المخلفون الصادقون 6/7/1447

أحمد عبدالعزيز الشاوي
1447/07/04 - 2025/12/24 23:39PM

الحمد لله الذي يجزي المتصدقين ويحب الصادقين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يغفر الذنب ويقبل توبة التائبين ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله علم وربى وهدى وجعله الله رحمة للعالمين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على دربه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فاتقوا الله يا مسلمون ، وكونوا مع الصادقين ، فمن صدق الله صدقه الله

إن في الكتب لخبرا، وإن في السير لعبرا، قصةٌ من قصص المصطفى صلى الله عليه وسلم ، موقف صدق من مواقف الصحب البررة. قلم الكاتب ولسان الخطيب مهما أوتيا من براعة أو حاولا من بلاغة عاجزان عن وصف تلك الحادثة في محنتها وابتلاءاتها، في صدق رجالها، وإيمان أصحابها. فيها ابتلاء هجر الأقربين، وبلاء تزلف المناوئين. قصةٌ كلها عبرٌ وعبرات.. مواقف الصدق والصبر في صحب محمد صلى الله عليه وسلم مثال المتانة، وأنموذج الصدق في اللهجة، والإخلاص في الطاعة، والقدوة في الصبر على البلاء، والشكر على السراء. إنها قصة الثلاثة الذين خلِّفوا في غزوة تبوك حين ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم. آياتٌ وأحداثٌ تذرف منها الدموع، وتخشع لها القلوب.

قصة تعلمك أنه قد يَتَعَثَّرُ القَوِيُّ ، ويُخْطِئُ المُجْتَهِدُ ، ويُذْنِبُ الصَّالِحُ ، ويَقَعُ في المَعْصِيَةِ صَاحِبُ القَدْرِ الرَّفِيْع ؛ وكُلُّ بَنِيْ آدَمَ خَطَّاءٌ .

قصة رواها كَعْبٌ رَضْي اللهُ عَنْهُ يحكي تَخَلُّفِهِم ، في حَدِيْثٍ طَوِيْلٍ ، مَلِيءٍ بالعِظَاتِ وَالدُّرُوسِ والعِبَر ، ولا يَتَّسِعُ المقام لاسْتِعْرَاضِ الحَدِيْثِ بِتمامِهِ ، ولكِنَّها إِشاراتٌ يَهْتَدِيْ بِها اللبِيْبُ ، وكَمْ نَفَعَتْ عِباراتٌ من قَلْبَ واعٍ .

وكَانَ مِن نَبَئِهِم أَنَّهُم تَخَلَّفُوا عَنْ الخُرُوجِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلى غَزْوَةِ تَبُوكٍ ، فَكانُوا بِتَخَلُّفِهِم آثِمِين ؛ ولَمْ يَكُنْ تَخَلُّفُ كَعْبٍ وصَاحِبَيْهِ عَنْ هذهِ الغَزْوةِ لِنِفَاقٍ في قُلُوبِهِم ، كَما هُو حالُ المُنافِقِيْن الذِيْن فَرِحُوا. بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) وإِنَّما كَانَ تَخَلُّفُهُم بِسَببِ تَفْرِيْطٍ وتَباطُؤ وتَسْوِيفٍ وكَسَل ، فلما سار الجيش إلى تبوك ، قالوا : نلحق بهم ، فما زالوا يؤخرون حتى وصل الجيشُ إلى تبوك ؛ وكَمْ أَضاعَ التكاسِلُ عَنْ الطَاعَةِ مِنْ فُرَصٍ ، وكَمْ فَاتَ بِسَبَبِ التَّسْوِيْفِ مِنْ حَسَنَات .

لقد علم كعب وصاحباه رضي الله عنهم ـ مما تربوا عليه من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطورة الكذب، فعزموا على سلوك طريق الصراحة والصدق، وإن عرّضهم ذلك للتعب والبلاء، ومن ثم قال كعب ـ رضي الله عنه ـ : فلما قيل : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أظلَّ قادماً زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبداً بشيء فيه كذب، فأجمعت صدقه.. ومن ثم كان ذلك سبباً في قبول الله توبتهم، وما أجمل قول الله تعالى في ختم توبته على كعب ومن معه بقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ 

لَقَدْ كَانَوا صادِقين مَعَ أنفسهم ، صادقين للهِ ولِرَسُولِهِ ؛ ومَنْ كَانَ الصِدْقٍ قرينه، كَانَ حَلِيْفَه التَوْفِيْقٍ ، وأَوَّلُ أَماراتِ الصَّادِقِيْنَ في طَلَبِ التَوْبَةِ ، الاعْتِرافُ بالذَّنْبِ والإِقْرارُ بِه ؛ فَما حَمَلَ بعض الناس على الإِصْرارِ على الذُّنُوبِ ، إِلا مُخادَعتُِهِم لأَنْفُسِهِم ، وتَبْرِيْرُهِم لِأَفْعالِهِم ، حَتَى ارْتَحَلَتْ وَحْشَةُ الذَّنْبِ مِن القَلْبِ ، وزالتِ النُّفْرَةُ مِنْه .

