النصيحة فضلها وآدابها
تركي المطيري
الْخُطْبَة الأُوْلَى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، فَإِنَّهَا وَصِيَّةُ اللهِ لِلأَوَّلِيْنَ والآخِرِيْنَ؛ ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾.
أَيُّهَا النَّاسُ: أَرْشَدَ اللَّهُ عِبَادَهُ إِلى الْحَقِّ وَيَـسَّـرَ لَهُمْ سُلُوكَهُ، وَأَمَرَ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ صُحْبَةٍ صَالِحَةٍ وَنَاصِحٍ، وَالْمُسْلِمُ إِنْ رَأَى فِي أَخِيهِ قُصُورًا أَوْ خَلَلًا وَجَبَ عَلَيْهِ إِصْلَاحُهُ؛ إِذِ النَّصِيحَةُ أَصْلُ الدِّينِ؛ كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: (الدِّيْنُ النَّصِيْحَةُ).
قَالَ أَبُو دَاوُدَ –رَحِمَهُ اللهُ–: "الْفِقْهُ يَدُورُ عَلَى خَمْسَةِ أَحَادِيثَ... وَذَكَرَ مِنْهَا: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ)".
وَالنَّصِيحَةُ مِنْ مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، قَالَ الإِمَامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ –رَحِمَهُ اللهُ–: "وَيَدِينُونَ –أَي أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ- بِالنَّصِيحَةِ لِلْأُمَّةِ". وَهِيَ دَأَبُ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، قَالَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِقَوْمِهِ: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ﴾، وَقَالَ صَالِحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ﴿يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ﴾. والنَّصِيْحَةُ هِيَ مِنْ عِبَادَاتِ الصَّالِحِينَ؛ فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِأَبِي مُوسَى–رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما–: "ذَكِّرْنَا رَبَّنَا، فَيَقْرَأُ عِنْدَهُ القُرْآنُ". وَاشْتَرَطَها النَّبِيُّ ﷺ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الصَّحَابَةِ؛ قَالَ جَرِيرٌ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ–: "بَايَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَاشْتَرَطَ عَلَيَّ النَّصْحَ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. والنَّصِيْحَةُ هِيَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ قَالَ –عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ–: (حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ:...) وَذَكَرَ مِنْهَا: (وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ).
وَمِنْ خِصَالِ الإِيمَانِ الْوَاجِبَةِ حُبُّ الْخَيْرِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْخَوْفُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ؛ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:(لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ).
قَالَ الذَّهَبِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ–: "مَنْ لَمْ يَنْصَحْ للهِ وَلِلْأُمَّةِ وَلِلْعَامَّةِ، كَانَ نَاقِصَ الدِّينِ".
والنَّصِيحَةُ تُصْلِحُ الْمُجْتَمَعَ، وَتَجْلِبُ لَهُ الأُلْفَةَ، وَتُبْعِدُ عَنْهُ الْغِيبَةَ، وَهِيَ مِنَ الأَعْمَالِ الدَّالَّةِ عَلَى صَفَاءِ السَّـرِيرَةِ، قَالَ الفُضَيْلُ –رَحِمَهُ اللهُ–:" لَمْ يُدْرِكْ عِنْدَنَا مَنْ أَدْرَكَ بِكَثْرَةِ صِيَامٍ وَلَا صَلَاةٍ، وَإِنَّمَا أَدْرَكَ عِنْدَنَا بِسَخَاءِ الْأَنْفُسِ، وَسَلَامَةِ الصُّدُورِ، وَالنُّصْحِ لِلْأُمَّةِ".
وَأَنْصَحُ النَّاسِ لَكَ مَنْ أَحَبَّكَ وخَافَ اللهَ فِيكَ، وَكَانَ السَّلَفُ يُحِبُّونَ مَنْ يُبَصِّـرُهُمْ بِعُيُوبِهِمْ.
