المحكم والمتشابه

سليمان بن خالد الحربي
1446/10/23 - 2025/04/21 21:30PM

 

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فاتَّقُوا اللهَ، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلمونَ} [آل عمران:102].

معشرَ المصلين: لقد أخبر الله -جل وعلا- أن هذا القرآنَ وهذا الوحيَ فيه أمورٌ مُحكماتٌ واضحاتٌ بيناتٌ، يفهمها الناس ويعقلها القارئون، وفيه ما هو من المتشابه الذي لا يعلمه إلا أهلُ العلم وأهل الذِّكر، وكم صارت هذه المتشابهاتُ فتنةً لبعض الناس في الانتكاسة عن الدين، بل ووصل ببعضهم إلى الإلحاد -عياذًا بالله- وقد أخبرنا الله بهذا بأوضح بيان وأصدقه وأجمله، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلم تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلم يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7].

 فبين الله -جل وعلا- أنَّ في الوحي المحكمَ والمتشابهَ، ولكنه وصف المحكمات بأنها أُمُّ الكتاب، ليتبادرَ إلى الذهن مباشرةً أنَّ المتشابه يُرَدُّ إلى أصله وهو المحكم، فهو أم الكتاب، وأم الشيء مرجعه وأصله، كما قال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].

 تأملوا في انقسام الناس مع هذه المتشابهات إلى قسمين:

قسم يتبعون المتشابه وهو تفكيرُهم وهِجِّيرَاهُم، بل ويضعونه أمام الناس فيقولون كيف كذا ولم كذا؟ وهؤلاء وصفهم الله في الآية: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران:7]؛ أي مَيْلٌ عَنِ الحقِّ، وهم يفعلون ذلك ابتغاءَ الفتنةِ في أنفسهم وابتغاءَها على غيرهم، فهم يصدون عن سبيل الله، ويميلون عن الاستقامة، ففسدت مقاصدُهم، وصار قصدُهم الغيَّ والضلالَ، وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد، فيتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى المتشابه، فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الاشتباه الواقع فيه، وإلا فالمحكم الصريح ليس محلا للفتنة، لوضوح الحق فيه لمن قصده اتباعه.

 والقسم الآخر وهم الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]، فهو لا يتناقضُ ولا يتخالفُ، فنَردُّ المتشابه إلى المحكمِ، فيكون جميعُه محكمًا.

 وتأمل شيئًا آخر، وهو بمَ ختَم الله هذه الآية العظيمة؟ فقال: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، ما يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا أُولُو الْأَلْبَابِ؛ أهل العقول الرزينة، وهم لبُّ العالم وخلاصة بني آدم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القُشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة.

 ثم اعجب من الآية التي بعدها مباشرة، قال الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8]، هذا دعاءُ الراسخين في العلم، وليس المتذبذبين في دينهم، يقولون: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8]، أي: لا تُمِلْهَا عن الحق جهلًا وعنادًا منَّا، بل اجعلنا مستقيمين هادين مهتدين، فثبتنا على هدايتك وعافنا مما ابتليتَ به الزائغين، {وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].

 وهذه إشارةٌ واضحةٌ إلى أن أعظم أسباب الانتكاسات والإلحاد هو الدوران حول الأحكامِ والأمورِ المتشابهة مع ثبوتها في القرآن والسنة، ولهذا كم هم المنتكسون الذين يُدَنْدِنُونَ حول بعض أحكام الشريعة، والتي أجمع عليها العلماء، وهي في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، حتى وصل بهم الحال إلى أن يناقشوا في حكم العلاقات المحرمة بين الرجل والمرأة، كلهم كانت بدايتهم الفكرة الشيطانية، وهي الاعتراض وعدم التسليم والقبول، حتى بدأ هذا المارد يكبر ويكبر، حتى أصبح عملاقًا لا يردعه إيمان ولا خوف من الله تعالى؛ لأنه ترك أصلًا عظيمًا وهو التسليمُ لحكم الله.

 وقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، قال الإمام الطحاوي -رحمه الله تعالى- في عقيدته: (ولا تَثْبُتُ قَدَمُ الإسلامِ إلا على ظهر التسليم والاستسلام)([1]).