ثم تبدأ مرحلة الابتلاء ويصدر نبي الأمة قرارا لايقبل التردد بمقاطعة هؤلاء وهجرهم ، يصفه كعب بقوله : ونَهَى رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المُسْلِمِينَ عن كلامنا أيُّها الثلاثة.. فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ ، وتَغَيَّرُوا لَنَا حتَّى تَنَكَّرَتْ في نَفْسِي الأرْضُ ، فَما هي الَّتي أعْرِفُ ، فَلَبِثْنَا علَى ذلكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً ، فأمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وقَعَدَا في بُيُوتِهِما يَبْكِيَانِ ، وأَمَّا أنَا ، فَكُنْتُ أشَبَّ القَوْمِ وأَجْلَدَهُمْ ، فَكُنْتُ أخْرُجُ فأشْهَدُ الصلاة مع المُسْلِمِينَ ، وأَطُوفُ في الأسْوَاقِ لايُكَلِّمُنِي أحَدٌ ، وآتِيْ رَسُوْلَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَأُسَلِّمُ عليه وهو في مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصلاة ، فأقُولُ في نَفْسِي : هلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ برَدِّ السلام عَلَيَّ أمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ ، فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ ، فَإِذَا أقْبَلْتُ علَى صلاتي أقْبَلَ إلَيَّ ، وإذَا التَفَتُّ نَحْوَهُ أعْرَضَ عَنِّي ، حتَّى إذَا طَالَ عَلَيَّ ذلكَ مِن جَفْوَةِ النَّاسِ ، مَشَيتُ حتَّى تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ ، وهُوَ ابنُ عَمِّي وأَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ ، فَسَلَّمْتُ عليه ، فَوَاللَّهِ ما رَدَّ عَلَيَّ السلام .

قالَ كَعْبٌ : حتَّى إذَا مَضَتْ أرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الخَمْسِينَ ، إِذا رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأْتِينِي ، فَقَالَ : إنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأْمُرُكَ أنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ ، فَقُلتُ : أُطَلِّقُهَا أمْ مَاذَا أفْعَلُ؟ قَالَ : لا ، بَلِ اعْتَزِلْهَا ولاتَقْرَبْهَا

إِنَّها صُوَرٌ مِنْ الابْتِلاءِ عَصِيْبَةٌ ، هَجْرٌ ومُقاطَعَةٌ واعْتِزالٌ ، أَجْمَع عَلِيْها أَهْلُ المَدِيْنَةِ ، التَزَمَ القَيامَ بِها القَرِيْبُ قَبْلَ البَعِيْدِ ، واسْتَجابَ لَها زَوْجَةٌ وأَهْلٌ وولد ؛ خَمْسُونَ لَيْلَةً لا تَسَلْ عَنْ آلامِها ، كُلُّ لَيْلَةٍ أَحْلَكُ في ظَلامِها مِنْ سالِفَتِها .

لقد علمتنا قصة الثلاثة مشروعية الهجر بسبب شرعي، فهو هجر تربوي له منافعه وأهدافه في تربية الفرد والمجتمع المسلم على الاستقامة، ومنع أفراده وتحذيرهم من التورط في المخالفات، إما بترك شيء من الواجبات، أو فعل شيء من المحرمات، ، مع الأخذ في الاعتبار بأن تطبيق هذا الهجر يجب أن يتم بحكمة وأمن من الفتنة
وهذا الهجر يختلف عن الَّذي يكون بين المسلمين على أمور الدنيا، فهذا دنيويٌّ، وذاك دينيٌّ ولايحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام

وعلمتنا القصة أن المعلم والمربي والقائد يراعي في الهجر نفسيات الناس ومدى تحملهم وقوة إيمانهم فقد هجر صلى الله عليه وسلم الثلاثة ولم يهجر حاطبا رغم أنه أشد إثما وأعظم خطيئة

ويتواصل مسلسل الابتلاء ويصل ذروته حينما يستغل الأعداء تلك الأحداث لكي يمزق الجبهة الداخلية ويشعل نار الفتنة بين المسلمين، ليوهن بنيان الدولة المسلمة ويروي الحدث كعب قائلا : فَبيْنَا أنَا أمْشِي بسُوقِ المَدِينَةِ ، إذَا نَبَطِيٌّ مِن أنْبَاطِ أهْلِ الشَّامِ ، مِمَّنْ قَدِمَ بالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بالمَدِينَةِ ، يقولُ : مَن يَدُلُّ علَى كَعْبِ بنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ له ، حتَّى إذَا جَاءَنِي دَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا مِن مَلِكِ غَسَّانَ ، فَإِذَا فِيهِ : أمَّا بَعْدُ ؛ فإنَّه قدْ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ قدْ جَفَاكَ ، ولَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بدَارِ هَوَانٍ ولامَضْيَعَةٍ ، فَالْحَقْ بنَا نُوَاسِكَ ، قَالَ : فَقُلتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا : وهذا أَيْضاً مِنَ البلاء ، فَتَيَمَّمْتُ بهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بهَا ).

