امْدَحُوا رَبَّكُمْ 27 شوال 1446
راشد بن عبد الرحمن البداح
الحَمْدُ الَّذِي خَلَقَ وَقَدِرَ وَقَدَّرَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إِلَّا اللهُ، شَهَادَةَ مَنْ أَبْصَرَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدَاً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ المشفَّعُ بِالمَحْشَرِ، صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ عَدَدَ قَطْرِ الْمَطَرِ. أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقَوْا رَبَّكُمْ؛ فَـ:(هُوَ أهْلُ التَّقْوَى وَأهْلِ الْمَغْفِرَةِ) أَهْلٌ أَنَّ يُتَّقَى، كَمَا هُوَ أَهْلٌ أَنْ يَغْفِرَ مَا مَضَى.
أيُّهَا المُسْلِمُونَ: لقَدْ مَدَحَ النَّاسُ النَّاسَ وَأَكْثَرُوا، لَكِنَّهُمْ لَمَّا مَدَحُوا رَبَّهُمْ أَقَصَرُوا وَمَا أَكَثَرُوا.
جَاءَ الصَّحَابِيُّ الشَّاعِرُ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي قَدْ حَمِدْتُ رَبِّي -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَحَامِدَ وَمِدَحٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا إِنَّ رَبَّكَ -تَعَالَى- يُحِبُّ الْمَدْحَ، هَاتِ مَا امْتَدَحْتَ بِهِ رَبَّكَ. رَوَاهُ أَحْمَدُ وَحَسَّنَهُ الأَلْبَانِيُّ([1]). وَفِيْ الصَّحِيْحَيْنِ: لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ([2]).
إِذَاً: فَلْنَمْدَحْ فِي سَاعَتِنَا اَلْمُعَظَّمَةِ رَبَّنَا اَلْجَلِيلَ اَلْعَظِيمَ: (لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولَى وَالْآخِرَةِ). لَهُ اَلْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَحْدَهُ، جَمِيعُ اَلْخَلْقِ تَحْتَ قَهْرِهِ وَقَبْضَتِهِ، يَخْلُقَ مَا يَشَاءُ وَيَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَالْخَلْقُ يُسْأَلُونَ. يُصَوِّرُهُمْ فِي اَلْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ، ويُمِيتُهُمْ وَيُحْيِيهِمْ، وَيُضْحِكُهُمْ وَيُبْكِيهِمْ، وَيُفْقِرُهُمْ وَيُغْنِيهِمْ.
سُبْحَانَ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْكَائِنَاتِ، وَاطَّلَعَ عَلَى النِّيَّاتِ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُوْرُ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ).
وسُبْحَانَ مَنْ أَتَتْهُ اَلسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ طَائِعَةً، وَتَطَامَنَتِ الْجِبَالُ لِعَظَمَتِهِ خَاشِعَةً، وَوَكَفَتِ اَلْعُيُونُ عِنْدَ ذِكْرِهِ دَامِعَةً.
اَلْأَرْضُ إِذَا انْقَضَى اَلدَّهْرُ يَرُجُّهَا رَجَّاً، وَيَدُكُّهَا دَكَّاً، وَيَنْسِفَ اَلْجِبَالَ نَسْفًا، وَبِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اَلصُّوْرِ يَفْزَعُ اَلْخَلْقُ، وَبِنَفْخَةٍ يُصْعَقُونَ، وَبِثَالِثَةٍ يَقُومُونَ.
هَلْ سَمِعْتَ بِعَظَمَةِ أَحَدِ مَلَائِكَةِ عَرْشِ اَلرَّحْمَنِ؟!
اسْمَعْ وَقُلْ: سُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا قَدَرْنَاكَ حَقَّ قَدْرِكَ:
قَالَ اَلصَّادِقُ اَلْمَصْدُوقُ -صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ اَلَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حَجَرٍ: أُذِنَ لِيَ أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَةِ اللَّهِ مِنْ حَمَلَةِ الْعَرْشِ؛ إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِئَةِ عَامٍ([3]). أَيْ: يَحْتَاجُ اَلطَّائِرُ اَلْمُسْرِعُ إِلَى سَبْعِ مِئَةِ عَامٍ كَيْ يَقْطَعَ هَذِهِ اَلْمَسَافَةَ.
رَبُّنَا قَوِيٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ، إِذَا أَرَادَ شَيْئاً قَالَ لَهُ: كُنْ، فَيَكُونُ.
قَلَبَ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، وَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا، وَرَفَعَ جَبَلاً فَوْقَ رُؤُوسِ بَنِيَ إِسْرَائِيلَ، كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ، وَتَجَلَّى-سُبْحَانَهُ- لِجَبَلٍ فَجَعَلَهُ دَكَّاً، وَلَمَّا رَأَى مُوسَى ذَلِكَ خَرَّ صَعِقَاً.
لَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تَسْقُطُ وَرَقَةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، يَسْمَعُ أَصْوَاتَ اَلْمَخْلُوقِينَ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ.
قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِيْ وَسِعَ سَمْعُهُ الأَصْواتَ، لَقَدْ جَاءَتْ المُجَادِلَةُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُكَلِّمُهُ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ البَيْتِ مَا أَسْمَعُ مَا تَقُوْلُ، فَأَنْزَلَ اللهُ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ)([4]).
وَإِذَا تَكَلَّمَ أَخَذَتِ السَّمَاوَاتِ مِنْهُ رَجْفَةٌ، وَصَعِقَ أهْلُ السَّمَاءِ.
دَخَلَ مُوسَى وَهَارُونُ عَلَى رَأْسِ الْكُفْرِ وَالطُّغْيَانِ، فَهَابَا وَخَافَا، فَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى).
الْتَجَأَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالصِّدِّيقُ إِلَى الْغَارِ، وَأَحَاطَ بِهِمَا الْكَفَّارُ، فَقَالَ أَبُو بِكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ قَدَمَهُ رَآنَا، فَقَالَ: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا؟!([5])
اجْتَمَعَتْ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ، وَتَفَاوَضَتَا فِي شَأْنِ الرَّسُولِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَتْ إحْدَاُهُمَا الْأُخْرَى بِسِرِّهِ، وَكَشَفَتْ شَيْئاً مِنْ أَمْرِهِ: (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ).
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لِلَّهِ يُعْطِيْنَا عَلَى مَعَاصِيْنَا، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى هَادِيْنَا، أَمَّا بَعْدُ:
فَيَا عَبْدَ اللَّهِ: إِذَا أَذْنَبْتَ فَتُبْ مَهْمَا بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ، فَإِنَّ اَللَّهَ اَلْعَظِيمَ لَا يَتَعَاظَمُهُ ذَنْبٌ أَنْ يَغْفِرَهُ.
مَنْ أَقْبَلَ إِلَيْهِ تَلَقَّاهُ مِنْ بَعِيْدٍ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ نَادَاهُ مِنْ قَرِيْبٍ، وَمَنْ تَرَكَ لِأَجْلِهِ أَعْطَاهُ فَوْقَ اَلْمَزِيْدِ، وَمَنْ أَرَادَ رِضَاهُ أَرَادَ مَا يُرِيْدُ، وَمَنْ تَصَرَّفَ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ أَلَانَ لَهُ اَلْحَدِيْدَ.
قَتَلَ شَخْصٌ مِئَةَ نَفْسٍ ثُمَّ تَابَ إِلَى اَللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَدَخَلَ اَلْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ رَبَّكَ يُحِبَّ اَلتَّوَّابِينَ. وَسَقَتْ زَانِيَةٌ كَلْباً، فَتَابَ اَللَّهُ عَلَيْهَا جُوْداً وَفَضْلاً.
فَلَا تَيْأَسْ وَلَا تَقْنَطْ، فَأَنْتَ تَتَعَامَلُ مَعَ مَنْ يَتُوبُ عَلَى اَلْمُنَافِقِينَ إِذَا تَابُوا، فَكَيْفَ وَأَنْتَ مُؤْمِنٌ بِهِ تُحِبُّهُ وَيُحِبُّكَ، نَعَمْ رَبُّكَ يُحِبُّكَ؛ لِأَنَّكَ تَتُوبُ وَإِنْ عَصَيْتَ.
فَسُبْحَانَكَ رَبَّنَا مَا أَعْظَمَكَ، وَعَلَى مَنْ عَصَاكَ مَا أَحْلَمَكَ، سُبْحَانَكَ مَا قَدَرْنَاكَ حَقَّ قَدْرِكَ. نُبَارِزُهُ بِالْعَظَائِمِ وَهُوَ يَكلَؤُنَا عَلَى فُرُشِنَا، يَخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْرُهُ، وَيَرْزُقُ وَيُشْكَرُ سِوَاهُ، خَيْرُهُ إِلَيْنَا نَازِلٌ، وَشَرُّنَا إِلَيْهِ صَاعِدٌ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْنَا بِنِعَمِهِ وَهُوَ اَلْغَنِيُّ عَنَّا، وَنَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالمَعَاصِيْ وَنَحْنُ أَفْقَرُ شَيْءٍ إِلَيْهِ. فَنَشْكُوْ إِلَيْهِ ذُنُوبَاً أَثْقَلَتْنَا، وَهُمُومَاً لَازَمَتْنَا، وَقُلُوبَاً قَلَّ خُشُوعُهَا، وَعُيُونَاً جَفَّتْ دُمُوعُهَا.
إِلَيْكَ وَإِلَّا لَا تُشَدُّ الرَّكَائِبُ ... وَمِنْكَ وَإِلَّا فَالمُؤَمِّلُ خَائِبُ
فيَا مَنْ أَظْهَرَ الْجَمِيلَ وَسَتَرَ الْقَبِيحَ، يَا وَاسِعَ الْمَغْفِرَةِ، يَا بَاسِطَ الْيَدَيْنِ بِالرَّحْمَةِ، يَا صَاحِبَ كُلِّ نَجْوَى، وَيَا مُنْتَهَى كُلِّ شَكْوَى، يَا كَرِيمَ الصَّفْحِ، يَا عَظِيمَ الْمَنِّ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا، وَارْحَمْنَا، واجْبُرْنَا وَعَافِنَا، وَارْزُقْنَا.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَومِ الظَّالِمِينَ، وَأَصْلِحْ أَحْوَالَنا وَأَحْوَالَ المُسْلِمِينَ.
اللهم وَاحْفَظْ عَلَيْنَا دِيْنَنَا، وَجُنُودَنَا وَحُدُوْدَنا، وَمُقَدَّسَاتِنَا وَحُرُمَاتِنَا.
اللهم وَبَارِكْ فِيْ عُمُرِ وليِّ أَمْرِنَا وَوَليِّ عَهْدِهِ، وَزِدْهُم عِزَّاً وَبَذْلاً لِنُصْرَةِ الإِسْلَامِ والمُسْلِمِيْنَ.
اللهم صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ.
([1]) مسند أحمد (15590)
([2]) صحيح البخاري (4358) ومسلم (2760)
([3]) سنن أبي داود (4727)
([4]) مسند أحمد (24195)
([5]) صحيح البخاري (4386) ومسلم (2381)
المرفقات
1745426179_��امدحوا ربكم�.docx
1745426179_��امدحوا ربكم�.pdf