُ كبيرةً شريفةً لم تفكر في المكروه، بل تفكر في الطريقِ إلى المخرج منه إنْ عَلِمَتْ له مخرجًا، وفي الأسبابِ التي تَدْفَعُ بها المكروَهَ؛ لأنه هو الذي ينفعُها.. وإِنْ عَلِمَتْ أنَّه لا مخرجَ منه، فكرت في عبودِيِّةِ الله فيما أصابَها من مكروه.. من الصبر والاحتساب والأجر المترتب على ذلك، وكان عِوضًا لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلًا.
أيها الإخوة: وللحَزنِ مضارٌ كثيرةٌ على النفسِ والدينِ والبدنِ، منها: أَنَّ الحزنَ إذا صاحبه سخط على المصائب أحبط ثوابها.. وفيه إهلاكٌ للنفسِ بدون جدوى.. والركون إليه قرينُ الهوان والضعف..
وعلى المسلم الحقّ ألّا يركنَ لذلك، لأن الحزين يستكين للحَزَنِ ولا يَفْطَنُ إلى أهمِ تعاليمِ الدين مثل الصبرِ والرضا بما كتب الله، فعدمهما مضرٌ بالعقيدة وخادشٌ لها.. وقد ذكر علماء الطب أن للحزن تأثيرًا على صحة الجسم: منه أنه يسببُ الصداع، وألمَ المفاصلِ والعضلاتِ، ويورثُ الأرقَ وقلةَ النوم، وقلةَ الشهيةِ ويخفضُ المناعة، وقد يسببُ الإصابةَ بأمراضٍ مزمنةٍ كالسكري وضغطِ الدمِ، وأمراضِ القلبِ وغيرِها.. اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ وَالحَزَنِ.. اللهم أزل حَزَنَ المحزون من المسلمين وفرج همومهم، واجعلنا شاكرين لنعمك صابرين على قضائك وقدرك.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، أَعْطَى فَأَجْزَلْ، وَمَنَحَ فَتَفَضَّل، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ، وسَلَّمَ تَسْلِيماً كثيراً.. أَمَّا بَعْدُ أيها الإخوة: اتَّقُوا اللَّهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، واعلموا أنَّ من أكبر الْمُعينات على إذهابِ الهَمِ والحزن.. التَفَكُرُ في نعم الله التي أنعم بها عليك: يقول الشيخ السعدي رحمه الله: "وكلما طال تأمل العبد في نعم الله الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، رأى ربَّه قد أعطاه خيرًا كثيرًا، ودفعَ عنه شرورًا متعددة، ولا شك أن هذا يدفعُ الهمومَ والغمومَ، ويوجبُ الفرحَ والسرورَ".. أهـ. ولو تأمل الإنسانُ نعم الله عليه لوجدها تغمره من أعلى رأسه حتى أَخْمُصَ قدميه.. برهانُ ذلك قول ربنا: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20] أي: عمَّتكم وغمرتكم نِعمُهُ الظاهرةُ والباطنةُ التي نعلمُ بها، والتي لا تخفى علينا من نعم الدنيا، ونعم الدين، وحصولُ المنافعِ، ودفعُ المضارِ.. نِعَمٌ كثيرة وآلاءٌ وفيرةٌ لا تعدُ ولا تحصى، يقولُ اللهُ تعالى بعدما ذكر جملة من نعمِهِ: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:18] ومِنْ أَعْظَمِ ما يعينُ على طردِ الهمِ والغمِ والحزنِ ما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله قال: "الدُّعَاءُ.. وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْعِبَادَاتِ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى أَسْبَابًا لِحُصُولِ الْخَيْرِ وَدَفْعِ الشَّرِّ إذَا فَعَلَهَا الْعَبْدُ ابْتِدَاءً"
ومما يعين على طرد الهم والحزن الابتعاد عن رؤية ما عند الناس من زينة الدنيا وزخرفها؛ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "لا تتبع بصرك كل ما ترى في الناس؛ فإنه من يُتبع بصره كل ما يرى في الناس يَطُلْ حَزَنَه، ولا يُشْفَ غيظه"..
ومما يعين على طرد الهم والحزن الإقبال على الله عز وجل؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "رأيت سبب الهموم والغموم الإعراضَ عن الله عز وجل، والإقبال على الدنيا".. "وكثرة الحرص والطمع تورث كثرة الغم والجزع" قاله إبراهيم بن أدهم رحمه الله.
وبعد أيها الإخوة: يستحب للإنسان إذا رأى صاحبه ومن له حق عليه واجمًا أن يسألَه عن سببِ حَزَنِه ووجومِه، ثم يُساعدَه فيما يمكنُ، أو يذكِّرَه بطريقٍ يزولُ به ذلك العارض.. ويؤنسُه ويبشرُه ويذْكُرُ له أسبابَ السلامةِ، وذكر أهلُ العلمِ أنه يُستحبُ له أن يُحدثَهُ بما يضحكُهُ، أو يُشغلِه، أو بما يطيبُ نفسه.. قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: "لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي، وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ لاَ يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «تَبْكِينَ أَوْ لاَ تَبْكِينَ مَا زَالَتِ المَلاَئِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ» رواه البخاري واللفظ له ومسلم. وهذا عنوان فضله، وما أعد الله تعالى له عنده من الكرامة، وفيه تسليةٌ عظيمةٌ لآلِ جابرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-..
ومما يُسلَى به كلُ مصابٍ بحبيبٍ مسلمٍ من أهلٍ أو ولدٍ أو صديقٍ، ما ذكرَ شَيخُ الاسْلَام عَنْ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَحِمَهُمَا اللهُ: مَا ثَبَتَ أَنَ أَروَاحَ الْمُؤمِنِين وَالشُّهَدَاءَ وَغَيْرَهُمْ فِي الْجَنَّة، واستدلَ بقَولِ الرَسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ: «نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ إِذَا مَاتَ طَائِرٌ يَعْلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ [أي تأكل] حَتَّى يَرْجِعَهُ اللهُ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» رواه ابن ماجة والنسائي وصححه الألباني، ورواه مالك في الموطأ والطبراني بالكبير واللفظ له عَنْ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
اللهم فرج همومنا وارزقنا الاحتساب بالقول والعمل....
أحبتي: من لم يتيسر له صيام اليوم فليحرص على صيام غدٍ عاشوراء وهو يكفر السنة الماضية، وإن أتبعَه ببعد غدٍ الحادي عشر كان أفضل..