هذا هو ديدن أعداء الله في الغابر والحاضر، يتحسسون الأنباء، ويترصدون المداخل. وكم من أقدام في مثل هذا قد زلَّت، وكم من رجالٍ في مثل هذه الأوحال قد انزلقت. أما كعب فيمَّم بها التنور وسجره وأحرقها

أحرقها ليعطينا درسا في الثبات على هذا الدين والاعتزاز به والولاء له حتى مع شدة الابتلاء وعظم القطيعة والجفاء

لتعلمنا معنى الاعتزاز بالدين والفخر به فياليت أولئك الذين يسارعون في أهل الكتاب يباركون لهم أعيادهم ويهنؤنهم على شركهم ويشاركون في احتفالات شعارها ( إن الله ثالث ثلاثة واتخذ الله ولدا ) سبحانه تقدس وتنزه ، ياليتهم يقتبسون شعلة من ضياء هذا الموقف الإيماني الرفيع

سجرها وأحرقها ليعلمنا أن أفضل طريقة للتخلص من الذنوب هو قطع مواردها والتخلص من مشجعاتها حتى تيأس النفس منها ولاتفكر أن تعود إليها

علمتنا قصة الثلاثة عظم أمر المعصية وخطورتها كما قال الحسن البصري: يا سبحان الله ما أكل هؤلاء الثلاثة مالاً حراماً ولا سفكوا دماً حراماً ولا افسدوا في الأرض أصابهم ما سمعتم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت فكيف بمن يواقع الفواحش والكبائر. ولاتنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة من عصيت .. أقول هذا القول ....

الخطبة الثانية .. أما بعد :

وبعد خمسين ليلة من الهجر والمقاطعة صورها كتاب الله بقول الله ( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إليه .. بعدها تنزل التوبة وتأتي البشرى، بشرى حسن العاقبة، بشرى العودة إلى صفِّ المسلمين، بشرى يركض بها الفارس، ويهتف بها الراكب، على مثلها تكون التهاني، ولمثلها تكون الخِلَعُ والجوائز.

يقول كعب: «فلما جاءني الذي سمعتُ صوتَه يبشرني نزعت له ثوبَيَّ فكسوتهما إياه ببشراه، والله ما أملك غيرهما، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً يهنئونني بالتوبة». فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مرَّ عليك مذ ولدتك أمُّك ، فقلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله عزَّ وجلَّ».

هؤلاء هم رجال الصدق، رجال محمد صلى الله عليه وسلم رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، خرجوا من مدرسة النبوة. صُدُقٌ في الحديث، وصُدُقٌ في الموقف، صُبُر عند اللقاء، واعترافٌ بالخطيئة، وقبولٌ في حال الرضا والغضب، من غير تنميق عباراتٍ؛ لأجل تلفيق اعتذارات.

لَقَدْ فازَ الثَلاثَةُ بِقَبُولِ التَوْبَةِ ، وأَدْرَكُوا ثَوابَ الصَّادِقِيْن ؛ وكَذَلك المُوَّفَقُ لا يُقِيْمُ على زَلل ، بل يُجاهِدُ النَّفْسَ في سَبِيْل مَرْضاةِ اللهِ ، يُجاهِدُ النَّفْسَ لِتَرْكَبَ رَكْبَ التَّائِبِيْن ؛ وأَعْقَبَ اللهُ الآيَةَ التِيْ ذَكَرَ فيها تَوْبَتَهُ عليهِم بِقوْلِهِ :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) صِدْقٌ في الأَقْوالِ ، وصِدْقٌ في المَقاصِدِ والفِعالِ ، وصدق في التوبة والإقبال :(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )

ولم تنته قصة كعب فتقف عند البشارة بالتوبة والتهنئة بالقبول. لقد جلس كعب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «يا رسول الله؛ إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك» فأمسك سهمه الذي بخيبر. وقال: يا رسول الله؛ إن الله تعالى إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أحدِّث أحداً إلا صدقاً ما بقيت. فو الله ما علمت أحداً من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمَّدت كذبةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله تعالى فيما بقي

تلك شذرات من فيض هذه القصة الأليمة والأحداث العصيبة تبث رسالة لنا تقول  اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ، رسالة تقول : إن التوبة الصادقة ليست كلمات تردد لكنها شعور صادق وقلب يخفق وثبات عند الشدائد ودموع تهطل وثقة بالله ولجوء إليه وشعور بمرارة الذنب وتحسر على الخطيئة وانطراح بين يدي أرحم الراحمين ، وحينما نتعامل مع ذنوبنا بهذا الشعور يرحم الرحيم ويغفر الغفار ويتوب الله على التائبين

اللهم صل وسلم ...

المرفقات

1766608779_المخلفون الصادقون.doc

المشاهدات 266 | التعليقات 0