وَلَا غِنَى لَنَا عَنِ التَّذْكِيرِ، فَإِنْ كَانَ الْمَنْصُوحُ ذَا خَيْرٍ عَمَّ خَيْرُهُ، فَقَدْ أَشَارَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما– بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، فَجَمَعَهُ فَانْتَفَعَتِ الْأُمَّةُ بِرَأْيِهِ، وَقَالَ رَجُلٌ فِي مَجْلِسٍ فِيهِ الإِمَامُ الْبُخَارِيُّ: "لَوْ جَمَعْتُمْ كِتَابًا مُخْتَصَـرًا لِسُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ"، قَالَ الْبُخَارِيُّ: "فَوَقَعَ ذلِكَ فِي قَلْبِي، فَأَخَذْتُ فِي جَمْعِ الصَّحِيحِ"، فَكَانَ غُرَّةً فِي جَبِينِ الزَّمَانِ، وَجَمَعَ الإِمَامُ مُسْلِمٌ صَحِيحَهُ بِطَلَبٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَسَارَ نَفْعُهُ فِي الآفَاقِ. وَالنَّصِيحَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ، فَيَنْصَحُ لِنَفْسِهِ بِطَاعَتِهِ لِرَبِّهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ مَعَاصِيهِ، وَلِكِتَابِ رَبِّهِ بِتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَفَهْمِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَلِرَسُولِهِ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَعَدَمِ الِابْتِدَاعِ فِي الشَّـرِيعَةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) قُلْنَا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ). وَمَنْ نَصَحَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُبْلِغَ غَايَةَ النُّصْحِ لِلْمَنْصُوحِ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى انْتِفَاعِهِ بِنَصِيحَتِهِ، وَأَنْ يَعْدِلَ فِي قَوْلِهِ وَلَفْظِهِ، وَالْحَيَاءُ لَا يَمْنَعُ مِنَ النَّصِيحَةِ، وَتَكُونُ بِأَحْسَنِ الْأَلْفَاظِ وَأَحْكَمِهَا؛ قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وَتَكُونُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ؛ كَمَا أَمَرَ -سُبْحَانَهُ- مُوْسَى-عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِيْ نُصْحِهِ لِفِرْعَوْنَ: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾، وَتَكُونُ فِي حَالِ سِرٍّ بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَنْ تَنْصَحُهُ؛ قَالَ ابْنُ رَجَبٍ –رَحِمَهُ اللَّهُ–: "كَانَ السَّلَفُ إِذَا أَرَادُوا نَصِيحَةَ أَحَدٍ نَصَحُوهُ سِرًّا"، وَإِنْ رُدَّ قَوْلَ النَّاصِحِ فَلَا يَحْزَنْ؛ فَقَدْ أَدَّى عِبَادَةً وَطَاعَةً هِيَ مِنْ أَصْلِ الدِّينِ، فَلْيَرْجُ قَبُولَهَا.بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِيْ وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيْهِ مِنْ اَلْآَيَاتِ وَاَلْذِّكْرِ اَلْحَكِيْمِ، أَقُوْلُ قَوْلِيْ هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اَلْلهَ اَلْعَظِيْمَ لِيْ وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوْهُ إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُوْرُ اَلْرَّحِيْمُ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وامْتِنَانِهِ، وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الدَّاعِي إلى جنته وَرِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ وملائكتُهُ والصَّالحونَ مِن خَلقِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَعْوَانِهِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتُّقُوا اَللَّهَ -عِبَادَ اَللَّهِ- حَقَّ التَّقْوَى، وَرَاقِبُوهُ فِي السِّرِّ وَالنَّجْوَى.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: قَبُولُ النَّصِيحَةِ دَلِيلُ الرَّشَدِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ فَضِيلَةٌ، وَرَاجِحُ الْعَقْلِ إِذَا وَقَعَ فِي الخَطَأِ ومَا يَشِيْنُهُ فَوُعِظَ وَزُجِرَ، انْتَهَى وَارْتَدَعَ. وَرَدُّ النَّصِيحَةِ وَالتَّعَالِي عَلَيْهَا وَاحْتِقَارُ النَّاصِحِ دَأْبُ السُّفَهَاءِ وَالْمُتَكَبِّرِينَ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ﴾، وَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ –عَلَيْهِ السَّلَامُ– لِقَوْمِهِ بَعْدَ هَلَاكِهِمْ: ﴿لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ–: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ أَخُوهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيَقُولَ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي". فَمَنْ عَرَفَ الْحَقَّ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إِلَى الْحَقِّ خَيْرٌ مِنَ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ. وَقَبُولُ الْحَقِّ لَا يَحُطُّ مِنْ رُتْبَةِ الْمَنْصُوحِ، وَلَا يُنْقُصُ مِنْ قَدْرِهِ، بَلْ يُوجِبُ ذَلِكَ لَهُ مِنْ جَلَالَةِ الْقَدْرِ، وَحُسْنِ الثَّنَاءِ، مَا لَا يَكُونُ فِي تَصْمِيمِهِ عَلَى الْبَاطِلِ؛ قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ –رَحِمَهُ اللَّهُ–: "مَا نَصَحْتُ أَحَدًا فَقَبِلَ مِنِّي إِلَّا هِبْتُهُ وَاعْتَقَدْتُ مُوَدَّتَهُ، وَلَا رَدَّ أَحَدٌ عَلَيَّ النُّصْحَ إِلَّا سَقَطَ مِنْ عَيْنِي، وَرَفَضْتُهُ". هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى إِمَامِ المُرْسَلِين، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِينَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ الطَّيِّبِينَ وَصَحَابَتِهِ الْغُرِّ الْمَيَامِينِ وَتَابِعِيَّهِمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسْلامَ وَالمُسلمينَ، وَاجْعَلْ هَذَا البلدَ آمِنَاً مُطْمَئنَاً وَسَائرَ بِلادِ المُسلمينَ.اللَّهُمَّ وفِّق خَادَمَ الحَرَمينَ الشَريفينَ، وَوليَ عَهدِهِ لمَا تُحبُ وترضى، يَا ذَا الجَلالِ والإكْرَامِ. اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلاَ تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ. اللَّهُمَّ سُقْيَا رَحْمَةٍ، لَا سُقْيَا عَذَابٍ، وَلَا بَلَاءٍ وَلَا هَدْمٍ وَلَا غَرَقٍ. عِبَادَ اللَّهِ: اذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكُرُوهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلَذِكْرُ اللهِ أكبرُ واللَّهُ يَعلَمُ ما تَصْنَعُوْنَ.