 وقال الإمام ابن أبي العز الحنفي: (ولهذا كان سلف هذه الأمة التي هي أَكْمَلُ الأمم عقولًا ومعارفَ وعلومًا لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا؟ ولم نهى عن كذا؟ ولم قَدَّرَ كذا؟ ولم فعل كذا؟ لعلمهم أن ذلك مضادٌّ للإيمان والاستسلام، وأنَّ قَدَمَ الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم)([2]).

 وروى ابن جرير الطبري عن التابعي الجليل المفسر ابن زيد -رحمه الله-: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ الْبَلَاءَ وَالضَّلالَةَ يقولُ: ما شَأْنُ هذا لا يكونُ هكذا، وما شَأْنَ هذا لا يكونُ هكذا؟)([3])

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَا كَانَ لمؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

معاشرَ الإخوةِ: لقد وصف الله حالَ الذين يتبعون المتشابه وصفًا بديعًا، وكيف يعمل الشيطانُ على هذه الطبيعة الإنسانية وهذه النفس المتسائلة، وكيف يستغلها إبليس الطَّرِيدُ، وصف الله هذا المشهد بأجملِ بيانٍ وأروعِ مقالٍ، فقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} [الحج:52] -أي قرأ، وهذا هو الوحي المنزل-: {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالمينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلم الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلم أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:52 - 54].

 فانظرْ إلى عمل الشيطان ومحاولته لزرعِ الشك والفتنةِ في قلوب المرضى ومن قست قلوبهم، وأما الذين أُوتوا العلم فهو سببٌ لإخْبَاتِ قلوبهم وزيادة إيمانهم، إذا هو ابتلاءٌ وامتحانٌ، وهذا هو أعظم سببٍ لوجود المحكم والمتشابه في القرآن من أجل الاختبار والتمييز، ممن يقول: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، ومن يكون سببًا لانتكاسته وإلحاده.

 وقد بيَّن الله -سبحانه- في عدة مواضِعَ من كتابه أنه ينزل بعضًا من القرآن؛ اختبارًا وفتنةً للناس، وتمييزًا للمؤمن الصادق من المنافق المرتاب، ومن ذلك قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلمؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالمينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقوله -جل جلاله-: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُون} [التوبة:124، 125].

وقال ابن القيم عند قول الله تعالى في الآية السابقة: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} [الحج:53]، (قوله: {لِيَجْعَلَ}، اللامُ هي لام التعليل، وهذا الاختبار والامتحان مُظهِرٌ لما في القلوب الثلاثة، فالقاسيةُ والمريضةُ ظهر خبؤُها من الشك والكفر، والقلوبُ المخْبِتةُ ظهر خبؤُها من الإيمان والهدى وزيادة محبَّته وزيادة بُغْض الكفر والشرك والنُّفرة عنه، وهذا من أعظم حِكم هذا الإلقاء)([4]).

 وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من الذين يتتبعون المتشابه، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «فَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ»([5]).

 قال النووي -رحمه الله-: (وَفِي هَذَا الْحَدِيث التَّحْذِيرُ مِنْ مُخَالَطَةِ أَهْل الزَّيْغ، وَأَهْل الْبِدَع، وَمَنْ يَتَّبِع المشْكِلَات لِلْفِتْنَةِ. فَأَمَّا مَنْ سَأَلَ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا لِلِاسْتِرْشَادِ، وَتَلَطَّفَ فِي ذَلِكَ، فَلَا بَأْس عَلَيْهِ، وَجَوَابه وَاجِب. وَأَمَّا الْأَوَّل فَلَا يُجَابُ، بَلْ يُزْجَر، وَيُعَزَّر)([6]).

ونحنُ عبادَ الله في زمن الانفتاحِ واختلاطِ الشعوب، وأجهزة التواصل الاجتماعي، أصبح المتشابهُ والاعتراض على بعض أحكام الشريعة، هو حديثَ الناس، فعليكَ نفسَكَ، وحافظ على تَدَيُّنِكَ وصلاحكَ ومعتقدكَ، وإياكَ والعُجْبَ بالنفس؛ فهي القاصِمةُ، فإن الله يبتلي عباده في تسليمهم لأوامره ونواهيه.

 



([1]) الطحاوية (1/43).
([2]) شرح العقيدة الطحاوية (1/341).
([3]) تفسير الطبري (6/179).
([4]) شفاء العليل (1/193).
([5]) أخرجه البخاري ( 4/1655، رقم 4273)، ومسلم ( 4/2053، رقم 2665).
([6]) المنهاج شرح صحيح مسلم (16/218).

المشاهدات 158 | التعليقات 0